}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (27)

دلال البزري دلال البزري 17 مارس 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (27)
الروائي اللبناني حسن داوود (Getty)
تعريف:

عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد، أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

العودة إلى بيروت (2009 ــ 2020)

... وهكذا كان: أنضم إلى "نوافذ"، وأعمل فيها ثماني سنوات، كانت مزيجًا من اليسر والعسر.
اليسر أولًا:
عندما باشرتُ الحضور إلى مكتب المجلة، كانت تجربتي الصحافية "الحضورية" الوحيدة المنتظمة هي تلك التي خضتها منذ سنوات مع مجلة "الحرية"، أو قلْ نقطة استدلال عندي. وهي عبارة عن الروتين الأسبوعي الثابت: توجيهات سياسية، اقتراحات، تكليفات، و"نقد" الأعداد السابقة.
مع حسن داوود رئيسًا للتحرير، هذا الروتين ليس واردًا. أقلق من هذا "اللانظام". كيف نعمل؟ بماذا نكلّف؟ هل من توجيهات؟ خصوصًا أن "المستقبل"، مثل "الحرية"، في أيامها، لها مواقف محددة، وتخوض معارك سياسية.
أسأل حسن عن كل هذا، فيجيبني بأن أترك الأمور تجري على طبيعتها، مع إشارة برأسه وابتسامة، لا تصلح لغيره، تود طمأنتي، معيدًا "المهمات" الملقاة على عاتقي:
ــ عليكِ بقراءة الصحافة الفرنسية، واختيار مقالين لترجمتهما، واختيار صور فوتوغرافية ورسوم كاريكاتور، وتكتبين مقالًا أسبوعيًا تختارين موضوعه، أيضًا... هذا كل شيء....
ــ حسنًا... تكليفات أدق، مشاورات...؟
ــ كله يأتي في وقته، لا تقلقي...
مع حسن، لا حاجة إلى "تأطير" العمل. هو يدير المجلة بنوع من النظام الرحِب، يعطي الحرية الكاملة باختيار المطلوب منك، ومن دون موعد اجتماع ثابت، أو طارئ. يعبّر عن رأيه بالصور والرسوم، بلغة مرحة، نصف فصيحة، يتكلم عن موضوع سياسي خطير بالمداعبة، يصحح أخطائي اللغوية بابتسامة ودية... فيكون التواجد في المكتب، أي في "الدوام الوظيفي"، مثل جلسة ابتهاج مستمرة، حتى لو كان حسن وصل إليه غاضبًا من أمر ما. يطلق غضبه بكلمتين فكاهيتين عن غريمه، حتى ينفّسه بنكتة اخترعها لتوه عن واقعته هذه، هي مزيج من الضحك على نفسه وعلى هذا الغريم.
في المكتب يوسف بزي، متوهج الذكاء، وفادي طفيلي الحالم المسافر، وكلاهما شاعران. والاثنان يألفان طريقة حسن بالعمل، وعلى درجة عالية من الانسجام معه. يفهمان، خصوصًا يوسف، ما لا يقوله حسن، أو ما يقوله خلف لطفه الغامر، وطريقته الأنيقة، خليط ضاحك من الألفة والغرابة.
تتحسَّن عربيتي: حسن يعطيني نص مقاله الأسبوعي. وأتروى أنا بقراءته، إنها فرصة أخرى مع العربية. وكل مرة أندهش من قدرته على البحث عن المعنى في تفاصيل لا يراها كل رائي. يصنع المعنى، ومعه الأسلوب الكفيل بلجم هاجس الموت الذي يشغل دواخله. وليس في مقالاته وحسب. إنما أيضًا برواياته، خصوصًا "أيام زائدة".
فرصة أخرى كانت: أن طلبتُ من حسن عدم إرسال مقالي الذي حرّره إلى الطبع، قبل أن أراجع أخطائي. مع صحيفة "الحياة"، كان الأمر مستحيلًا، كون رئيس تحرير ملحق "تيارات"، حازم صاغية، مقيمًا في لندن وأنا في القاهرة. أما الآن... فأطلب من حسن أن لا يرسل مقالي إلى الطبع قبل أن أعيد قراءته. فآخذ المقال بعدما صحّح حسن أخطاءه، أسجل التصحيحات، وبعد ذلك أرسله إلى الطبع، فأحفظ ما أستطيع أن أحفظه من أخطاء لغوية ارتكبتها.
في البداية، تعبت من الوتيرة هذه. كنت أستفيق باكرًا جدًا، لأكتب مقالي على الورقة، وأترجم المقالين المختارين من الصحافة الفرنسية، وأعود فأنقل هذا كله على اللابتوب، فأصل إلى المكتب في الثامنة صباحًا وأنا متعبة، قليلة التركيز، بعد تدخين كل هذه السجائر.
ــ ما القصة؟ يسألني حسن.




فأروي له صباحي...
ــ ولما تكتبين على الورق كل ذلك؟ لما لا تطبعين مباشرة على اللابتوب؟
ــ على اللاب توب مباشرة؟! لا يمكن... لا أعرف... لست معتادة... صعب... أن أدق على اللاب توب وأفكر في الوقت ذاته... بعد كل هذا العمر...! ألا يكفي أنني أكتب تصميم مقالي بالفرنسية، ثم أترجم أفكاري إلى العربية...
ــ أعلم أعلم... لكن بلى تستطيعين... جرّبي... والمؤكد أنك ستتمكّنين.
فكانت فاتحة عليّ. وعاد وقتي متوفرًا، وذهني أكثر صفاء. بفضلها، تمكّنتُ من الكتابة مباشرة على اللابتوب، والانتهاء من كتابي "مصر التي في خاطري" بأقل من ثلاثة أشهر. وقبل صدور الكتاب، استشرت حسن بالعنوان، فكان كريمًا، كما كان قبل عقدين، عندما اقترح عليّ عنوان كتابي عن نساء حزب الله "أخوات الظل واليقين". كل هذا يحصل وأنا مستمتعة بصحبته، يضحكني بدون أن يضحك، فأضحك أكثر...
أسمعه يتدفق حنانًا عندما يتكلم مع أولاده على الهاتف، فالأبواب بيننا وبينه ليست مغلقة. ولا أتردد كل مرة عن التعبير عن إعجابي بأبوّته.
ــ ما هذه العاطفة يا حسن...؟ ما هذه الرِقّة...! كأنك تحكي لهم قصة قبل النوم... تهدْهدهم... يا لحظهم من هذه الحياة...
يستحي حسن من الإطراء. ولكن عيناه تبتسمان، تلتمعان، والطفولة تنْضح من وجهه... ماذا ترى يجيب؟ إلا بالكلمات غير العادية التي يتْقنها.
أيضًا، في البداية: كانت السيدة بهية الحريري تدعوني إلى لقاءات مختلفة، ثقافية، نسائية، وأحيانًا سياسية. وفضولي دائمًا يقودني إلى تلبية هذه الدعوات. وإن كنت لا أجد فيها ما يضيف لي كثيرًا، غير وجوه الشخصيات المشاركة فيها، والمدعاة للكثير من النميمة.
ثلاث أو أربع دعوات ألبّيها. وبعدها، الأخيرة: كانت نسائية، بواحدة من المناسبات التي تحفل بها بيروت، عيد المرأة ربما، وفي فندق "فينيسيا"، في أفخر قاعاته. دخلت إلى أكبرها، فكان المشهد مذهلًا، لم أره إلا على التلفزيون: طاولات مستديرة متقاربة، ومنصة عالية، ونساء من أرقى المجتمعات المخملية، يغلب عليهن الشقار والمساحيق، والثياب الفاخرة. ومثلهن جليساتي على إحدى الطاولات، ولكل اسم كرسي محدّد. حاولت التعرف على أولئك النساء. فكانت رئيسة جمعية، أو زوجة وزير، أو نائب... والبرنامج غير معروف. ولكن من الواضح أن ثمة خطيبات سيعتلين المنبر، ويلقين الشعر بهذه المناسبة. قلت لنفسي بأنني أضيع وقتي هنا، وعليّ إيجاد طريقة للهروب من ثلاث ساعات كلام على المايكروفون، وتصفيق حاد، دائمًا. وجدت فرصتي بالاستئذان من الحاضرات. واتجهت صوب أبعد حمام عن القاعة، دخلت إليه وخرجت منه متوجهة إلى خارج، مثل الهاربين.
عادت بهية الحريري واتصلت بي يومًا، تريدني أن أكتب مقالًا عن مبادرتها في الحملة للانتخابات البلدية. وقد علمت شيئًا منها عبر الصحف. حيث كانت كل مرشحاتها من النساء. طلبت مني أن ألتقي بأولئك النساء، وأكتب عنهن. لم يكن ذلك ممكنا بالنسبة لي. فأنا لست في حزب "تيار المستقبل"، ولا أكتب تأييدًا له، أو دعاية، فوق أنني غير متحمسة لهذه الانتخابات. كان عليّ أن اخترع أي عذر، للتنصّل من هذه المهمة. ووجدته في صحتي، من أنني متوعّكة... فهمتْ بهية الحريري، ولم تعد تدعوني إلى أي من فعالياتها.
ولكن في يوم، وكنت نسيتُ كل هذه القصة. وكان تذمّر حسن داوود من حرمان المجلة من ملحق لها، مستقل عن الجريدة، كما كان في عزّها. كل مرة يطلع هذا الحرمان على السطح، عندما يتبين له بأن القدرات الكتابية للمجلة ستأخذ بعدًا آخر لو كان لها ثمة ملحق مستقل عن الجريدة.
ــ ماذا نفعل...؟! كيف نستطيع أن نقنعهم؟
ففكرت ببهية الحريري، واقترحت عليه أن نأخذ منها موعدًا ونزورها ونشرح لها معنى حاجتنا. وحسن يشكّ، يقول إنه كلمها مرات عدة، وكلّم غيرها أيضًا. وأنا أصرّ عليه:
ــ نحاول، لا نخْسر شيئًا...
فكان الموعد وكانت المقابلة. واستقبال بهية الحريري، التي تكاد تطردنا قبل أن نجلس.

ــ إجلس هناك... قالت لحسن بجفاء، هذا المقعد مخصص لي...
يبتلع حسن ريقه، ويعرض عليها موضوع الملحق وضرورته... لكن جفاءها يستمر. وحسن، الفائق الإحساس، يحاول الانتهاء من الجلسة، بعبارات الانصراف الوشيك. وعندما نخرج من مكتبها، يقول حسن، بأناقة لا تخلو من الدعابة:
ــ لو أنني أملك عضلات شمشون... كان علي أن أكسرها... بماذا تفتخر؟! ها؟ بماذا تفتخر...؟
وأنا بين غاضبة من هذه المقابلة المهينة وضاحكة على حالة حسن. لا أعرف أين أقف....
ولكن... دائمًا ثمة "لكن"... ثمة عسر أيضًا. لم تكن الأمور كلها مُرْضية.
في بداية انتقالي إلى العمل في المجلة، كانت فكرتي عن نفسي أعلى مما هي عند حسن داوود. بالغتُ في تقدير نفسي، وطلبت من حسن أن ينزل كلمة عن انتقالي إلى المجلة، كنوع من الترحيب والإشعار بأن المجلة صار لها كاتبة جديدة، كما هو دارج في بقية الصحف. استغربَ من الطلب، بلياقته المعهودة. ولكنني لم "أفهم"، فعدت إلى طلبي مجددًا، أضيف اليه أسبابًا "مهنية". وبقي متمنّعا أسبوعين أو ثلاثة، وبعد ذلك أنزل خبرًا مقتضبًا من أربع كلمات، في أسفل إحدى الصفحات، يعلن فيه عن مباشرتي العمل في المجلة. ابتلعتُ البخْعَة، وقلتُ بأنني ربما لستُ على الدرجة التي أعتقدُها من الأهمية...

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.