}

الإعاقة في الأسطورة والدين: رؤى المجتمع

باسم سليمان 27 أغسطس 2024
استعادات الإعاقة في الأسطورة والدين: رؤى المجتمع
يعدّ الإله الإغريقي هيفايستوس أحد أشهر الشخصيات المعاقة بالأساطير

إنّ الإعاقة متأصّلة في الجنس البشري، فالحروب، وحوادث الحياة، والأمراض الوراثية، والأمراض الوبائية، وغير ذلك من أسباب، كانت كلّها منتجة للإعاقة، لذلك نستطيع القول عنها، بأنّها قديمة قدم البشرية.

يُذكر أنّ الأنثروبولوجية مارغريت ميد أجابت عن سؤالٍ من إحدى طالباتها عن لحظة ظهور الحضارة البشرية بالقول: "إنّ أول علامة على الحضارة في الثقافة القديمة هي الدليل الذي وجدناه، وهو عبارة عن عظام لشخص أصيب بكسر في عظم الفخذ، وشُفي منه، واستمر في الحياة". ما قصدته ميد أنّ تقديم المساعدة للمريض، هو اللحظة التي ارتقى فيها الكائن البشري فوق الطبيعة، لا اكتشاف النار ولا العجلة، فالحيوان الذي يمرض أو يجرح ستكون نهايته الموت، أمّا لدى الإنسان، فسيقف أخوه الإنسان معه كعكاز يسنده في مصابه. إنّ ما ذكرته ميد لم يتحقّق بالمعنى الفعلي – إلى حدّ كبير- إلّا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أدّت الأعداد الهائلة من المصابين في الحرب والتي انتهت إصاباتهم إلى أن تكون إعاقات دائمة لدى الجنود والمدنيين، إلى إعادة النظر بموقع المعاق في المجتمع بعد تاريخ لا ينتهي من الإلغاء لوجوده، مضافًا إلى ذلك ردّات الفعل الإنسانية على قرارات هتلر بتطهير المجتمع الألماني من المعاقين، فقد أصدر في عام 1939 قرارًا سرّيًا بما أطلق عليه "المساعدة الطبية النهائية" بضروة قتل المعاقين لأنّهم: "أكلة عديمو الفائدة" و"دونية بشرية غير معالجة" يستنزفون الاقتصاد ويثقلون كاهل المجتمع بدون المساهمة بأي شيء في المقابل، ووصل الأمر بهتلر إلى أن يشمل المحاربين القدامى المعاقين في الحرب العالمية الأولى. لم يُكتب للأمر الذي أصدره هتلر بأن يكون منفذًا بالكامل وذلك تحت ضغط المجتمع والكنيسة، فقد أُجبر هتلر على إيقاف الأمر بعد عام 1941 بعد أن قتل أكثر من 300000 معاق ألماني. ليس هتلر بدعًا في ذلك، فتاريخ أصحاب الإعاقة مليء بالعنف والقتل والنبذ والتعذيب والسجن والتجويع والتعقيم، واستخدامهم للتسلية.

تفيد بعض الحفريات بأنّ العنف الممنهج المادي والفكري نحو المعاقين كان فيه بعض الاستثناءات الجيدة، فقد وجِد في بعض المقابر التي تعود إلى بدايات الحضارة البشرية جثث لمرضى قد طال بهم العمر، ولم يكن ليعيشوا لولا مساعدة مباشرة من محيطهم الإنساني. وفي ثقافتنا العربية القديمة حيث يختلط الواقع بالأسطورة نجد الكاهنين شق وسطيح: "إن سطيحًا كان لا أعضاء له، وإنّما كان مثل السطيحة، ووجهه في صدره، وكان إذا غضب، انتفخ، وجلس، وكان شقٌ نصف إنسان". لا يمكن لسطيح أو شق أن يستمرا بالحياة لولا مساعدة المحيطين بهما. وفي أفريقيا الغربية، ترى بعض الشعوب أنّ المعاقين نتيجة لتجليات القوى الخارقة للطبيعة لذلك يكنّون لهم الاحترام. أمّا في شرق أفريقيا، فهناك معتقدات بأنّ المعاقين قادرون على إرضاء الأرواح الشريرة، وبذلك يؤمّنون الحماية منها لغيرهم من الأصحاء. هذه الاستثناءات القليلة الإيجابية بحقّ المعاقين يقابلها جبل جليد من العنف نحوهم.

يبدأ ذكر المعاقين في الحضارة البشرية من بلاد الرافدين، فهناك أسطورة سومرية تتكلّم عن أنّ الآلهة قد تعبت من القيام بالأعمال، فالأرض التي خلقوها استعبدتهم بالقيام بشؤونها، وإثر ذلك قرّروا أن يشتكوا للإله إنكي (إله الماء العذب) لكنّه كان نائمًا، فما كان لهم من حلّ إلّا أن قصدوا أمّه الإلهة نمو (سيدة المياه) وبكوا أمامها أوضاعهم القاسية. حملت نمو دموع الآلهة وذهبت إلى ابنها وأيقظته وطلبت منه أن يخلق خدمًا يخدمون الآلهة المتعبين، فاستجاب الابن إلى ذلك وأقام مأدبة دعا إليها الآلهة بهذه المناسبة، ولأنّ الإلهة ننماخ سيدة الخلق احتجت على تكليف إنكي بذلك، وهنا تحدّاه إنكي بعد أن دارت الجعة في رأسه، أن تخلق ستة من البشر سيكون قادرًا على إيجاد أعمال لهم، فخلقت ننماخ عددًا من المعاقين: الأصم والأعمى والكسيح... فدبّر لهم إنكي أعمالًا في خدمة المعبد وقصر الملك وهنا استشاطت غضبًا ننماخ وطلبت من إنكي أن يخلق بشرًا لتجد لهم أعمالًا مناسبة، فخلق إنكي كائنًا يدعى "أومول"، وهو الشيخ الطاعن في السن، عيناه ذابلتان، وحياته فانية. وخلق كائنًا آخر، يائسًا، لا يستجيب لنداء، فاحتارت ننماخ كيف تجد لهما أعمالًا تناسبهما، فغضبت منه واحتد النقاش بينهما، إلى أن تدخّلت الآلهة جميعها وأنهي الخلاف بخلق الإنسان الذي على صورة الآلهة، لا تشوّه فيه ولا إعاقة. لا ريب أنّ إنكي وننماخ أسطورة تفسيرية لتواجد المعاقين بين البشر الذين بالأساس يجب أن يكونوا على صورة الآلهة كاملين. لقد كان سكر إنكي وتحدّيه ننماخ هو السبب في خلق البشر المعاقين، لذلك هناك الكثير من النصائح، بأن لا يشرب الحاكم الجعة ويصعد للحكم، فتكون أحكامه معوّقة كالمعاقين الذين خلقهم إنكي وننماخ، هذا من ناحية. أمّا من الناحية الثانية، فتدل على قبول المجتمع السومري تواجد المعاقين ضمن أعضائه الفاعلين. وهذه النقطة توافق قول مارغريت ميد، على الرغم من أنّ هناك حالات كان المعاق فيها يُقتل في بلاد ما بين النهرين. إنّ التعليل السومري لسبب خلق الإنسان بأنّه خُلق ليعمل، سيكون المبدأ الذي حكم التعامل مع المعاقين، فإذا نُظر إليهم بأنّهم غير قادرين على العمل بسبب تشوّههم الخلقي أو الحوادث اللاحقة لولادتهم التي أدّت إلى إعاقتهم، سيكون مصيرهم الموت أو النبذ. 

أفتى مارتن لوثر، مؤسس المذهب البروتستاني، بأن يتم إغراق الأطفال المعاقين والمشوّهين


ننتقل بعد حضارة ما بين النهرين إلى الحضارة الفرعونية، وسنستند في رؤيتنا على وضع المعاقين فيها إلى رأي المؤرِّخ بلوتارخ الذي وصف الإله حربوقراط بأّنّه: "مولود قبل الأوان وضعيف وأعرج الساقين"، وهذا يعني وجود إله معاق، وأنّه إلى حدٍّ ما لم يكن المعاقون مرفوضين تمامًا، حتى أنّ الإلهين بيس وبتاح كانا قزمين. ويقال أيضًا إنّ الفرعون توت عنخ أمون كان معاقًا أيضًا؛ وبناءً على ما سبق نستطيع القول بأنّ وضع المعاق في مصر القديمة كان مقبولًا، وتشبه حاله ما كان في بلاد الرافدين. لكن أكثر الحضارات التي أثرت على تنميط المعاق في المجتمع كانت الإغريقية، وخاصة أن الآراء المناهضة للمعاقين خرجت من أهم فيلسوفين في التاريخ: أفلاطون وأرسطو، فقد رأى أفلاطون ضرورة إخفاء المعاقين (قتلهم) من المدينة الفاضلة. وكان هدف أفلاطون تحسين النسل الذي ستتبناه فيما بعد الداروينية الاجتماعية بقيادة عالم الاجتماع هربرت سبنسر (1820-1903)، الذي صكّ مصطلح "البقاء للأقوى"، ودعا فيه إلى قتل الأطفال المعاقين والتعقيم الجنسي للكبار منهم. أمّا أرسطو فقد رأى في المعاقين ضررًا اقتصاديًا، فهم غير قادرين على خدمة أنفسهم، ولا المجتمع، لذلك الأولى بالأهل أن يقتلوا أطفالهم المعاقين في المهد. وجاء في كتابه "السياسة": "أمّا فيما يتعلّق بتربية الأطفال، فليكن هناك قانون يمنع أن يعيش أي طفل مشوّه". لم يكن أفلاطون وأرسطو شاذّين في آرائهما، فقد كانت مدينة إسبارطة في اليونان تقتل الأولاد المعاقين، أمّا روما، فقد شرّع رمولوس مؤسّسها ضرورة قتل الأطفال المعاقين، لكن فيما بعد نصّت القوانين الرومانية على ضرورة اعتناء الأهالي بأولادهم المعاقين، كذلك كانت الحال معقولة في اليونان، فقد بُنيت ممرّات خاصة للمعاقين كي يأتوا إلى الاحتفالات الدينية والمدنية. كان أبقراط أول من عارض رأي الثقافة اليونانية التي كانت ترى بأنّ الجسد انعكاس مادي للروح، فإذا كانت فاسدة كان فاسدًا، وعليه عدّت الإعاقة عقوبة إلهية تقع على الإنسان لمخالفته العقائد والأخلاق السائدة، لكنّ أبا الطب أبقراط عارض ذلك، وقال بأنّ الأمراض هي نتيجة لاختلال الأخلاط في الجسم ولا دخل للآلهة في ذلك.

"لَا تَشْتُمِ الأَصَمَّ، وَلا تَضَعْ عَثْرَةً فِي طَرِيقِ الأَعْمَى"

إنّ نظرة الديانات إلى الإعاقة مشوبة بالكثير من اللاحسم، فهي من ناحية ترى الإعاقة عقوبة إلهية تُنزل على المخالفين للعقيدة والأخلاق والكفّار. ومن ناحية أخرى ترى فيها تجليًّا لقدرة الإله التي يجب الخضوع لها والتأمّل فيها، فإذا انطلقنا من الديانة اليهودية وكتابها التوراة، الذي أخذنا منه المقبوس الذي عنونا به هذه الفقرة، نجد الأمر الإلهي يحضّ على الرحمة بالمعاقين الذين مثّل لهم بالصم والعمي، لكن في المقلب الآخر نرى في سفر اللاويين: "قُلْ لهرونَ: مَنْ كانَ فيهِ عَيـبٌ مِنْ نسلِكَ على مَمرِّ الأجيالِ، فلا يقتَرِبْ ليُقدِّمَ طَعامَ إلهِهِ: الأعمى والأعرجُ والأفطسُ والأشرعُ، والمَكسورُ الرِّجْلِ أوِ اليدِ، والأحدبُ والقزَمُ والّذي في عينَيه بـياضٌ، والأجربُ والّذي في بدَنِهِ بُثورٌ، ومَرضوضُ الخِصيتَينِ. كُلُّ مَنْ بهِ عَيـبٌ مِنْ نَسلِ هرونَ لا يتقدَّمْ ليقرِّبَ وقائدَ طَعامِ الرّبِّ إلهِهِ. لكنَّهُ يأكلُ مِنْ طَعامِ إلهِهِ، سَواءٌ أكانَ مُقدَّسا أم مُقدَّسا كُلَّ التَّقديسِ. وأمَّا الحِجابُ المُقَدَّسُ‌، فلا يَقتَرِبْ مِنهُ، ولا يتَقدَّمْ إلى المذبَحِ إذْ بِهِ عَيـبٌ فلا يُدنِّسُ معبَدي‌ الّذي كرَّسْتُهُ لي". تنصّ التوراة على أنّ الإنسان خُلق على صورة الرب الكاملة وبالتالي فإنّ أي نقص أو عور في صورة الشخص تؤدّي إلى استبعاده، وعلى ما يبدو أنّ الصورة هنا أخذت معنى المظهر الخارجي، فهناك الكثير من الأمراض والإعاقات الداخلية في جسد الإنسان التي لا ترى بالعين لم تذكرها التوراة، مع أنّها أكثر فتكًا كما قال هربرت سبنسر من مرض السكري الذي اعتبره مكلفًا للدولة ويورثه الآباء لأبنائهم لذلك وجب تعقيمهم.          

إنّ الإعاقة دناسة كما يقول سفر اللاويين يجب أن تُبعد عن بيت الرب، لكن النبي يعقوب كان أعرج بعد أن صارع الإله إلى الصباح، فكسر الإله حُقّ جنبه، وأصبح اسمه إسرائيل لأنّه جاهد مع الرب وصبر، فيما النبي أيوب تعرض لأمراض كثيرة، أمّا موسى فكان لا يفصح عن كلام واضح، جاء في التوراة: "هَا أَنَا أَغْلَفُ الشَّفَتَيْنِ. فَكَيْفَ يَسْمَعُ لِي فِرْعَوْنُ؟" أي أنّه ليس رجل كلامٍ، ويتابع موسى محاجته، بأنّه ليس صالحًا لهذه المهمة، فيردّ الإله: "فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى مُوسَى وَقَالَ: َلَيْسَ هَارُونُ اللاَّوِيُّ أَخَاكَ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ يَتَكَلَّمُ، وَأَيْضًا هَا هُوَ خَارِجٌ لاسْتِقْبَالِكَ. فَحِينَمَا يَرَاكَ يَفْرَحُ بِقَلْبِهِ" فأجابه موسى: "فَقَالَ مُوسَى لِلرَّبِّ: اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ" فأجاب الإله على موسى:" فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: ‘مَنْ صَنَعَ لِلإِنْسَانِ فَمًا؟ أَوْ مَنْ يَصْنَعُ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ أَوْ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى؟ أَمَا هُوَ أَنَا الرَّبُّ‘". من خلال هذا الجدال بين النبي موسى والإله نكتشف بأنّ موسى كانت لديه إعاقة تمنعه من الكلام الواضح، وبناء على ذلك لا ينفع أن يكون صاحب رسالة، لكن ردّ الإله، هو ما يخدمنا في بحثنا بأنّه هو من يجعل فلانًا أصمَ أو أخرسَ أو بصيرًا، أي إنّ الإعاقة من شأن الرب، ولا دخل للإنسان فيها، كما سيتبيّن لنا في أحد ردود المسيح لاحقًا. لا ريب في أنّ رفض النبي موسى لأن يكون ناطقًا باسم الإله قد أتاه من تقاليد دينية، لربما عرفها في مصر، أو عند الكاهن مدين، كانت تشترط بالنبي سلامة الجسد والحواس؛ وهنا يأتي كلام الإله أنّه لا يختار أنبياءه بناءً على ما كان يعتقده موسى ومحيطه الاجتماعي. والأهم من ذلك أنّ هارون سيكون مساعد النبي موسى كونه فصيحًا وبهذه النقطة نتذكّر كلام مارغريت ميد، وهنا نتساءل، لماذا كل تلك المحرّمات بحقّ المعاقين في سفر اللاويين، ما دام موسى كانت له إعاقة؟

يقال إنّ الفرعون توت عنخ أمون كان معاقًا أيضًا (Getty)


لا تختلف المسيحية عن اليهودية كثيرًا في النظر إلى المعاقين، ففي إنجيل يوحنا التقى المسيح برجل أعمى منذ طفولته فقام بشفائه، فسأله التلاميذ: "يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟" فأجاب المسيح: "لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ". بينما في قصة أخرى بعدما شفى المسيح أحد العميان يخبره المسيح بضرورة أن لا يرجع إلى الخطيئة، وكأنّه يشير إلى أنّ الإعاقة والمرض نتيجة لخطيئة ارتكبها الإنسان بحق الإله. كان يُنظر في المسيحية إلى الإعاقة بين هذين الحدّين؛ أي أنّ الإعاقة من أعمال الإله التي يجب التفكّر فيها، أو أنّها نتيجة خطيئة يجب التكفير عنها بالعبادة، لكن كانت هناك تجاوزات خطيرة في الحرب على الساحرات في القرن السادس عشر، حيث كانت إحدى المؤشرات على أنّ امرأة ما تتعاطى السحر أن تكون معاقة، فقد تم حرق أعداد هائلة من الساحرات المعاقات. وهذا الأمر ليس غريبًا، فقد أفتى مارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستاني، بأن يتم إغراق الأطفال المعاقين والمشوّهين.

تقدّم الديانة الإسلامية نظرة أكثر رأفة ممّا سبق، فالمرض في القرآن ابتلاء من الله يختبر به إيمان المؤمنين: "وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِيْنِ" كما رأينا مع إجابة السيد المسيح أعلاه. لكن هناك نعوتًا في القرآن الكريم، من مثل (بكمٌ وصمٌ وعمي) استخدمت لذم الكفار، بأنّهم لا ينتفعون من كلام الله، بل ويصدّون عنه، لكن هناك سورة (عبس) التي تتكلّم عن الرسول، فقد جاءه أعمى يطلب الهداية ليصبح مسلمًا، فأشاح الرسول بوجهه عنه، رغبة في أن يؤمن وجهاء قريش بدعوته الذين كانوا حاضرين المجلس، فنزلت الآية الكريمة تعاتبه: "عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءَهُ الأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى". ويُقال إنّ هذه الأية نزلت بالصحابي عبد الله بن أم مكتوم الذي كان أعمى، وبعد أن أسلم، أصبح الرسول يستخلفه على المدينة عند الخروج في غزواته. رأينا فيما سبق أنّ الأطفال المعاقين كانوا يقتلون في أكثر الحضارات والديانات، لكن مع الإسلام جاء الأمر بالكفّ عن ذلك: "وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" والإملاق هو الضعف الجسدي والفقر.

على الرغم من إمساك الأديان السماوية العصا من المنتصف بحقّ المعاقين إلّا أن نظرة الناس كانت أكثر عنفًا بحقّهم، وكثيرًا ما تفسّر الإعاقات والأمراض، بأنّها عقوبات من الإله بحقّ المخالفين لأحكامه. كنّا فيما سبق مع الديانات السماوية، وإذا اعتبرنا البوذية والهندوسية ديانات أرضية، فهذا الاختلاف بين السماوي والأرضي لم يمنع هذه الديانات من توحيد النظرة إلى المعاقين، فالبوذية ترى بأنّ المعاق لن يكون قادرًا على ممارسة طقوسها، ممّا سيعوّق استنارته، لكن في الوقت نفسه تحضّ على معاملته بلطف. ترى البوذية بأنّ مفهوم (الكارما) هو التفسير لوجود المعاقين، فأعمال المرء غير الصالحة في حياته السابقة سيعاقب عليها في حياته الحالية بالإعاقة والمرض والفقر. لا تختلف الهندوسية عن البوذية في نظرتها إلى المعاق، وخاصة أنّها تتبنّى مفهوم الكارما، لكنّها تحضّ على رعاية المعاقين ونادرًا ما يلتزم المجتمع بذلك، فنظرة المجتمع الهندوسي للمعاق سيئة. ومع ذلك استطاع المعلم البوذي أشتافاكرا والذي يعني اسمه "ذو الإحناءات الثمانية" وقد ألّف كتاب "أشتافاكرا غيتا" ضمّنه حكمته. وهذا الأشتافاكرا الذي يعاني من ثمانية تشوهات قد انتصر على العلماء الأصحاء في بلاط الملك جاناكا الذين سخروا من إعاقته. أمّا الشاعر والمغنّي الهندوسي في القرن السادس عشر سورداس فقد كان معاقًا ومع ذلك قيل بأنّه ألّف أكثر من 125000 أغنية، وقد حظي بالتبجيل أيضًا باعتباره شخصية دينية عظيمة. في المجتمع الهندوسي القديم والعصور الوسطى، تم اعتماد الأفراد من ذوي الإعاقة في وظائف توظيف خاصة حيث تكون إعاقتهم مفيدة لعملهم؛ على سبيل المثال، كان الملوك يستأجرون أشخاصًا يعانون من ضعف السمع أو النطق لنسخ المستندات الحكومية السرّية. قبل أن ننهي هذا الفقرة، لنا أن نسأل بعد التطوّر الكبير في الطب والذي استطاع إنقاذ الكثير من الأطفال من الإعاقة عبر اللقاحات والكشف على الجنين في رحم أمه وأكثر من ذلك قبل التلقيح، ماذا سيبقى من مفهوم الكارما البوذية والهندوسية...؟

الإعاقة رمزٌ للمقاومة والقدرة على التأقلم

لقد كانت الأساطير والأديان في المجتمعات البشرية بمثابة مرآة تعكس التجربة الإنسانية، حيث تكثّفت القيم الثقافية والمخاوف والآمال في قصص تناقلتها الأجيال البشرية عبر التاريخ. وفي هذه الأساطير، غالبًا ما تظهر شخصيات ذات إعاقة، حيث تكون اختلافاتهم الجسدية أو العقلية مصدر قوتهم، بدلًا من أن تمثّل ضعفهم أو مأساتهم. تجسّد هذه الشخصيات في كثير من الأحيان النضال والحكمة والقدرة على التأقلم. وفي العديد من الثقافات، تُرى الإعاقة من خلال عدسة التدخل الإلهي، سواء كعلامة على النعمة الإلهية أو كعقاب. يعدّ الإله الإغريقي هيفايستوس أحد أشهر الشخصيات المعاقة في الأساطير. لقد ولد هيفايستوس بعيب جسدي، وتم طرده من جبل الأوليمبوس من قبل والدته هيرا. وعلى الرغم من ذلك، أصبح هيفايستوس إله النار والحدادة، حيث صنع أسلحة ودروعًا للآلهة، بما في ذلك الدرع الشهير لأخيل. لم تكن إعاقة هيفايستوس مصدر ضعف، بل مصدرًا لعبقريته عبر الاختراعات العجيبة التي أبدعها، حيث يعدّ أول من اخترع آليًّا (روبوت) لمساعدته في أعماله.

تُعد شخصية الكاهن تيريسياس في الأساطير الإغريقية القديمة مثالًا بارزًا، فلقد أُصيب بالعمى، إمّا كعقاب أو كهدية إلهية، بحسب روايات مختلفة، لكنّه مُنح القدرة على التنبؤ بالمستقبل. أصبح عماه رمزًا للبصيرة الداخلية والحكمة التي تتجاوز العالم المادي. يتردّد هذا الموضوع في الأساطير النوردية مع الإله أودين، الذي ضحى بعينه مقابل الحكمة، ممّا يوحي بأنّ البصيرة الحقيقية غالبًا ما تأتي بتكلفة شخصية كبيرة.

تُصور الشخصيات المعوّقة في بعض الأساطير، على أنّها متوحّشة أو غير طبيعية، وتعبّر عن مخاوف المجتمع وقلقه. يُعد العملاق بوليفيموس، ذو العين الواحدة، في الأوديسة لهوميروس الذي كان أعمى أيضًا، مثالًا رئيسيًا عن الاختلاف الجسدي والأخلاقي والاجتماعي عن الكائنات البشرية، لكن تواجده في الأوديسة هو تحدّ لأوديسيوس لينظر في إنسانية ما هو متوحّش. وبالمثل، في الأساطير اليابانية، تُعد تينغو مخلوقات تشبه الطيور بوجوه أو أطراف مشوّهة ومخيفة، وغالبًا ما تُصور كأرواح شريرة. لكن مع مرور الوقت، تم النظر إليها كحماة للجبال ومعلّمة لفنون الدفاع عن النفس، ممّا يُظهر كيف يمكن أن تتطوّر التصوّرات حول الإعاقة والاختلاف من الخوف إلى الاحترام.

في بعض الأساطير الأميركية الأصلية، تخضع الشخصيات ذات الاختلافات الجسدية لتحوّلات تؤدي عبرها أدوارًا مهمّة في مجتمعاتها. فعلى سبيل المثال، في قصة "الصبي الحجري" من أساطير قبيلة لاكوتا سو، حدث أن وُلد صبي من حجر، وله جسم صلب كالحجر، لكنّه يصبح بطلًا من خلال قدراته الفريدة، مستخدمًا اختلافه لصالح مجتمعه.

إنّ الشخصيات المعاقة في الأساطير والأديان، ليست مجرد رموز للضعف الجسدي أو الفشل الأخلاقي، إنّها شخصيات ذوات جوانب عديدة، تجسّد غالبًا صمود الروح الإنسانية والسعي وراء الحكمة وإمكانية التغيّر، كالنبي أيوب على سبيل المثال. هذه الشخصيات المعاقة، سواء تم تبجيلها كمبصرين حكماء، أو خوفًا منها ككائنات متوحشة، أو تم الاحتفاء بها كأبطال، فإنّها تتحدّانا لإعادة النظر في تصوراتنا حول الإعاقة، عبر تسليط الضوء على الطرق الخفيّة التي يمكن أن يتشكّل بها الاختلاف بين البشر. ولقد رأينا في هذا المقال كيف عكست الأساطير والأديان رؤى المجتمع حول الإعاقة، والتي من خلالها نستطيع أن نقرأ واقع الإعاقة حاليًا في زمننا، ما بين القبول والرفض، وما بين المدح والذّم.

*كاتب سوري.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.