}

عن دور القرد في الأسطورة والدين والأدب والعلم

باسم سليمان 18 يونيو 2024
استعادات عن دور القرد في الأسطورة والدين والأدب والعلم
القرود الحكيمة في ضريح توشوغو باليابان، 1617 (Getty)

 

نستطيع أن نعدّ القرود بأنّها الحيوانات الأكثر أمثلة في ثقافة البشر، حيث حمّلوها الكثير من الرموز والتعابير والاستعارات الإيجابية والسلبية، فتارة يكون القرد إلهًا طوطميًا ينحدر البشر منه، وأحيانًا أخرى يكون تمثّلًا للعقوبة التي يستحّقها البشر عبر مسخهم إلى قرود لمخالفتهم الآلهة والقوانين الأخلاقية. وما بين هذين الحدّين يلعب القرد أدوارًا كثيرة في الأسطورة والدين والأدب والعلم؛ وأمام هذه الثيمة الكبيرة للقرود في الثقافة الإنسانية؛ كان العلماء اليابانيون الذين يجرون الاختبارات العلمية والطبية في المختبرات على القرود، عندما يموت أحدها يشيّعونه بجنازة. وذلك ليس غريبًا، فالضمير الذي يدلّ على الإنسان في اللغة اليابانية يستخدم للقرد أيضًا.

لم يكن كتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع" الذي يتحدّث فيه عن نشوء الكائنات الحيّة وارتقائها سلّم التطوّر، والذي صدر في القرن التاسع عشر، ليتعامى عنه بسهولة، فقد فجّر نقاشات كثيرة لاهوتية وعلمية ودينية لم تنته إلى الآن، وخاصة في الجزئية المتعلّقة بأنّ الإنسان والقرد ينحدران من جدّ أعلى مشترك. لم يقل داروين بأنّ هذا الجدّ المشترك قرد أو شبيه له، لكن هناك أسطورة مكسيكية تقول عندما ينتهي هذا الدور الحالي للكون سيتحوّل البشر إلى قردة، فهل هو العود إلى البدء؟ وأمام هذه النقاشات الصاخبة صوّرت الصحافة داروين عبر رسم كاريكاتوري كقرد برأس إنسان، ولو وقع في يد الطبيب الروماني جالينوس الذي يعتبر رائد تشريح الجسد البشري، لكان وضعه على طاولته، وأعمل فيه مبضعه، فالوثائق الرومانية تذكر أنّ جالينوس قام بتشريح قرود المكاك التي تنتشر في المغرب العربي، والتي تعتبرها أسطورة جزائرية بأنّها بشر حرموا النطق عقوبة من السماء.

هذه العلاقة الملتبسة بين القرد والإنسان تعود إلى القدم، وإن كان داروين قام بعكس منظورها على الصعيد العلمي. يقول أرسطو بأنّ الرئيسيات التي تشبه الإنسان هي فئة مورفولوجية (المورفولوجيا علم يدرس المظهر الجسدي للإنسان وتصرفاته وردود فعله) تقع ما بين الحيوانات ذوات الأربع أرجل والبشر. بالتأكيد لم يكن غائبًا عن أرسطو قصة البشر الذين مسخوا إلى قرود لأنّهم حاولوا خداع هرقل. فالانحدار من هيئة الإنسان إلى الحيوان والنبات كانت موجودة في ثقافة البحر المتوسط على الشواطئ الشمالية، وتظهر بشكل جلي في كتاب "المسوخ" لأوفيد. وعلى الرغم من ذلك لم يكن للقرود بعدٌ مسوخي جلي لدى الإغريق والرومان، فالنظرة إلى القرود عند اليونان والرومان، صحيح أنّها كانت تضع القرد كاستعارة للخسّة والنذالة والطمع، لكن في الوقت نفسه كانت موضوعًا للزينة والتسلية. ومع ذلك تسلّلت إلى الديانة الغنوصية الهرمسية الرومانية عبادة الإله تحوت المصري، ولأنّه كان يأخذ أحيانًا شكل قرد البابون العجوز، فقد كان للخواتم ذوات الفصوص المنحوتة بشكل رؤوس قردة البابون أهمية كبيرة ورواجًا بين الرومان.

بينما في مصر لعبت القرود دورًا مزدوجًا، فكانت تعدُّ من الحيوانات الأليفة، حتى أنّهم أطلقوا عليها تسمية: الحيوانات (التي تمنح الحب)، إلى جانب أنّها وسيط بين الآلهة والبشر وخاصة قرد البابون، الذي كان ممثلًا لإله الحكمة (تحوت/ توت). تتعدّد رمزية القرود لدى الفراعنة، فمرة ترسم وتنحت، وهي تتعبّد للشمس بأذرع مرفوعة نحوها، أو يصوّر الفرعون كقرد دلالة على عودة الشباب، بالإضافة إلى أمثلة أخرى تعبّر عن الخصب والنشاط الجنسي، وخاصة أنّ دورة الخصب لدى بعض إناث القرود تشابه مثيلتها عند أنثى الإنسان، ولأجل ذلك لم يكن القرد في الحضارة المصرية مذمومًا أبدًا، فهو على ما يبدو يعود بجذوره في ثقافتهم إلى إلههم الطوطمي، حتى أنّهم حنّطوه.

قدّمت الديانات السماوية والأرضية تصورًا آخر لعلاقة الإنسان بالقرد على عكس نظرية النشوء والارتقاء وهي أقرب لداروينية معكوسة، حيث يتحوّل/ يمسخ الإنسان قردًا نتيجة أعماله السيئة، فتعاقبه السماء بتحويله إلى قرد، وذلك بإفقاده الصورة البشرية التي شُكلت على صورة الإله كما تقول التوراة، وتحويله إلى صورة القرد على شبه الشيطان.

العلاقة الملتبسة بين القرد والإنسان تعود إلى القدم، وإن كان داروين قام بعكس منظورها على الصعيد العلمي


تذكر التوراة بأنّ الذين وضعوا الأصنام على برج بابل مسخوا إلى قرود. وأيضًا بأنّ القرود في إيلات كانوا يهودًا خالفوا تعاليم السبت، فمسخوا قرودًا، وترد في القرآن قصة مشابهة عن ذلك. تذكر التوراة في سفر اللاويين بأنّ الحيوانات هي من تملك ذيولًا، هكذا ظهر القرد عديم الذيل كعلامة استفهام لا إجابة عليها إلّا بعلامة تعجب، لكنّ أسطورة يهودية أخرى تتحدث بأنّ آدم كان له ذيل، وقام الإله بإزالته ليفرق عن الخلق الوحشي. وفي نسخة أخرى للحكاية، فقد القرد ذيله لمحاولته التشبه بالإنسان؛ بهذه التعاليل تم تفسير الندبات التي توجد على مؤخرة القرد، نتيجة جلوسه على الأرض، بأنّها ظهرت إثر عملية البتر التي أجراها الإله له، وبذلك تم تفسير علامة الاستفهام في سفر اللاويين عن القرود التي من دون ذيل.  

هذه البرزخية التي ظهر بها القرد بين الإنسان والحيوان، تذكرنا بمقولة أرسطو التي ذكرنها آنفًا. ومن خلال هذه الحكايا الأبوكريفية (المنحولة) درجت ثقافة القرون الوسطى على اعتبار أنَّ الشيطان قردٌ، أو (قرد الإله) لأنّه حاول تقليد الإله في فعل الخلق. تذكرنا هذه الأمثولة بحكاية القرد الذي حاول تقليد نجار الخشب، فاستغل غيابه وبدأ بتقليد حركاته، وفي النهاية يعلق ذيله في شقّ الخشب الذي صنعه النجار، بعدما أزال القرد الأسافين التي كان يستعملها النجار.

كان الشيطان هو المحرض لارتكاب المعصية الجنسية، فكثيرًا ما تصوّر فنون عصر النهضة خطيئة آدم بقرد يلتذ، وهو يقضم التفاحة، ويد حواء تشير إليه. لا ريب أنّ هذا التصور يندرج ضمن النظرة الدونية لحواء لارتكابها فعل إغواء آدم بعد أن لعب بعقلها الشيطان الذي يمثل بشكل قرد. من هذا المنطلق تصورت ثقافة القرون الوسطى القرود بأنّها كانت أبناء آدم وحواء الذين ولدوا نتيجة نشاطهما الجنسي الكثيف. وعندما زارهم الإله خبأت حواء منه تلك الذرية الكثيرة لكي لا يتهمها الله بشدة شبقها، فحولهم الله إلى قردة.

لم تكن الديانات التوحيدية، هي فقط من ذهبت هذا المنحى، واعتبرت أنّ القرود نتيجة لعقوبة سماوية أوقعت بالبشر. ففي شرق آسيا قام الإله بخداع زوجين شريرين بالجلوس على الطوب الساخن، فاحترق قفاهما وأصبح أحمر، ففرا خجلًا إلى الغابة؛ وهي تعتبر أسطورة تعليلية لاحمرار قفا القرود. قد نقول بأنّ القارات الثلاث القديمة تتناص بأساطيرها، لكنّ حضارة المايا في أميركا تذهب إلى أنّ القرود كانوا في الأصل بشر وعاقبتهم الآلهة. أمام هذا الواقع التاريخي للقرود في ثقافة الإنسان ليس غريبًا أن يقول الشاعر الروماني من قبل الميلاد إينيوس: "القرد، ذلك الوحش الحقير كم يشبهنا!".  

هذه التصوّرات عن القرود في حوض المتوسط تتشارك مع مثيلاتها في شرق آسيا والهند واليابان، لكنّ القرود في تلك المناطق كان لها شأن كبير في الأسطورة والرؤى الأخلاقية. وقبل أن نعرض لقصة الملك القرد في التراث الصيني والتي دونت في القرن السادس عشر والتي جاءت بعنوان (رحلة إلى الغرب)، وأسطورة (هانومان) في ملحمة الرامايانا الهندية، لا بد من التعريج على تعبير يحمل الكثير من الدلالات في ثقافتنا الحالية.

"لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم"...

هذه الكلمات الثلاث يتم تمثيلها بثلاثة قرود: الأول يضع يديه على عينيه، والثاني يضع يديه على أذنيه، والثالث يضع يده على فمه؛ ولها معنى سلبي، فتصف البشر الذين عادة ما يكون موقفهم حياديًا بشكل غير إيجابي، أو أنّهم لا يريدون التورّط مع أنّهم يعرفون ما يحدث ويجب عليهم اتخاذ موقف أو فعل. انتشرت في أوروبا مجسمات القرود الثلاثة من خلال الجنود في الحرب العالمية الأولى. وكانت تعتبر فألًا حسنًا يعبر عن نجاة الجنود الذين بمكان ما كانوا مساقين إلى الحرب بلا إرادتهم، لكن مع الوقت اكتسبت القرود الثلاثة النظرة السلبية. لكن أصل هذه القرود الثلاثة يعود إلى اليابان، وهي قرود حكيمة تمثل ابتعاد الإنسان عن الشرّ، فالذي يبعد ناظريه عن الشرّ، والذي لا يسمع كلام الشرّ، والذي لا يتكلم بالشرّ لن يقربه الشرّ؛ ولأجل ذلك كان غاندي يقتني مجسمًا لهذه القرود الثلاثة. وإذا استتبعنا أصل هذه الرموز التعبيرية للقرود نلقى في التراث الصيني الذي يعود إلى كونفوشيوس مقولة له؛ نستطيع أن نعتبرها أصلًا لهذه القرود: "لا تنظر إلى ما يتعارض مع اللياقة. ولا تستمع إلى ما يتعارض مع اللياقة. ولا تتحدِّث عمّا يتعارض مع اللياقة. لا تقم بأي حركة تتعارض مع اللياقة". وبناءً على هذه المقولة الكونفوشية نجد مجسّمات للقرود الثلاثة، وقد أضيف لهم قرد رابع يضع يديه على منطقته التناسلية.

كانت لليابانيين نظرة مشابهة لما لحظناه في الديانات التوحيدية عن أنّ القرود مسوخ لبشر قد عوقبوا، لكن هذه النظرة السلبية، ليست بهذه الشدّة، فالقرد يعتبر رسول إله الجبل، وحارسًا للحدود والطرق، فهو كائن برزخي، والإنسان الذي ينحدر بتصرفاته نحو الأسوأ لديه الإمكانية أن يوقف مسوخيته إنْ عاد إلى الطريق القويم، فهو يصبح في حالة بينية بين الإنسان والقرد، كما يقول أرسطو، فتأتي أيقونة القرود الثلاثة الحكماء لتذكره كيف يتجنب طريق الشرّ،  ما دامت القرود قد فهمت كيف يحدث ذلك. هناك تأصيل أكثر غورًا لهذه القرود في الديانة الشعبية اليابانية، التي تتصوّر بأنّه يتواجد ثلاث ديدان في جسد الإنسان تسجل أفعاله الخيرة والشريرة، وكل ستين يومًا بعد أن ينام الإنسان تصعد هذه الديدان إلى الإله السماوي، وتخبره عن أفعال الإنسان وعليها تترتب أيامه القادمة بالنعم أو التعاسة، ولا يستطيع أن ينجو إلا إذا تمثل بالقرود الثلاثة.

لم تتوقف ثيمة القرود عند هذين الاعتبارين اللذين لحظناهما أعلاه، فقد تم تصويرها بشكل آخر يدعو إلى المعرفة والبحث والتطلع، عبر قرد يضع يديه خلف أذنيه ليسمع أكثر وآخر يحملق بقوة وثالث يؤشر بإصبعه على فمه لأجل التكلّم بوضوح.

إنّ الإسقاط التمثيلي للقرود، لا يعود فقط إلى مظهرها الشبيه بالإنسان، والذي دفع عالم الحيوانات ديزموند موريس الذي درس تطور الإنسان منذ العصور القديمة إلى عنونة كتاب له بـــ (القرد العاري)، وإنّما لتشابه الكثير من تصرفاتها بتصرفات الإنسان المنفلت من القوانين والأعراف، فهي تلعب وتسرق وتضحك وتحتال وتهاجم وتقتل وتمارس الجنس بعلانية فاضحة، وفي خضم هذه الأفعال تبدو كأنّها تملك حدًا من العقل يسمح بمساءلتها. هكذا سمحت تلك الممارسات والسلوكيات للقرود بأن تصبح الأمثولة الأنسب التي يستخدمها الإنسان في تهذيب بني جنسه.

في إحدى أولى جرائم الأدب البوليسي الذي أسّس له إدغار آلان بو (جريمتا القتل في شارع مورغ) كان القاتل قرد إنسان الغاب 


الرحلة إلى الغرب

هي أسطورة من الصين عن قرد ولد من بيضة حجرية كانت نتيجة التقاء السماء/ يانغ بالأرض/ الين أي مبدأ الذكورة والأنوثة في الفلسفة الصينية. استرعت ولادة (سون وو كونغ/ القرد الملك) الإمبراطور الذي يحكم الجنة لأنّه عندما ولد أطلق شعاعًا ذهبيًا من عينيه، فأرسل الإمبراطور السماوي عناصره ليستطلعوا طبيعة هذا المخلوق. وبعد عودتهم أخبروا إمبراطورهم بأنّ الشعاع يخبو عندما يأكل القرد، وهذا دليل على أنّه فان وليس له من خطر على الخالدين في السماء. لم يكن القرد (سون وو كونغ) في وارد حذر السماء منه، بل كان سعيدًا بصحبة القرود يأكلون الثمار ويلعبون في النهر.

هذه الجنة الأرضية تعكّرت عندما مات أحد القرود، فابتأس القرد الملك وهام على وجهه، لأنّ الفناء خاتمة كل الأحياء، وكأنّه جلجامش بلاد الرافدين. طفق القرد يرتحل من مكان إلى آخر، ليكتشف كم هي حياة البشر سيئة لا تختلف كثيرًا عن حياة القرود، لكنّه في تجوالاته سمع أحد الحطّابين يغني أغنية أعجبته معانيها، فسأله أين تعلّمها، فأخبره أنّه سمعها من راهب طاوي خالد يعيش في الغابة، فقصده وجلس على بابه طويلًا، حتى أقنع الراهب بجدية مسعاه، فكشف له الراهب عن قواه كقرد نتج من التقاء السماء بالأرض. عاد القرد من رحلته ليجد أن الشياطين قد هاجمت أصدقاءه القرود، فيتصدّى لهم ويقتلهم بواسطة قواه الجديدة التي عرفها بعدما فتح له الكاهن بصيرته.  وأمام هذا الوجود الجديد الذي استيقظ القرد عليه طلب الخلود، فهبط إلى الجحيم واستولى على الكتاب المقيدة به أعمار الكائنات، وحذف نفسه وأصدقاءه القرود من لائحة الموت، وسجلهم في خانة الأحياء الخالدين، ومن ثم بدأ البحث عن أسلحة تعزز قواه، فقصد ملك التنانين وطلب منه أن يمنحه الأسلحة بالقوة، وهنا تنبه الإمبراطور السماوي لهذه القوة التي ظهرت على الأرض، وأراد القضاء عليها، لكن مستشاره نصحه باستدعاء القرد الملك ومنحه منصب سائس الخيول في الجنة! يتم خداع الملك القرد من قبل سكان الجنة، وبسبب ذلك يخوض حربًا ضدهم تكسبه المزيد من القوى، وتصبح الجنة السماوية قاب قوسين أو أدنى من السقوط تحت يد الملك القرد. وهنا تطلب السماء من بوذا التدخل، فيأتي ويستمع إلى شكوى القرد الملك وأسباب هجومه على السماء. يمتحن بوذا القرد الملك، بأنّه لن يكون قادرًا على الإفلات من يده، وإن فعل سيكون له كل الحق بأن يصبح إمبراطور السماء والأرض. يطير القرد الملك بأقصى سرعة، ليتخلص من يد بوذا، وعندما يصل إلى أقصى الكون، ويشعر بأنّه أصبح في مأمن من يد بوذا يجد خمسة أعمدة يضع علامة على عمود منها ويبول على العمود الأوسط! وعندما عاد متبجحًا، أراه بوذا يده التي عليها العلامة التي وضعها وأثر البول. يعاقب بوذا الملك القرد بأن يسجنه أسفل جبل وتمر السنين والملك القرد مسجون تحت الجبل. كان على الراهب تانغ سانزانغ أن يذهب إلى الهند ليحضر سوترا (كتاب البوذية المقدس) من الهند، لكن الشياطين كانت تعرف بأنّ من يأكل من لحم الراهب سينال الخلود، لذلك كان لا بد من حمايته من هجومها. وهنا يقترح الملك القرد أن يقوم بذلك بعدما تعلم وهو مسجون تحت الجبل الصبر والتواضع. يرافق القرد الملك الراهب مع عدد من الأصدقاء ويثبت جدارته في حمايته لتنتهي القصة بأن يصبح القرد بوذا.

تمتلك هذه القصة الغنية بالأحداث والمغامرات الكثير من التأويلات. وخاصة أنّها ترتبط بعقائد أسطورية ودينية لدى الصينيين، حيث يعتقدون أنّهم قد انحدروا من قرود ضاجعت نساء بشريات فولدت العوائل الصينية الأصيلة. وأهم تأويل لها إذا كان القرد قادرًا مع كل موبقاته أن يصبح بوذا، فما هو عذر الإنسان؟

لا يقل القرد هانومان الهندي قوة عن الملك القرد الصيني، فهو الآخر قد ولد من لقاء بين إله الريح وحورية شيطانية. لم تكن طفولة هانومان هادئة، فقد حاول أن يلتهم الشمس بعد أن ظنّ أنها ثمرة مانغا. تعاقبه السماء على الفوضى التي أحدثها لكن في النهاية ينضج، فتباركه ليصبح الصديق المخلص للأمير راما. يختطف الشيطان زوجة راما ويهرع هانومان لإنقاذها وإعادتها وتدمير مدينة الشيطان، لذلك تنتشر عبادته في الهند.

مشهد من فيلم "مملكة القردة"


قصص عن قردة ترويها قردة

بعد كتاب داروين ("أصل الأنواع") تكاثرت القصص والأفلام التي يكون أبطالها قرودًا. ففي إحدى أولى جرائم الأدب البوليسي الذي أسّس له إدغار آلان بو ("جريمتا القتل في شارع مورغ") كان القاتل قرد إنسان الغاب من فصيلة (أورانغوتان). قام المحقق دوبان والذي يعتبر المنبت الذي انطلقت منه شخصيتا المحقّق هيركل بوارو لدى أغاثا كريستي، وشارلوك هولمز لدى آرثر كونان دويل، بالتحقيق في الجريمة عبر التفكير المنطقي والبحث عن النتيجة من خلال أسبابها. لم يرتكب قرد إنسان الغاب جريمة، إلا لأنّه كان يقلّد الرجل في كيفية حلاقة دقنه بالموسى! كان بو رؤيويًا في قصصه ومحذّرًا بأنّ الإنسان من الممكن أن ينحدر سريعًا إلى رتبة القرد إذا تخلّى عن عقله. قد نعتبر بو متشائمًا، ربما لكونه حاول أن يعيش من الكتابة، وكان يرى الإنسان قردًا يرتدي الثياب. تنتهي سيرة حياة بو نهاية سيئة بعدما وجد ميتًا في أحد الشوارع. لكن بو لم يكن مخطئًا، فالإنسان يشبه القرد الملك أو هانومان قبل أن تؤدبهما السماء.                     

لم يكن بو مخطئًا، لكن الروائي إدغار رايس بورزو كان أكثر تفاؤلًا، وهو مبدع شخصية طرزان في أوائل القرن العشرين عن طفل تربيه القردة في الغابات، فيصبح حاميًا لها؛ فالأخلاق التي حصّلها طرزان من القردة تفوق بمرات الأخلاق التي يدعيها البشر.

لقد حدث في زمن الاتحاد السوفياتي في عصر ستالين أن قام الطبيب والعالم إيليا إيفانوفيتش إيفانوف والذي أطلقت عليه تسمية (داروين الأحمر) استنادًا لنظرية داروين بمحاولات عديدة تحت إشراف ستالين لتخصيب القردة الإناث بحيوانات منوية بشرية على أمل أن تؤدي النتائج إلى ولادة جنس جديد فيه من قوة الغوريلا الكثير وفيه عقل البشر. انتهت تلك التجارب بفشل ذريع، فنفاه ستالين إلى كازاخستان حيث مات هناك بعدما كلف الخزانة السوفياتية الكثير من الأموال في تجاربه.

كان السؤال الأخلاقي ينمو حول طبيعة البشر، وهل هم أفضل حالًا من أقربائهم القرود وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى والضحايا الكثيرة التي نتجت عنها. ظهر فيلم "كينغ كونغ" عام 1933 بعد أن تنبّه المنتج إيرنست بي شودساك أن فيلمًا عن غوريلا في أفريقيا قد حقق أرباحًا كبيرة، حيث تدور فكرة الفيلم عن قبائل أفريقية تقدّم نساءها للغوريلات من أجل متعتها الجنسية. من خلال هذه الفكرة نشأت فكرة كينغ كونغ حيث تذهب فرقة استطلاعية تلفزيونية إلى جزيرة الجمجمة ويجدون قبيلة بدائية تقدم نساءهم لإلههم القرد. وبعد عدة مغامرات تقبض القبيلة البدائية على الفتاة الشقراء وتقدمها للغوريلا الضخم. تنشأ قصة حب بينهما لتنتهي في نيويورك ويظهر كينغ كونغ متسلقًا قمة بناية إمباير ستيت – تعتبر أعلى بناء أنجزه الإنسان في ذلك الزمن- بينما الطائرات الحربية تمطره بالرصاص. لا ريب أن الهدف التجاري كان واضحًا جدًا، لكن الدلالات التي حملها الفيلم تذكرنا كيف روضت غانية المعبد أنكيدو، فكينغ كونغ يصبح مجرد قرد صغير عندما يتنسم رائحة البطلة الشقراء. لا ريب أنّ الإشارة إلى أنّ المرأة قادرة بمكان ما على ترويض قردنة الذكر البشري، بدأت بالظهور. لا نستطيع أن نعتبر بأن المنتج شودساك كان في نيته ذلك، فما كان يهمه هو التلميحات الجنسية، لكن!

أصبحت القردة شخصية مهمّة في السينما الأميركية وفي الكتابات عبر العالم، فعن طريق أمثلة القرد كحامل للأفكار الإنسانية، كان من الممكن مقاربة خطوط حمراء كثيرة. في فيلم "كوكب القردة" التي بدأت عام 1968 حيث كان يظنّ بطل الفيلم بأنّه بسبب عاصفة كهرومغناطيسية في الفضاء قُذف إلى كوكب تحكمه القردة، ليكتشف بأنّه على الأرض بعدما رأى رأس تمثال الحرية ملقى على أحد الشواطئ. وفي عصرنا الحالي أعيد إحياء السلسلة بعد أن يصبح أحد قرود المختبرات ذكيًا جدًا نتيجة إخضاعه لتجارب على دواء يكافح مرض ألزهايمر، فيقود ثورة تنتهي بإبادة البشر، حيث كان آخر أفلام هذه السلسلة هذا العام: (Kingdom of the Planet of the Apes / "مملكة القردة"، 2024، من إخراج ويس بال).
تطرح عالمة الإنسانيات دونا هارواي سؤالًا ينطلق من تلك السرديات الإنسانية عن القردة، بأنّ هذه السرديات تتأتّى من تشكيك الإنسان في أحقيته بأن يكون في قمة السلسلة للكائنات المتواجدة على الأرض بعد تاريخه العنيف. يعاد سؤال دونا في فيلم "مملكة القردة" عام 2024 بطريقة معاكسة، فالبطلة (نوفا- الكائن البشري) ترفض أن يكون القرد مساويًا لها على الرغم من الذكاء الذي انتهى إليه. هذه العنصرية للكائن البشري تجاه جنسه والكائنات الأخرى سخر منها (راكا) في الفيلم وهو من فصيلة إنسان الغاب (أورانغوتان – المجرم في قصة بو في القرن التاسع عشر) بالقول: "بأنّ القردة تمتاز عن البشر، وذلك لأنّها تستخدم أيديها وأقدامها سواء بسواء، والبشر لا يملكون هذه الميزة!"؛ لقد صوّر مايكل أنجلو في لوحاته في كنيسة سيستينا في إيطاليا الإله يمدّ يده لآدم وآدم يبادر بالمثل، دلالة على أهمية اليد البشرية؟                                    

كان القرد راكا حكيمًا كفاية، ليرى أنّ الذكاء، مهما كان مهمًّا، لا يتجسّد إلّا بالأدوات التي تحقّقه. وما دامت القردة تملك أربع أيد مقابل الإنسان الذي يملك يدين فقط؛ فالأفضلية لها! لم تكن القصص التي ذكرناها عن القردة فلسفية بالمعنى الذي تأسست عليه الفلسفة منذ أيام سقراط، لكنّها كانت حاسمة لفهم العلاقة بين النظرية والممارسة بين القول والفعل.
لقد أنجز الإنسان الكثير من الأدبيات الدينية والأخلاقية والفلسفية، جميعها تتوّج الإنسان سيدًا لهذه الأرض، وفي الوقت نفسه ارتكب أضعافها من الجرائم بحق نفسه وبحق الكائنات الأخرى والطبيعة؛ وبناء على ذلك، فمن الأولى بسيادة الأرض؟: الإنسان، أو القرد الأمثولة، أو القرد الحقيقي!      

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.