}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (28)

دلال البزري دلال البزري 24 مارس 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (28)
قال لي يوسف بزي: انتبهي يا دلال...العيون محْمَرّة عليك....!
تعريف:

عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد، أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!"، أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.


العودة إلى بيروت (2009 ـ 2020)
بعد أشهر من العمل وتنقل مقالي الأسبوعي بين الصفحات، وضياعه أحيانًا على قرائي... قمت بمحاولة مختلفة، وطلبت من حسن (داوود) أن ينزل مقالي في زاوية ثابتة، تسهيلًا لقراءته، وتأكيدًا على انتمائي إلى هيئة تحرير المجلة، أسوة ببقية الزملاء. بقي حسن رافضًا للفكرة، وأنا يتراجع تكراري لها. أنساها، ولا أتذكرها إلا عندما ألتقي بقراء لم يتثبت في ذهنهم أنني أكتب أسبوعيًا في هذه المجلة، أو عندما أجد مقالي في أسفل الصفحة، "لصالح" مقال آخر كتبه أحد "الكبار". وعندما أغلقت المجلة أبوابها نهائيًا، وصرنا خارجها، كتب عنها البعض، ذاكرًا أسماء رئيسها ومحرريها، من دون أن يذكرني. سألته وقتها، معاتبة، فأجاب أنه لا يعلم بأنني كنت محررة في المجلة، وأنا موزّعة بين صفحاتها.
من ضمن هذا الـ "لكن" أيضًا: أن تجربة المجلة بلورت انطباعًا قديمًا كنت قد نسيته وأنا بعيدة عن لبنان كل هذه السنوات العشر، من أن المناخ الثقافي البيروتي تسكنه هرمية تراتبية، لا علاقة لها بالتراتبية المصرية. إنها أقل "مركزية"، أقل "رسمية"، أكثر التباسًا، تراتبية تبدو هلامية من بعيد، ولكنها عن قريب ذات قوانين وأنظمة غير معلنة، لا تعرفها إلا بالاحتكاك بها المباشر، ويوميًا. وتقوم على معيار واحد، تتفرع منه مايكرو معايير، هو "الأهمية". هذا "أهم" من ذاك، هذا "معترف" به على نطاق واسع، يستحق مزيدًا من البروز، ومزيدًا من الاعتراف، ومزيدًا من الاحتفاء. ومن بين الأهم، هؤلاء، ثمة أقل أهمية، فأقل وأقل، حتى تصل إلى الفئة "العمالية" المثقفة. والأخيرة مجرد افتراض موروث عن ماض "مجيد"، لأن هذه "الفئة" في سبيلها إلى الانقراض. وبقي صغار الكتبة أمثالي، وأمثال جمهرة متقلّصة ممن يُطلب منهم أن يلعبوا دور الحشود في الفعاليات التي يقيمها أولئك "الأكثر أهمية".
في يوم من أواخر عهد المجلة، بعدما صُرِف حسن داوود، وصرنا ننتظر قرار صرفنا، مثلما ننتظر رواتبنا المتأخرة... ويوسف بزي سكرتير تحريرها، كتبتُ وقتها مقالًا عن إحدى فعاليات معرض الكتاب العربي، أي الندوات التي ينظمها القائمون عليه. حضرتُ بعضها وقرأت في الصحف عن فحوى بعضها الآخر. فانتقدتها، إذ بدا لي أنها لم تنظمَّ إلا لرفع درجة نرجسية بعض الكتاب، البارزين أصلًا. تصور: كاتب "مهم" يتكلم في الندوة عن كاتب "مهم" آخر، وبعبارات المديح المفرط. وكان عنوان المقال "معرض الكتاب لتجديد النرجسيات".
ــ انتبهي يا دلال... العيون محْمَرّة عليك....! يقول لي يوسف بلهجة الحريص عليّ
ــ على ماذا...؟
ــ على مقالك الأخير... كان هجومك عليهم قاسيًا... لم تذكري أسماء... صحيح... ولكن الجميع عرف من تقصدين...
ــ طيب... وبعدين (بعد ذلك)؟
ــ لا شيء... انتبهي فقط. سنصبح عاطلين عن العمل بعد شهر على الأكثر... ونكون وقتها محتاجين لعمل جديد...
ــ إيه... يعني؟
ــ يعني أنهم يمكن أن يؤثروا عليك... أن يخذلوك... أو أن يخرِّبوا بسمعتك المهنية... يغلقوا باب سعيك... ونحن كلنا مهددون بالصرف... ولا تنسي أنه ليس لنا غيرهم... هم أصدقاؤنا الوحيدون.
"الصداقة" في هذا المجتمع متناهي الصغر هي محرِّك كل المفاتيح.




وظاهرة الشاعر الكبير، العظيم: اسمه وهالته كلها قائمة على "صداقات" تتجاوز حدودنا المحلية، حدود فقاعاتنا المتواضعة. "صداقات" أوروبية ترفع "صديق الأصدقاء" إلى مستوى الترشح لجائزة نوبل للآداب؛ منذ أكثر من عشر سنوات، وعند حلول الخريف، يتداول المهتمون مسألة يريدونها مشوِّقة، من أن الشاعر الكبير، العظيم، سينال الجائزة هذه السنة. أثناء ذلك، الشاعر يعبّر عن مواقف مؤيدة لبشار الأسد، ويحيل كل عدائه للثورة إلى المساجد التي خرج منها الثوار. فكان انقسام واضح بين من يحتفي باقتراب الشاعر من نيل الجائزة، مؤكِّدًا أنه سينالها، ومن يشمت شماتة أهل الجنة بأهل النار، وبدرجة عالية من السخرية، عندما تمنح الجائزة لغيره من مبدعي الآداب. هكذا خلال أكثر من عشر سنوات، زادت وتيرتها، مع مواقع التواصل، فبتنا أمام مشهد بطله طالب دائم للاعتراف، يرمي به أنصاره وكارهوه كما تشاء أهواؤهم السياسية، في ملعب أخذ وردّ روتيني، يشبه طاحونة الكلام.
والشاعر الكبير العظيم لا تزعجه تلك "الدورة" السنوية. بالعكس، أن يتناوله أعداؤه فهو عين الاعتراف. الهجاء يذكّر باسمه، كما الإطراء، وطالما أنه موصول بموقفه من بشار الأسد، فهو يرمي موسميًا رسائل علنية، قطرات من حبه له، يولِّع بها خصومه ويشحذون لسانهم بمزيد من الهجاء... هكذا... فارتفع اسمه وذاع... وإذا حسبنا عمره، وقد تجاوز الآن التسعين، وطغيان حضوره منذ ثلاثة أرباع القرن، فيمكن القول بأنه نال اعترافًا "يوبيليًا" ماسيًا (من الماس)، تتويجًا لمسيرته، ما قد يذكره مؤرخو حياتنا الثقافية بعد حين.
من هم على درجة أدنى من شاعرنا لهم أيضًا مسعاهم؛ كلٌ بحسب الإمكانيات والأمكنة التي وجد نفسه فيها، أو بحسب مواهبهم. أعرف نساء ورجالًا أصابهم الاكتئاب، وبعضهم الانهيار العصبي، دُمرت شخصيتهم وأحلامهم، وبعضهم حياتهم نفسها... بعدما أخفقوا في سعيهم للاعتراف. درسوا، وألّفوا الكتب، تقصدوا بيئات الاعتراف وشبكاتها... وفي كل مرة ينامون على وعد بأن اليوم التالي سيكون مختلفًا... ولم يحصلوا على نظرة، أو ابتسامة، أو اهتمام. هؤلاء هم الخاسرون في مجالهم.
والأرجح أن فشلهم يعود إلى التنافر بين نقطتين جاذبتين لديهم: من جهة شغفهم بالاعتراف، باعتباره إشهارًا عن "قيمتهم" الثقافية، ذات المردود الرمزي البالغ؛ ومن جهة أخرى طبائعهم، العاصية على العلاقات الضرورية للاعتراف، وأصولهم وحظوظهم الموروثة، أو المكتسبة. والنساء أكثر عددًا في هذه الفئة "الفاشلة". ربما حداثة عهدهن في مجال يحتكره الرجال منذ آلاف السنين. ربما رهبتهن من الرجال "المكرّسين" في هذا المجال، وميل هؤلاء، والأقل منهم "أهمية"، في التقليل من "قيمة" كتاباتهن، أو تجاهلها.
أما الباقون، فطلب الاعتراف عندهم بمثابة جهاد يومي، منظور وغير منظور، تُبنى حوله الصداقات، والمعايير. وبالقدر الذي يصيبون، أو يعون... يتغذون "روحيًا" من ثمرات سعيهم المحموم للاعتراف. وحالة شاعرنا الكبير العظيم، الموفور الاعتراف، تطرح سؤالًا عن انعدام حدود هذا السعي، وتسلله أحيانًا إلى النص الذي يكتب، وبخيوط لا يفهمها إلا الضليعون في فنون الاعتراف.
هذا السعي الحثيث للاعتراف ليس حكرًا على الكتاب اللبنانيين، المصريون أيضًا يكابدون من أجله، ولكن بعدد أقل من الأشكال، وبتركيز أكثر على الهدف المعروف. فأقنية الاعتراف المصرية معروفة، كما أسلفنا: "الأهرام"، الجامعة، والجوائز، ومراكز البحوث، التلفزيون، الشخصيات الثقافية النافذة... اللبنانيون لا يملكون هذه "المركزية". قنوات الاعتراف عندهم هلامية، مبعثرة ومتحرّكة. لا دولة، أو صحيفة "قومية"، أي رسمية، ولا جامعة وطنية تلعب دورًا في رفع مكانة الكاتب ومراكمة "رأسماله" الرمزي، بصفته صاحب مورد ثقافي، من كتب أو انتشار، أو منصات، أو جوائز، أو ترجمة إلى اللغة الأجنبية...

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.