}

رسالة من تحت الأيام

دلال البزري دلال البزري 17 سبتمبر 2024
يوميات رسالة من تحت الأيام
(تغريد بقشي)

 

عندما أحالوني إلى "لجنة فحص التقاعد"، وكان القصد منها اتخاذ القرار بإحالتي إلى التقاعد، أو الاستمرار بالعمل، انتبهتُ إلى عمري. أو أنني كنت منتبهة له، ولكنني غير متخيّلة مفاجأته، ولا سرعته؛ كالفأس على الرأس جاء هذا الموعد مع "اللجنة". صار الموضوع رسميًا وحاضرًا. لم أعد أستطيع أن أتنعم بنسيانه، من أنني في الرابعة والستين من العمر، هرمة، مسنّة، عجوز. تختلط الكلمات، أبحث في القاموس عن معانيها المختلفة، لعلني أجد "رتبة" تصفني في أوائل شيخوختي، لا تخلط بيني وبين السبعينية أو التسعينية، ولكن كلهم سواء.

السيدة التي تستقبل المتقاعدين الجدد جالسة على باب اللجنة، أمامها طاولة ودفتر كبير، تحمل قلمًا، هي منهمكة باستخدامه، تلقي عليّ نظرة سريعة، كأنها تفحصني قبل الفحص، تأخذ المعلومات اللازمة: الاسم، تاريخ ومكان الولادة، اسم المؤسسة، أمراض شائعة (سكري، ضغط، سرطان)، ثم تدعوني إلى الانتظار قليلًا، قبل أن تدخلني إلى "اللجنة".

في "اللجنة": إذًا: هل تدخنّين؟ نعم. كم سيجارة في اليوم؟ خمس سجائر ماكسيموم. وكنت بذلك أكذب قليلًا. إذ تتجاوز سيجاراتي المحروقة في اليوم، العشرين. "ما بيهمّ العدد! أو يمكن يهمّ لو كنت بتدخني سيجارتين في اليوم، سيجارتين بس!".

ثم لاحظوا أنني شاردة، لا "أركز"، أن ذاكرتي ضعيفة، وكذلك نظري وسمعي، إلا أنفي الذي أعلم بأنه بقي نشيطًا، وأنني أضع بروتيز في ركبتي اليمين، وديسك في ظهري. أي أنني لا أستطيع أن أقعد طويلًا على مكتب، والقعود في وظيفتي أساسي. نجلس لنتشاور، نجلس لاستقبال أصحاب الملفات، نجلس لندخن، لنأكل... هذا غير ندوب بشعة لجروح قديمة، لكنها تركت زوائد مثل كرات صغيرة منتشرة على طول ذراعي ويدي الشمال.

"اللجنة الفاحصة" مؤلفة من اثنين، متفقان على خطوات الفحص. عندما دخلت غرفتهما، بدت على وجهيهما علامات الروتين بعيونهما الخبيرة. كأن قرار تقاعدي متخذًا سلفًا. طرحا أسئلتهما بهدوء من يؤخّر الانقضاض على غريم. أخذا وضعية التشاور، لم يطيلا. وأصدرا قرارهما أنني غير مؤهلة للاستمرار في العمل.

هكذا دخلت رسميًا وعمليًا في معترك العمر.

فكرتُ وأنا خارجة من فحص اللجنة أنني كنت راغبة بالتقاعد. وصمّمت على إبقاء هذه الفكرة في ذهني، وطوّرتها، من أنني سأرتاح من شقاء البيت والعمل معًا، لن ألهث طوال النهار وراء الاثنين. سيكون لدي وقت وهوايات وسفر، وزيارات ومشاوير.

طبعًا كنت أكابر. فالدخول في معترك العمر، وبهذه الوضعية التقاعدية، سوف يكون كالدخول إلى مدرسة الحياة، أو بالأحرى مدرسة حياة أخرى، لتصبح للحياة مدرستين. واحدة للصبا، وثانية للشيخوخة، متواصلة، غير منقطعة، تسير بانضباط مع الوقت. لها وقت أكيد، مثل السيف ينزل على الرقبة، لا يفيد معه لا التظلّم ولا المقاومة. وداخل كل واحدة فروع، تتصل ببعضها، مثل سلسلة من حديد لا تنقطع إلا بالموت.

آه الموت. وهذا معروف، تتداوله الأجيال والحضارات كلها من أن الطريقة الوحيدة لتجنّب الشيخوخة، هي الموت. ويغالي آخرون بأن الموت في سن الشباب له فضائله أيضًا: من أن صورتك توقفت عند صباك، ندية بريئة، لا يهزّها مرور السنوات. وأن موتك سيكون سريعًا، لا أمراض، ولا احتضار، ولا عجَز، ولا مستشفيات. وأن غيابك سيكون صادمًا لأحبائك. وسيمشي في جنازاتك الكثيرون، ستكون الصلاة على روحك مثل عرسك الذي لم يتمَّم.

صار لي الآن عشر سنوات وأنا متقاعدة عجوز. ولا أفهم كيف يحب بعض الناس حالة التقاعد. ربما هم على حق في نواحٍ عديدة. ولكن، شخصيًا، لم تكن السعادة بانتظاري على مفرق الطريق، كما توقعت، أو تأملت. ولكن أيضًا لم تخْل هذه السنوات من جديد.

قرأت الكثير من الروايات خلال هذه السنوات. جديدة وقديمة. أعدت قراءة بعض هذه الأخيرة، واكتشفت أخرى. وتحرّشت بكل من اتضحت على وجهه وجسمه علامات الكبر، إلا أقاربي. وجمع هذه القصص "الحية" أصبح هوايتي المفضَّلة. رفدتني بالكلمات وبالصور عن الشيخوخة؛ إنها مجال، مكان، حلبة ذات حدود رخوة، يتسلّل عبرها الموت إلى الحياة. ولها خيط متواصل، يقطعه هذا الموت، ويحكمه مرور الزمن. ولا يتسرّب من بين هذه الخيوط إلا رائحتي. أسمع أن رائحة العجوز كريهة، وأتوسوس. أشمشم نفسي مئة مرة في اليوم. أستحم وأتعطّر، وأعود للوسواس...

هكذا، أخذت معالم الشيخوخة تتكشّف لديّ. في الوجه والهندام.

أعتبر نفسي محظوظة لأنني لم أكن يومًا من الجميلات. وهذه مع الشيخوخة أصبحت حسَنة. فطوال شبابي، اقتنعتُ بوجهي، لا أقارنه بوجه البنات من حولي. وأبذل دائمًا جهودًا مضاعفة في أي شيء، لأنال رضى واهتماما يصعبان عليّ. فالذين من حولي يتباهون بـ"عشقهم للجمال". والآن، مثل الذي أدى الخدمة العسكرية في كلية حربية ذات صيت، صرتُ قابلة للتكيف مع أي صعوبة جديدة. وعندما أرى وجهي على المرآة، المفترض أنه يحزنني، يضيّعني عن نفسي. بتبشّع وتجاعيد وحُفر وتهدّل... لا أتحسّر، لا أتلوّع على "جمالي" الزائل. ولا أهرع إلى جرّاح التجميل ليضبط الزمن بالإبر... ولا أشعر بأن الحياة أسقطتني من عرش جمال وصبا. بالعكس، أشعر بنوع من الثأر من أولئك الجميلات اللاتي كنّ ينظرن إليّ من فوق. ها هن نزلن من العرش، ينظرن إليّ من تحت. أزيح عرشهن بقوة الوقت. سقط الجمال هكذا، وأنا الآن صاحبة النظرة من فوق. وهذه شماتة لئيمة، أعرف، لكنها تمنحني الأمان.

أما جسمي، فلا. عظمي مصاب بالتأكيد، والدليل تلك البروتيزات بركبتي. طوال عمري كنتُ بعضلات متينة. قليلة الطعام وكثيرة الحركة. لكن ماذا أفعل بالسنتيمترات التي خسرتها من طولي؟ لماذا لم يعلّمونا في المدرسة أننا سنخسر طولًا مع السنوات؟ لم أكتشف الموضوع بنفسي. ربما كنت أؤجّله، كلما طال بنطلوني أو تنورتي. ولكن إحدى صديقاتي الأقل جبْنًا مني، قالت لي إنها في كل موسم تقصّر تنانيرها. هي لا تلبس إلا التنانير، وتطوي أطراف البنطلون. فكان عليّ أن أعترف لنفسي، ولا أستحي، بأنني خسرت حتى الآن أربعة سنتيمترات من طولي.

من هذه الناحية لم أضطرب كثيرًا ولا حزنت على شيء لم أكن أملكه بالأساس. ومع الوقت، لم تعد الفكرة تسعفني كثيرًا. فقد انهالت عليّ إشارات وغمزات وتلميحات، صنعت حولي نوعًا من السياج الحديدي القسري، يصد كل محاولاتي لـ"التأقلم" مع شيخوختي.

تحضر كلمات مأثورة سمعتها، أو بدأت الانتباه إليها عشية "شيخوختي"، وصارت ترن الآن في ذهني مثل الكليشيه ثقيل الدم. من نوع:

"الست كم كانت حلوة، بس كبرت... للأسف، راحت جاذبيتها"
أو:
"حرام عليك! ليش تكبّر بعمرو؟ وهو بعد ما وصل للخمسين؟!"
أو:
"نسي يطفّي الغاز!؟ آيه هيدا من العمر"
أو:
الطبيب: "مدام أوجاعك من عمرك. ما منقدر نعمل معجزات".

هكذا، أتعرّف على فنون الاقتراب من الموت. غريب! أشباحي من الموتى لا يغادرونني. زادوا مع الأيام. خبر رحيل كلٌ منهم ينذرني باقتراب موعدي. أحسدهم أنهم لن يحزنوا عليّ، وأنهم استراحوا من سيف الاحتمالات، التي تتزايد كل دقيقة، كل ساعة. ولكي لا أمضي وقتي بانتظار الموت، كما يفعل كل مسنّ، أحاول خلق طريقة جديدة تلغي هذا الانتظار، أو على الأقل تضعه في درج النسيان المؤقت.

ولا يساعدني عقلي ولا خيالي على "المهمة". فأنا منذ تقاعدي دخلت في روتين، تعاظم انتظامه مع الوقت. وهذا الروتين أغلق على عقلي أبواب الاحتمالات. عيوبي التي لن أذكرها هنا، لا حاجة لذكرها، لا يفيد ذكرها... عيوبي هذه تأصلت مع الروتين، أو أن الروتين تعشّق بطبائعي، كما يعشَّق الخشب المزخرف. فأصبحتُ عنيدة. أتمسّك بعيوبي كأنها هويتي، أو خشبة خلاص طافية على سطح الوقت. ذهبت تلك الأيام التي كنت أضحك على نفسي، وأُضحك الآخرين معي. صرت مزعجة، نقّاقة، مملّة، مرعوبة، منفرة، أعيد الحكاية مئة مرة، أُكثر من النصائح، النصائح بالذات؛ ولا أشعر بالسخرية التي يتلقاها من حولي إلا بعد فوات الأوان. ولكنني أعود ثانية، فأنصح، كأنه لم يسبق أن فعلت.

لا أصلح مثلًا بطلة لرواية. لا يحدث شيء معي. لا أعد بشي، ولا بمشروع، ولا بأمل. وإذا فعلت، فمن باب المجاملات. لم أعد في طور الوعود والاحتمالات. ليس أمامي الوقت الكافي للغوص في مغامرات الحياة. والمتبقي من هذا الوقت يبدو لي وللجميع فارغًا، بلا أي معنى، حتى لو كان متواضعًا.

ولا أصلح بالتالي لتلك المهمات التي كان المسنّون يوكلون بها من زمان. أو أنها خرافة، تلك التي تضعهم في رتبة "الحكماء"، تستشيرهم القبيلة كلها، ترى في تجربتهم الطويلة دروسًا، طرقًا وتحايلات على المعاش وعلى الحظوظ. وإذا صحَّت هذه الرواية، فيكون مسنّو أيام زمان أكثر انطلاقًا في الحياة من مسنّي اليوم.

لا أجد شيئًا يشبه تلك الجمعيات أو التعاونيات التي كنا نستند إليها، من دون نجاح كبير على كل حال، من أجل رفع مطالبنا، عندما كنت أعلّم الأدب في الثانوية. أبحث عن "تنظيم" للمسنّين، أو "رعاية" أو "ملجأ"، "نادٍ"، أو "مستشفى"... ولا أجد.

فأتذكر حلمًا قديمًا، وأغوص فيه: عن مكان يشبه "حلقات الشعراء الراحلين". هل تذكرين الفيلم؟ عُرض في السينما منذ عشرين سنة، أو ربما أكثر. أبطال الفيلم شباب، يجتمعون سرًا بمبادرة من أستاذهم المولع بالشعر، والمؤمن بقدراته التحرّرية، وبمخالفة لقوانين المدرسة، يجتمعون بالسر ليلًا داخل مغارة، يدخّنون السجائر، يقرأون الشعر، يتعلّمونه، ويلقونه بفصاحة وغنائية. ويكون شعارهم بعد حين: "تمتعوا باللحظة! كونوا مغامرين! ابتعدوا عن الطريق المرسوم! حوّلوا حياتكم إلى تحفة فنية!".

لن يكون المكان هذا الذي أحلم به في حرم مدرسة، بين شباب. سنكون كلنا مسنّين. وفي أي مكان آمن ممكن أن نجتمع. نقوم فيه بتسجيل خبرتنا في الكبر. نتكلم عن أشياء لا يريد أحد سماعها. تجربتنا الخاصة، الصامتة، سيكون لها وثائق وكلمات. فالعمر لا يهم غيرنا. لا الشباب ولا الأشباح. وكل مرة نكتب إضافة، إشارة صغيرة، كبيرة، تخص عالمنا الجديد هذا. والمؤكد أن الماضي سيحتل حيّزًا من كلامنا. ولكننا سنلجم هذا الميل، ونركّز على الحاضر. نسجّل الماضي والحاضر على دفتر، نصدره بعد ذلك كما لو كان نشرة دورية. وربما عندما تتطور المناهج المدرسية في يوم من الأيام، وتدخل إليها مادة "العمر"، كيف يتقدم، ما هي تغيّراته، ما هي السبل للتخفيف من وطأته؟ متى يبدأ الكِبر؟ ما هي تجارب الكِبر؟

أرأيتِ؟ كل هذه الأحلام تراودني... احزري متى! عندما أكون جالسة مع قريباتي، في قعدتنا اليومية، حيث لا يمكن أن أصارحهم بما كتبته لكِ... ننتظر الموت كما كنا واقفات في صف يقصر بين الحين والآخر، نردّد "الحمد لله على كل شيء!"، لدى ورود نبأ عن فاجعة أو مصيبة، نتذكر الراحلين ونبكي، من الواجب أن نبكي، نروي ونعود فنروي قصص حياتهم، مأساتهم دائمًا، حظهم العثرْ، ولا يومٍ سعيد. وفوق ذلك، لكي يكتمل انسجامي مع هذه المؤانسة الوحيدة، أضع الحجاب على رأسي. أخالف قناعاتي. لم أؤمن يومًا بأن الله فرضه علينا. لكنني ألبسه اليوم، ومنذ السنة الثانية من تقاعدي. وإذا انتكست، تراجعت عنه وعدت سافرة، سأكون غريبة بين قريباتي. لن تكون ساعتها لا مؤانسة، ولا خروجًا من البيت.  

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
17 سبتمبر 2024
يوميات
26 يوليه 2024
يوميات
24 يوليه 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.