}

عن الأناركية بوصفها نظامًا بلا سلطة

عمر كوش عمر كوش 17 يوليه 2024
استعادات عن الأناركية بوصفها نظامًا بلا سلطة
محمد باميه (صفحة المجلس العربي للعلوم الاجتماعيّة- فيسبوك)

عُرفت الأناركية، أو اللاسلطوية، باعتبارها فكرًا سياسيًا، يمتد عمره إلى أكثر من مائتي عام مضت، وأشاد بمركّبات هذا الفكر فلاسفة ومفكرون، رأوه طريقًا للسلام والحرية، لا الكراهية والعنف. وكان الفكر الأناركي أحد أكثر الأفكار التي لاقت رواجًا واسعًا خلال القرن العشرين، وأثير حوله كثير من الجدل والاختلاف. ويعتبر محمد باميه في كتابه "نظام بلا سلطة: المفهوم الأناركي للنظام الاجتماعي" (ترجمة كريستينا كاغدو وشكري ريان، جسور، بيروت، 2024) أن الفلسفة اللاسلطوية هي نقد شامل لمقولة ضرورة وجود سلطة تحكم المجتمع، ودفاع عن بديل جذري، يتكوّن من إزالة نظم الحكم السياسية والدول كما نعرفها، واستبدالها بنظام تشاركي، يتيح للإنسان العادي تقرير مصيره، والمشاركة المباشرة مع الآخرين في تحديد الصالح العام.

تاريخيًا، ساهم الأناركيون في بناء نموذج للتنظيم التشاركي لوسائل الإنتاج وتوزيع الملكية، بواسطة جمعيات ولجان شعبية تشكلت خلال ثورة الحركة الماخنوية بأوكرانيا بين عامي 1917 و1919، كما وقفوا ضد الديكتاتورية في اسبانيا بين 1936 و1939، وشكّلوا فيها العديد من المناطق التعاونية، وكانت مناطق لاسلطوية تدير أمورها اليومية بشكل ذاتي وتعاوني في غياب أي سلطة أو آلية قمعية، ثم تأسّست منظمات أناركية نقابية، خاصة في مناطق إقليم كاتالونيا، وشكّلت بدائل غير هرمية اجتماعيًا واقتصاديًا. أما في أواسط القرن العشرين الماضي، فكان للأناركية تأثير كبير في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، خاصة في المكسيك.

يستند باميه في طرحه إلى منهجيات فلسفية وتاريخية وسوسيولوجية، يعرض أسسها في هذا الكتاب، من أجل إبراز التاريخ الاجتماعي الذي يضع دور الإنسان العادي في صنع التاريخ، وإنشاء المجتمع بالتضامن مع الآخرين، وتطوير الجزء الطوعي من تقاليده. ويرى أن دور الإنسان العادي في صنع التاريخ والمجتمع تجسّد في الثورات العربية التي اندلعت مع مطلع عام 2011، واتّبعت أسلوبًا أناركيًا غير معتاد للحراك الاحتجاجي، حيث لم يكن لتلك الثورات زعيم، ولم تنتج قادة لتمثيلها. كما لم يقم أي حزب سياسي أو منظمة بتوجيه الثورات، التي تميزت جميعها، خاصة في مراحلها الأولى، بفن الحركة العفوي، الخفيف والمبهج. وطرحت كل الثورات العربية فكرة الشعب كتفعيل مباشر لدور المواطن، وليس كفكرة مجردة. إضافة إلى أنها عبّرت عن عدم إيمانها بالنخب، وكشفت عن ثقافة لا سلطوية متجذرة في الثقافة الشعبية منفصلة عن الدولة، وإن كانت غير واعية بنفسها. وباعتبار أن تداعياتها تضمّنت صراعًا على السلطة، فذلك يؤكد على أن وجود السلطة هو الذي يؤدي إلى صراع عليها، وكلما ازداد حجم السلطة ازدادت ضراوة الصراع للاستيلاء عليها، وانطلاقًا من هذه النقطة، تتطلب اللاسلطوية اللاواعية من الانتفاضات العربية نوعًا من الوعي يوضح مآلاتها، فيما ينبغي تسليط الضوء على جوانب اللاسلطوية في ثقافة الثورة، لأن هذه الجوانب يتم في العادة تجاهلها في مرحلة ما بعد الثورة حين يتعلّق السؤال بطبيعة السلطة الآتية، بينما يستمر الفكر اللاسلطوي في الحياة كما كان دائمًا خارج السلطة السياسية، بوصفه مصدر التكوين التاريخي للمجتمع المدني، ولمنحه نوعًا من الاستقلالية عن الدولة.

يفتح باميه، في كتابه، النقاش على التاريخ المقارن من أجل تبيان تموضع الفكر اللاسلطوي في الثقافات العالمية، وتوضيح أن الفكر اللاسلطوي هو نظرة تتمحور حول الإنسان العادي، وطاقته الخلاقة لواقع غير مفروض، من دون أن يعطي هذا الإنسان صفات بطولية، لأن الفكر اللاسلطوي يسعى إلى نزع الصفات البطولية من أهل السلطة، وينطلق من تصوّر يفترض اللاسلطوية كامنة في بعض الأنساق العفوية للروابط الإنسانية، ويعتبرها علم الإنسانية، وهي تعني ببساطة غياب السلطة عن النظام الاجتماعي، لأنها تدلّ على نظام اجتماعي لا يعتمد على سلطة، ويسعى إلى إزالة العوائق، مثل الحكومات والدول والهياكل الاستبدادية، من أجل الانعتاق الإنساني.


تطمح الأناركية إذًا إلى مجتمع إنساني لا وجود للسلطة فيه، ولا يهيمن عليه فرد أو جماعة، فأصل المشكلة هي السلطة نفسها، لأنها آلية استبدادية وقهرية وقمعية، تلغي إرادة وحرية الإنسان، لذلك يرفض اللاسلطويون مختلف الأشكال التنظيمية للمجتمع القائمة على السلطة كالدولة، المؤسسات الحكومية، الأحزاب، الهياكل الهرمية، وينظرون إليها كهياكل تضع السلطة في يد أقلية تفرض خياراتها ونظامها على غالبية الشعب.

غير أن الفهم السائد ينظر إلى الفلسفة اللاسلطوية أحيانًا بشكل خاطئ، عبر تصويرها وكأنها دعوة للفوضى، بل إن الترجمة العربية المعتادة لكلمة الأناركية هي "الفوضى"، وذلك على الرغم أن المفهوم الأساسي للأناركية يقوم على اعتبارها نوعًا من النظام الاجتماعي الذي لا يعتمد على السلطة، ويستمد صيرورته من التقاليد الاجتماعية، التي يتم الاتفاق عليها بشكل طوعي وبراغماتي. وعليه فإن الأناركيّة تعني نظامًا ولكن بدون سلطة، أي "لا سلطوية"، وليس فوضى أبدًا. ويركز التفكير اللاسلطوي على مفهومي الدولة والسلطة، حيث يعتبر أن النظام الموجود، بما فيه المؤسسات المرتبطة به، ليس طبيعيًا، وإنما يحتاج إلى تبرير مستمر، ويسائل الهدف الأساسي منها والفائدة منها، عوضًا عن الاحتفاظ بها كمقدّسات مسلمّ بها، فالاحتفاظ بالدولة، وإطاعة القانون، والسعي إلى القيام بمهام جماعية، لا معنى لها إلا في حال وجود اتفاق جماعي طوعي، لذلك يرفض الأناركيون الدولة القائمة ومؤسساتها القائمة على العنف والإكراه، حيث يعتبرون أن الدولة هي تطور حديث في المنظومة الاجتماعية والسياسية، وأن معظم الأفراد في التاريخ البشري كانوا يقومون بتنظيم أنفسهم في مجتمع دون وجود حكومة، كما أن الأناركيين يرون أن غالبية المؤسسات السياسية والدينية القائمة غير رشيدة، وتمنع قيام حياة اجتماعية منظمة، لأنه لو ترك المجتمع لتفاعلاته الخاصة سينتج مجتمعًا خلاقًا، ويمكن للناس العيش في حرية وسلام، والوثوق ببعضهم البعض، لذلك ترفض الأناركية السلطة على خلفية أن وجودها يشكّل اعتداءً على مبادئ المساواة والحرية، فهي تقوم بفرض الاستعباد، وبقمع وتقييد الحريات ومختلف تجليات الحياة الإنسانية، وتنتج عدم المساواة السياسية، عبر منح أحقية مزعومة لفرد واحد للتحكم في حيوات الآخرين، فوجود السلطة يسبّب ضررًا بالخاضعين لها، وبما يتعارض مع كون الإنسان كائنًا حرًّا مستقلًا، وجزءًا من مجموعة بشرية، قابلًا لاستشراف الحكمة والسعي خلفها، بينما يفضي خضوعه للسلطة إلى تعرّض طبيعته للقمع وبالتالي ينزلق إلى التبعية، لذلك اعتبر الفيلسوف البريطاني ويليام غودوين أن الانسان كائن عقلاني، يميل إلى الحياة وفقًا للحقيقة والقوانين الاخلاقية، وأن الدولة والقوانين غير الطبيعية تتسبّب في الظلم والعدوان والجشع، وبالتالي فإن الظلم ليس نتيجة خطيئة أصيلة في البشر، بل نتيجة وجود السلطة، وبالتالي فإن النظام الاجتماعي ينشأ بشكل طبيعي وتلقائي، فيما ادّعت الدولة الحديثة أنها تستمد سلطتها من الشعب، وقد أصبح هذا الادّعاء شاملًا لكل الدول الحديثة، بما فيها الدول الديكتاتورية، التي لا تستشير شعبها بأي شأن من شؤون الحكم.

يسير باميه في كتابه باتجاه تحديد المواضيع الأساسية للأناركية، التي يعترف بأنها لا تمتلك عقيدة عالمية موحدة، لذلك فإن الغاية من كتابه هي توضيح وإنارة الفكرة الأساسية للأناركية المتجسّدة في النظام غير المفروض، حيث يسلك عددًا من المسارات المتفرّعة من هذه الفكرة الأساسية، والدمج بشكل منطقي بين التوجّهين الرئيسيين في الفكر اللاسلطوي، عبر التركيز على حق تقرير المصير الجماعي من جهة، والحرية الفردية من جهة ثانية، أو بالأحرى بين اللاسلطوية الشيوعية واللاسلطوية التحرّرية أو الفردية، حيث يركز اللاسلطويون التحرريون، ومن بينهم المفكر الألماني ماكس ستاينر، على مسألة الحرية الفردية، ويفترضون أن التوافق الجماعي والازدهار والمساواة ستتحقق من خلال التركيز على الحرية الفردية، في حين أن اللاسلطويون الشيوعيون، ومن بينهم المفكر الروسي بيوتر كروبوتكين، يرون بأن العمل على مشروع جماعي سيهتم بالضرورة ويعالج مسألة الحرية الفردية. ويعتبر باميه أن الأفكار التحررية يمكنها تقدير عقلانية اللاسلطة مثلها مثل الأفكار المجتمعية، ولكي تكون الفكرة عن اللاسلطة متّسقة، عليها أن تكون مركّبة من هذه الاتجاهين، لأن اللاسلطوية، كما يقاربها، تصف إمكانية تساوي الحرية والالتزام كشرطين إنسانيين متكاملين وضروريين، وهما بنفس الوقت طريقين متقاربين يقودان إلى نظام أكثر إنسانية، ويجدان نفسيهما في طاقة المجتمع المدني التاريخية أكثر من تراخيص الدولة وإملاءاتها. هذا المركّب هو ما يجهد الكتاب في وصفه، وتبيان فعاليته في اتساقه وإنسانيته، مثلما يجب أن تكون اللاسلطوية، بوصفها علمًا إنسانيًا بمبادئ غير معقدة، وكل مواضيع هذا العلم تنبثق من مبدأ واحد، يتجسّد في أن النظام غير المفروض هو جوهر اللاسلطوية. وعليه فإن الفكر اللاسلطوي، وكذلك الممارسات اللاسلطوية لا تختصر بتجارب اللاسلطويين واللاسلطويات، الذي يعبّرون عن أنفسهم كذلك، بل إن هنالك تاريخًا من الروابط الإنسانية الطوعية والمجتمع المدني، ويمكن أن تجد اللاسلطوية متحققها في التجربة الإنسانية التاريخية الواسعة والمديدة، حيث لا تهتم بالبطولات والمواقف البطولية، بل بالمواقف الإنسانية التلقائية والطبيعية التي تهتم بذاتها وبالآخرين أيضًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.