مثلما هي الآن، النوستالجيا أصلها يوناني، مركّبة من اثنين: "نوستاس"، أي الديار، و"ألْغوس"، أي الحزن، أو الحسرة. طرحها طبيب سويسري في القرن السابع عشر، اسمه جوهانس هوفر، لتحديد اضطرابات نفسية خطيرة تفضي إلى المرض، أو الانتحار، أو ترك النفس تنطفئ حتى الموت... والمصابون بها هم الأشخاص العائشون بعيدًا عن ديارهم، كالجنود على الجبهات، أو الخدم المرْسلين إلى الخارج. وقد عالج هوفر عددًا منهم.
ولمزيد من العلم، بحث هوفر عن أسباب بيولوجية للمرض، فقال إن النوستالجيا هي "قلب منكسر" تضغط عليه "ذبذبات متواصلة تصدرها أرواح حيوانية في بعض مناطق الدماغ"، وإن أصحابها لا يجدون لأنفسهم إلا علاجًا واحدًا هو العودة إلى بلدهم.
هكذا عُدّ النوستالجيون من بين أصحاب الأمراض العقلية، واعتُبِروا مصابين بمتلازمة السترسْ الذي تتسبب به الصدمة. فأدخلوا المصحّات العقلية، وخضعوا للعلاجات القاسية.
فعاشت النوستالجيا، بصفتها مرضًا عقليًا، حتى جاءت الحداثة لتنتزعها من المصحات وتضعها في قلب الإنتاج الإبداعي الخاص بتيار الرومنطيقيين الأوروبيين.
الرومنطيقيون كانوا في طليعة الثورة الثقافية ضد الحضارة الحداثية، وذلك باسم بعض قيم الماضي. وجوهر مآخذهم على هذه الحضارة أنها أحلّت على روح أبنائها وخيالهم ذلك الذي أسمته "ديزنْشْنْتمان". أي، حرفيًا، "نزع السحر عن العالم". ومفردة " ديزنْشْنْتمان" اقترحها الألماني ماكس فيبر (1917)، بصفتها حسْرة على تراجع المعتقدات الدينية والسحرية والجمالية والشعرية لصالح عالم مملّ، نفعي تجاري، لا يملك سلاحًا غير التفسيرات العلمية. و"الديزنْشْنْتمان" الرومنطيقي هذا يجمع بين القرف من الحاضر، والخيبة وتثبّط العزيمة والندم واليأس. وهو يحمل معاني تناهض المَكْننة والعقلانية المجرّدة والتشيوء وانحلال العلاقات الاجتماعية وإخضاعها للحسابات النفعية.
القرون الوسطى هي موطن خيال الرومنطيقيين. تلك المرحلة العالقة بين العظمة الشعرية والأخلاقية للعهد القديم، وبين الغليان الفكري والفني لعهد الأنوار والحداثة. مرحلة ينعتونها بـ"الذهبية"، يستلْهمونها، يبحثون في سنواتها، ويصْبون إليها بمسعى شبه روحي، يحيون جمالها وأخلاقها التي أضاعتها الحداثة بنظرهم، وينهلون منها كل وحيهم.
والواقع أن هذا التوق نحو القرون الوسطى لدى الرومنطيقيين ربطه المتابعون ببحث الرومنطيقيين عن جذروهم الوطنية. يتحرّون عن أجداد وأسلاف، يبنون معهم وصلًا، جسرًا، هو الخيط الرابط لهويتهم. وخلافًا للتشهير الذي تخوضه الحداثة ضد قرون تنعتها بـ"الظلام"، يحيي الرومنطيقيون روحها البطولية وفروسيتها، وصفاء تقاليدها ونقاء معانيها في الغرام والسعادة.
وعلى وقع هذا الانقسام، بين حداثة منتصرة ورومنطيقيين يصْبون إلى ما قبلها، تدافع الحداثة عن نفسها بنعتْ الرومنطيقيين بـ"الرجعية"، وبتحميل نفسها وحدها قدرات السعادة والوفرة والتقدم... إلخ.
والحال ليس بهذا "التعادل" الصافي. من داخل الرومنطيقيين، وقبل أن تشتد سمعة النوستالجيا سوءًا، وجد من يعطيها نفحة مستقبلية. البريطاني وليم موريس، فنان وكاتب ومناضل اشتراكي في أواسط التاسع عشر، بدأ رومنطيقيًا "ماضويًا"، وتحول إلى رومنطيقي "مستقبلي"، بعدما عرف الماركسية وقرأ عنها. فاخترع رومنطيقية "تقدمية" تمزج بين "الرحلة الطوباوية في الماضي وبين التقدم باتجاه المستقبل الاشتراكي". وعشّق موريس الحسرة بضياع الماضي بأفكاره الاشتراكية الجديدة. فكان مصدر وحيه العالم الما قبل حداثي، بجماله وعواطفه وقيمه الثقافية الأخلاقية والجمالية.
لكن كتابات وليم موريس غابت عن الصدارة بسبب نجاحات الحداثة المتسارعة. وصارت الرومنطيقية رديفا للسذاجة، أو التخلف، أو التكرار، أو المازوشية، أو الثقل. ورغم تحسّن سمعتها في السنوات الأخيرة، إلا أن الكلمة نفسها أصبحت مثيرة للهزل وموحية برخاوة عقلية ما.
عودة إلى التعريف: النوستالجيا ليست الميلانكوليا: وهذه الأخيرة أيضًا مستعارة من اليونانية، أي "ملانخوليا"، التي تطور معناها، فصارت تدل على "المزاج الأسود". انتقلت إلى العربية العامية بمفردة "مناخوليا"، والتي تعني انعدام التوازن العقلي. أما القاموس العربي، فيترجم الملانكوليا بالكآبة، والحزن، والحنين إلى الوطن، والتوق إلى الماضي، والشوق، والغم والضيق والكرب والتشاؤم والوحدة والفراق. وكل هذه المفردات تتقاطع مع الملانكوليا، ولكنها لا تغطيها.
أيضًا، لا تعني النوستالجيا الاجترار، أي تكرار استعادة ماضي محدّد، وتحويل هذا الماضي إلى ما يشبه الجماد، أو مدخل إلى الألفة العاطفية. والاجترار الذي يتذرع بالماضي فيه نوع من الجمود والجفاف.
وفي التعريف أيضًا، النوستالجيا مكوّنة من عنصرين: الوقت والذاكرة. ليكون ثمة نوستالجيا، يجب أن يكون ثمة وقت قد مرّ. الوقت مادة النوستالجيا. من دون وقت لا ندم ولا حنين ولا شوق. وبالإضافة إلى الوقت، تأتي الذاكرة لتكتمل عملية النوستالجيا. من دون ذاكرة، لا يوجد وقت. من دون ذاكرة، ينعدم الوقت، ولا نوستالجيا. والاجترار يؤذي النوستالجيا، وينزع عنها الوقت حينًا، أو الذاكرة حينًا آخر. وعندما يغالي، ينزع الاثنين.
ذلك أن النوستالجيا فيها طعم حلو مرّ. تؤنس القلب، وتدخل الحرارة إلى الشرايين. وفي الوقت نفسه، تكون مهمومة، لكون أصلها من ماض لا يتكرر. حتى الأحداث والمشاعر الحزينة المخزَّنة في الذاكرة تحولها مصفاة النوستالجيا إلى رواية ممتعة. النفسانيون يقولون بأنها وسيلة للتفكير بما نحن فيه، وبإعطاء معنى لحياتنا، وأحيانًا لهويتنا.
وهناك أنواع من النوستالجيا.
أولها فردية تخص زمنًا ماضيًا. الرومنطيقيون طبعًا على رأسها. تليهم كل ذكريات الطفولة والمراهقة والشباب. وذكرى الأهل الراحلين، وقصص الحب القديمة.
منتجو الترفيه، سينما، ألعاب، مطاعم، أندية، أزياء، مفروشات منزل، أكسسْوارات، قصات شعر... جميعهم يعوّلون على هذه النوستالجيا لتصريف إنتاجهم القائم على أشكال الماضي الجمالية وألوانه وتقاطيعه.
ثاني أنواع النوستالجيا جماعي. وتختلط فيه الشعوب بالحقبات. فيكون حنينًا إلى عهود مضت، مثل النوستالجيا لزمن العبودية، أو الاستبداد، أو المَلَكية، أو الإمبراطورية الإسلامية، أو العثمانية، أو الرومانية... أصحابها لم يعاصروا هذه الأوقات، ولكنهم يحبونها، يحلمون لو عاشوا في أيامها. وربما هذه تصورات نتجت عن سوء ما لحق بهم، عن خيبة، عن عيوب راهنة كثيرة، مثل الضعف، أو فقر مستجد، أو ذل بعد كرامة، أو من دونها.
وهنالك نوستالجيا تجمع الزمان بالمكان. أي أن أصحابها يتوقون إلى ما كانوا عليه ماضيًا، وإلى المكان الذي تركوه وراءهم. وقد تعود أقدم النوستالجيات إلى أولى الهجرات التي خاضها البشر منذ عشرات الآلاف من السنوات، مثل هجرة سكان آسيا إلى أميركا عبر مضيق بيرينغ الشمالي الفاصل بين القارتين.
فمن ترك أرضه هربًا من جوع، أو موت، يترك فيها أيضًا شيئًا من نفسه، يكبر حجمه كلما ابتعد، فيُصاب طوال بقية حياته بالنوستالجيا. والمهاجر، المنفي، المطرود، الهارب، أول هؤلاء.
والجديد في النوستالجيا أنه دخل إليها فرع هو صنيع العصر، أقصد الأزمة المناخية المتصاعدة. اسمها "السولاستالجيا"، أي الحنين إلى مكان وزمان ما زالا قائمين، ما زالا أمامنا، ولكنهما اختلفا. والسولاستالجيا عبارة نحَتها فيلسوف أسترالي، اسمه غلين ألبرخت. ولاقت رواجًا بداء من عام 2000، وصارت ملاصقة لعبارة أخرى، "البؤس البيئي".
وهي ابنة تجربة مباشرة لسكان أحد وديان أستراليا المعروفة، "هنتر فالي"، التي حوّلتها صناعة المناجم إلى أرض محروقة ملوثة، وتهدّد غاباتها القريبة والحيوانات المختلفة التي تعيش فيها.
يبكي غلين ألبرخت عندما يتكلم عنها. يصف السولاستالجيا بأنها "الشوق إلى الوطن، من دون هجرة، من دون منفى". ويعرفها كالتالي: "إنها ألمٌ بلا مواساة من خراب في المحيط القريب... الأنهر الملوثة، كيلومترات من مناجم الفحم المفتوحة على السماء، والتي تبث غبارًا كثيفًا، الطنين الدائم لآلات التنقيب، التي تشبه الانفجارات. إنها تجربة وجودية ناجمة عن تغير بيئي سلبي، نعيشه بصفته اعتداء على شعورنا بالانتماء إلى هذا المكان".
أما سكان الوادي، الذين لم يبرحوه، فقد أصيبوا بـ"ميلانكوليا تشبه النوستالجيا التقليدية، وناجمة عن انهيار العلاقة الطبيعية التي أقاموها بين هويتهم النفسية والعاطفية وبين منازلهم".
السولاستالجيا ليست مثل النوستالجيا ذات الطعم الحلو المرّ. إنها مرارة صرفة، ولّدت أعراضًا نفسية متفاوتة، ولكنها متشابهة، اسمها الإيكو ــ توتر (التوتر البيئي). ويصاب بها كل من كان واعيًا بالأزمة المناخية. إنه توتر ناجم عن حسْرة استباقية وراهنة في آن.
والمصابون بالتوتر البيئي ثلاثة أنواع: المناضل البيئي، "المرهَق" دائمًا من كثرة عمله وقلّة اكتراث من حوله، ثم الأشخاص الذين فهموا لتوهم الأزمة المناخية. قلقهم يقودهم إلى القيام بأي شيء: ترك عملهم، العيش في الريف، تنظيم إعادة تدوير نفاياتهم، اختيار الأطعمة غير الكيميائية... إلخ. وهذه الفئة تضم أفرادًا مبعثرين، غير منظمين كما "المناضل البيئي" الأول. أما الفئة الثالثة التي تعي الأزمة، فهي متأرجحة بين الرغبة بالقيام بأي شيء، وبين الإحساس بأن ذلك لن يفيد.
السولاستالجيا مكتوب لها، مع أزمة المناخ، أن تنْبت هنا وهناك، أن تنتج أدبيات وأقوالًا، وتضيف إلى سجل النوستالجيا فروعًا جديدة، غير منفصلة عنها. ويكون اللاجئ البيئي، أي الهارب من اختفاء جزيرته، أو طوفان بلدته، أو جفاف حقوله، هو المهاجر الجديد. وعدد اللاجئين البيئيين يقارب الآن نحو الثلاثمئة مليون (الأمم المتحدة)، ويمكننا من الآن تخيل مصير نوع النوستالجيا، المركّبة المعقّدة، التي أصيبوا، أو سيصابون بها، والمعاني الإنسانية والجمالية التي غرفوا منها ليعبروا عنها.