}

الحب (2/ 2)

دلال البزري دلال البزري 26 يوليه 2024
يوميات الحب (2/ 2)
(منصور الهبر)
2 ــ هو... ما كان
أعرفه قبل أن أعرفه. وهذه ليست نوايا امرأة عاشقة ضائعة، إنما هو واقع، من صلب الواقع. مرّ بالقرب مني، جلس، وقف، تكلم، ولم أشك لحظة واحدة أنه بعد سنوات سوف يكون هو، هو الذي لا غيره... للحكاية معه بدايتان: الأولى عادية، اجتماعية، لطف وتهذيب، لا أكثر. الثانية زلزال. الثانية قلبت الدنيا وحياتي كلها معها. دخلت معبداً من غناء وبخور. ألهث إليه خفيفة طائرة. لا أصدق، أصدق. لا أحتاج إلى الحدس، أو الفطنة لأدركه.
تأتيني همساتي من عمق بعيد: "وجدته... ها أنا في داخله، هو في داخلي. أعرف رائحته، رائحتي من زمان... شغفه شغفي. تلك الحرارة، حرارتي. هو أنا... أنا هو".
في الصحراء يوماً، حيث لا شيء غير الشمس والرمال، نزل هو من السيارة، وبقيت أنا في داخلها. ابتعد قليلاً عن السيارة وناداني:
ــ تعالي... تعالي... شوفي الصحراء شخصياً، مع الشمس زي الذهب...
ــ لا... أشير إليه... ما بدّي...
أفضّل فيء السيارة.
ــ تعالي! أصرّ. لازم تثقي... أنت مش واثقة مني؟
آه صحيح! الثقة. نسيت الثقة، الحب أقوى من الثقة، هو يشتمل عليها. بوجهه المشرق هذا، ينزل عليّ سؤاله بردًا. الحب الآمن، من دون أية شكوك، جنة ثقة.
ــ طبعاً بوثق.... حبيبي.
ويطلع في بالي أنني فجأة أستطيع أن أنظم قصيدة، أو أنني أعيش داخل قصيدة فسيحة، أتجول في دهاليزها. أجد لها نغمًا، أرقص عليه، أدوّن رغبتي بخيوطها النادرة، أبحر في اللذة كأنني أستسلم إلى طرب الكون، أغرق في جسدي وأنساه، أنام في النجوم ولا أحلم. لا أحتاج. أنغمس في غرابة قصيدتي، في توسّع حدودها.
أعشقه وأضحك. يضحكني، أضحكه. أمضي معه ساعات ضحك متواصل. على ماذا؟ لا نعرف. كل مرة لا نعرف. نقول إننا في المرة القادمة لن نضحك.
ــ منظرنا وحش أدّام الناس...
لكننا نعاود الضحك، يؤجج رغبتي، يضاعف لذتي. بالضحك يخفّ وقتي، وجودي، يتوارى قلقي، تنقشع السماوات أمامي، تصفى، كأنها بكر، كأنها لم تتعذب، هذه السنوات، أو أن تاريخًا لم يمض عليها.
أعشقه، أطير، روحي فوق، فوق. لا ليس الصبا الذي عاد إليّ، إنما الطفولة عادت، والدهشة معها. كل يوم أرى فيه شيئًا جديدًا، كأن عينيّ اغتسلت. كيف لم أندهش من قبل؟ بلى كنت، ولكن الإمعان في الدهشة كان ينقصني، من استعجال خطواتي، من انهماكي... ولكن الآن، الآن؟ أشعر بلفحة نسمة شتوية كأنها لأول مرة. كذلك مرور الصيف وتلك البرهة الخاطفة التي يلتقي فيها الليل بالنهار. البراءة أيضًا. أعود طفلة بريئة.
ــ بل بلهاء!
تصحّح لي صديقتي، أو هكذا تعتقد. تخاف عليّ وتتابع بشعور قوي بالمسؤولية:
ــ هل يصحّ بعد كل هذا الذي عرفته عن هذه الحياة أن لا تحزري خبث الدنيا... الله يستر!
تخشى خروجي من المعبد بضربة قاضية. أما أنا، فألعب أيضًا، ألعب عشقًا، أجد الفرص لألعب، أخترعها. أطبخ كمن يلعب، أغني للخضار وأنا أطبخ، أدخن السيجارة، أتخيل لذة الطعام، أذوقه، أخلط البهارات، أخترع أطباقًا. أتكلم فألعب بالكلمات، وأكثر ما يسعدني أن يردّ علي هو بكلمات أخرى تجرّ كلماتي، وكأنني أتجول وسط أحرف في حديقتي الداخلية. أرقص كمن يلعب، أو ألعب كمن يرقص. بيني وبين الأنغام تواطؤ، مناجاة. الموسيقى تطلع من هنا، من داخلي، فأكون جاهزة لأحاكيها، أطير بها أيضًا، اللعب يعطيني أجنحة.
أحياناً، أحيانًا قليلة، نادرة.... عندما تأخذني أشيائي الأخرى بعيدًا عنه، يقول لي:
ــ أحبك أكثر ما تحبيني. أنت تحبينني أقل.
ندخل في مقارنات، بلعبة المزايدة الغرامية، ومثل الأطفال:
ــ أنا...
ــ لا... أنا...
أنا وأنت، أنت وأنا. من أنت؟ أنت أنا. أنا أنت. أشفق على حبه لي، أتصور موتي، يصيبني قنوط. لكن دفئه أقوى. لا أنسى لحظة واحدة سعادتي. حبه يغمر حبي، يحميه من كارهي الدنيا.
يغيب عني في بلاد أخرى. يصيبني الشوق اللذيذ. ابتعاده مثل الاختبار، يرفع من درجة حرارتي. في غيابه أستعيد بريق وجوده، لحظة بلحظة. أقيس الوقت الذي يفصلنا: "سوف يعود بعد خمسين ساعة... بعد عشرين ساعة... بعد عشر ساعات".
أبتسم لوحدي، تتجمّد ابتسامتي. أبقى مبتسمة ساعات... هكذا... لا أعرف لماذا؟ ربما أعرف...
ــ ألو....! حبيبتي.
يأتي صوته من بعيد، عبر الهاتف. صوته يدخل إلى قلبي. يطرق بصوته فيرقص كياني. بقعة نور تصلني عبر آلاف الكيلومترات. في بعاده أعيش حياتين، حياته قبل حياتي، أتخيله وهو بعيد: "هو الآن نائم... يقود السيارة... يحلق ذقنه..."، فينتعش حدْسي. أعتقد يومًا ما أنه قادم اليوم، هذه الليلة بالذات، أو أنه سوف يحضر معه ريشة، أو سمكة حمراء. وكل مرة يحضر ليلتها، يأتي بالريشة معه، أو السمكة الحمراء.
أقول له إنني محظوظة به. يقول هو "نحن الاثنان محظوظان". الحظ! ما هو؟ أفكر. أريد إجابة من نفسي. لا الفلاسفة ولا الفقهاء، أريد أن أفهم "حظي"، كيف؟ بأية أمارة؟ بأية كفاءة؟ أكون أسعد نساء الأرض؟ لا أريد أن أتابع، لا أريد أن أشك، إيماني أقوى من الشك، أعزف عن التساؤل، أطلق العنان لإيماني. يضعني إيماني في أرفع المراتب. هو هكذا، يجعلني أعتقد بأنني مختارة. "إنه القدر"، أطمئن نفسي. "لست أنا من قرر"، أتابع، "القدر" هو المكتوب، هو إرادة سبقتني. أستسلم له. ولا مرة أحببتُ القدر كما الآن. كان وهمًا أو سخطًا، والآن أصبح صديقًا.
لا تدوم هذه الصداقة. أضطرب فجأة، يصيبني هلعٌ ينسف غبطتي. هلعٌ يفكّك عظامي. وأعود مرة ثانية: ماذا لو كانت كل هذه السعادة شيئًا غير طبيعي، خروجًا عن قانون الحياة، أو البشر؟ عن قانون الحظ والقدر؟ ولماذا أكون أنا بالذات صاحبة الامتياز بكل هذه السعادة؟ بأي جهد؟ بأية كفاءة؟ بأية فضيلة؟ ماذا لو كان مآلها شؤمًا، مصيبة، أشد من أية مصيبة؟ ماذا لو كان هذا القدر، السخي الآن، يستعد للانقلاب على نفسه، في لحظة قدر أخرى، نقيضة؟ أنظر إلى سماء الليل، أستشير النجوم والكواكب، ماذا تخبىء لي في حركتها، تفجراتها، عواصفها؟
يعاندني الهلع، ولا أتخيل غير القصاص نازلًا عليّ، فقدان، رحيل، موت. أهمس لنفسي بأن هذه السعادة غير طبيعية، خارجة عن السياق، خارجة عن سيرة النساء في عائلتي. كلهن بدأت حياتهن بحب انتهى بمصيبة. تحضر قصص رتيبة سمعتها من جدتي، عنها وعن أمها، من أمي وخالاتي، عن سلالتهن الملعونة، عن قدر هذه السلالة المحتوم مع الخيبة والعذاب. كيف أكون أنا محصنة ضد لعنة من دون غيري من الأجيال الغفيرة من نساء عائلتي؟ كيف أكون مستثناة من اللعنة؟ أطرد هذه الأفكار. الشك يفسد سعادتي. أتحايل على عقلي، لا دوائر حادة ولا مدورة، ولا زوايا نظر. مثل المصلين، أريد أن يترسّخ إيماني بإيماني. ألجأ إلى أساليب لم أعهدها؛ لعبة أقنعة وأحجبة وتعاويذ. أضع حرزًا أزرق على رقبتي، أتمتم كلمات أخالها للحماية، أضحي بلساني وأقرر أن صمت، أن أجوع، أن أبرد... كفارة. أخترع مذبحًا في البيت، بعيدًا عن المرايا، أصلي فيه كما يحلو لي. أصلي وأصلي...
ليس قلبي وحده تصيبه أسهم الهلوسة. عقلي أيضًا يتحول إلى قلعة تصدّ وسوسة القدر. مجلة تصدر عن جمعية خيرية تبعث لي بسؤالين، تطلب الإجابة: "هل صحيح أن السعادة صعبة التحقّق في عالم غير سعيد؟ وما هي السبل للتخفيف من كآبة البشر؟". لا أنظر إلى السؤال الثاني، وبدل الإجابة على الأول أجد نفسي، بعجرفة المبتهجين بحظهم، أطرح عليها سؤالًا مقلوبًا: "أليس أسهل أن تكون سعيدًا وسط التعاسة، من أن تكون تعيسًا وسط التعاسة؟". كأنني، بجوابي هذا، أبشّر بالسعادة، أحيل التعاسة إلى عمى، أو كسل، أو تشنج فكري. أعرض عضلاتي، أتباهى بقدري.
لا نختار من نحب، هذا إن لم يكن هم الذين اختارونا، والأرجح أن الأمر كذلك. فأنا لم أختر، فقط كنت أستبعد: منذ بداية عهدي بالهوى لم يجذبني رجال السطوة. ربما هواهم بأنفسهم، أو نفوري من السطوة نفسها، ومن جمهرة النساء المنجذبات بقوة نحو أصحابها. منذ البداية، أبحث عن شعلة مرمية على قارعة طريق، عن جوهرة لا تعرف قيمتها، عن رجل حرّ، صعلوك أصيل، منطلق هكذا في الدنيا، من دون خيوط مخفية، أو شبكات عنقودية. هو اختارني، هو الصعلوك... هكذا وجدته.
هل أستطيع وصفه؟ كتلة نار من هوى. شهوة من هوى. جسد من هوى. لا أرى شيئًا غير ذلك. لا مظهره ولا مهنته ولا جنسيته ولا اهتماماته. فقط هواه. عبقرية هواه. وصاله، بريقه، رائحته، رغبته، خفة وجوده. سرق قلبي وشغفي. تحذرني صديقتي:
ــ انتبهي.... هيك حب بيتحول لكراهية.
أجيبها بأنه يختلف عن كل الرجال، وأنا أختلف عن بقية النساء.
ــ بشو بتختلفي يعني؟
ــ بحظي... بقدري... مكتوب.... مكتوب على الجبين.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
26 يوليه 2024
يوميات
24 يوليه 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.