}

عن ثنائية الإخلاص للموت والوَلَع بالحياة

دلال البزري دلال البزري 31 أغسطس 2024
هنا/الآن عن ثنائية الإخلاص للموت والوَلَع بالحياة
يردد الآلاف من مناصري حزب الله عبارة "الموت لأميركا"(Getty)
الظاهرة قديمة في لبنان، بعمر حزب الله. أي منذ أن رحلت قوات منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وأمسك هذا الحزب دفّة "السلاح ضد إسرائيل"، وهذه المرة بحلّة إسلامية يقوم الاستشهاد فيها مقام الغاية الأسمى والمقام الأرفع.
خلال تلك السنوات الطويلة نُسِجت ثنائية الإخلاص للموت والوَلَع بالحياة بين اللبنانيين. ومادتها خطابات وتحليلات وشعارات ورمزيات وفعاليات شغلت حيزًا لا بأس به من أدبياتنا.
وكانت هذه الثنائية ترتفع نبرتها أو تخفت بحسب الأحداث. يقوم حزب الله بعراضة مسلحة، يقتل يحتل يخترق قوانين الدولة والناس، ويزهو بالاستشهاد ويكتب مريدوه شعرًا بحب الجنة والارتقاء اليها ويطلب المزيد. ويثابر الفريق المعارض له بأنه اختار حب الحياة لا الموت، فيستفيض بوصف مظاهر حبه هذا.
وقوة هذا الفريق الثاني تكمن في ميراث لبناني يزخر بهذا الحب القديم، الذي يعود إلى العصر الذهبي للبنان. وقد تكون كراهية حزب الله لهذا العصر وإنكاره لـ"ذهبيته" هو ذاك الميراث بالذات، الملموس المتوفر المتأصل في تاريخ لبنان المعاصر، حتى قبل إنشائه "كبيرا" كما نعرفه في حدوده الحالية، وقبل تلك الستينيات والسبعينيات الشهيرة.
خلال التسعة أشهر الأخيرة، بعيد "الطوفان"، قرّر حزب الله فتح حدوده لصواريخه ضد إسرائيل. فكان لبنان ساحة متجددة لتلك الثنائية. الذين لا يوافقون على توريط بلادهم في هذه الحرب... لا يملكون سلاحًا بوجه سلاح حزب الله ولا قرارًا ولا مراكز قوة متمكّنة، ولا هم مستعدون أو قادرون على الهجرة، ولا صوت لهم في أي إحصاء أو نواب، ولا هم من المستفيدين من "عطاءات" حزب الله المتنوعة.
هؤلاء سلاحهم الوحيد، صوتهم الوحيد، هو "حبهم للحياة" وكراهيتهم للموت، كما يقولون. أي أنّهم مصرّون، رغم الإفقار والحرب والانهيار وكل المصائب، على أن يسَعدوا باللحظات التي يعيشونها.
كيف؟
بالسهر والرقص في الحانات، بالحفلات الفنية على خشبات المسارح، بالمسرحيات ذات العناوين المثيرة، بالإصرار على إجراء حفلة انتخاب ملكة جمال لبنان، باحتفال "بياف" السنوي لتكريم النجوم، والنجمات منهم بفساتين السهرة والماكياج والشعر، بالمهرجانات لمطربين لبنانيين وعرب، بالمطاعم ليلا والمسابح نهارا، بالإبقاء على بعض المهرجانات السنوية التي تنظمها زوجات زعماء الطوائف، وإلغاء أخرى، أو نقلها إلى مناطق أقل "حساسية" (وليد جنبلاط الذي يشرف عبر زوجته على مهرجانات بيت الدين السنوية قرر إلغاءه. وهذا إجراء منطقي نظرًا لموقفه المؤيد لحزب الله في هذه الحرب).
وهذا السجال لا يخلف ميعادًا. إليكم، مثلا، تغطية صحافية مباشرة لما حصل بعيد اغتيال فؤاد شكر، القائد العسكري لحزب الله: "وبعدما رّدد الآلاف من مناصري حزب الله في قلب الضاحية الجنوبية عبارة "الموت لأميركا" و"الموت لاسرائيل"، رافعين رايات الحزب الصفراء، في دعوة للانتقام بعد مقتل شكر، تمايل الآلاف في بيروت على بعد بضعة كيلومترات خلال حفلة "مياس"، مردّدين "لبيروت من قلبي سلام لبيروت". وأقيمت الحفلة التي بدأت بمفرقعات نارية ضخمة زينت سماء العاصمة، بعد ساعات من تشييع حزب الله قائد عملياته في الجنوب فؤاد شكر، وتوعُّد حسن نصر الله ّبردّ حتمي على إسرائيل".
حاول إعلام حزب الله في البداية التقليل من شأن هذه الظاهرة التي ازدهرت مؤخرا بعدما دخل الحزب في حرب مشاغلة مع اسرائيل. قال بأن هؤلاء بضعة أثرياء، وأنهم قليلو العدد وبأن ثمة حفلات أُلغيت. وأن الواقفين خلفها هم أحزاب اليمين المسيحي من قوات وكتائب. وفي كل تلك الحجج جانب من الحقيقة. ولكن ما يقلّل من قيمتها أن المواطنين، إذا لم يشاركوا نظرا لقلة اليد، فهذا لا يعني أنهم غير تواقين إليها، غير حاسدين نظرائهم على تلك المتعة، غير لاهثين لحضور الحفلات المجانية. علما بأن بعضهم مستعد لأن يدفع "نيفته" ليحصل على بطاقتها. فيما ثمة حفلات ألغيت، صحيح، ولكن غالبيتها العظمى كانت بطاقاتها نافدة. وجمهور هذه الحفلات مختلط طائفيا، بل أبناء الطائفة الشيعية يشاركون بها. أي أن الحفلات لا تقتصر على اليمين المسيحي.
كل هذا لم ينفع طبعا. فسنّ هذا الإعلام أسنانه وبدأ الهجوم على دعاة "الاحتفاء بالحياة".
صحافي ممانع علماني مخضرم يسجل على اليوتيوب "ثورته" ضدهم: "لا يملكون حدًّا أدنى من الحياء... قلة حياء وقلة وعي... ثقافة وقاحة وفجور ولا وطن... إنهم (أي مقاتلي حزب الله) يدافعون عن كرامتك، هم المحبون للحياة... يستشهدون من أجل أن تفرح..." إلخ.
رئيس كتلة نواب حزب الله، محمد رعد، يدلو أيضا بدلْوه. خلال تأبين أحد شهدائه في الجنوب أنّبَ اللبنانيين الذين يرتادون المسابح والملاهي في وقت الحرب، فقال: "للأسف، بعض اللبنانيين النازقين (الخفة والطيش) يريدون أن يرتاحوا وأن يذهبوا إلى الملاهي وإلى شواطئ البحار ويريدون أن يعيشوا حياتهم. هذه الفردية القاتلة والنفعية الأنانية التي تدمر مصالح الأوطان والمجتمعات هي وراء هذه الشحنات والجرعات من الأكاذيب والتلفيقات والإشاعات التي تمتلئ بها وسائل التواصل الاجتماعي".
وثمة من نَظَّر لهذا السلوك ووجد أصله في "الفردية الليبرالية" التي "تزعمت فكر شعوب العالم" منذ التسعينيات. والأفراد الذين التحقوا بهذه الموجة "لا يجدون أنفسهم معنيين ولو بالحد الأدنى، بمصير أبناء بلدهم، ولا منطقتهم. هم غير معنيين بأي قضية، ولا بحقّ أي شعب بالحياة. ينظرون إلى الحياة من معيار الترف والاستهلاك والتباهي. وغالبًا ما تكون قضاياهم بحجم فرديتهم..." إلخ. كلام في سياق موجة رجم قيم الغرب.
أين يقع هذا المزاج اللبناني؟ بعيدا عن الحكم العاطفي القيمي له؟
حب الموت لدى فريق حزب الله وإدخاله ضمن المقدسات بالتعبير عن الشوق المقدس للاستشهاد... ليس من صميم الثقافة اللبنانية ولا ميراثها. إنه ضعيف معنويا، ولكنه قوي على الأرض. يحميه السلاح والقبضة الحديدية على "البيئة" الحاضنة. والوصاية التامة على الأرواح.  
يقابله فريق الحياة صاحب ميراث غني، تكمن قوته بأنه متأصل في المزاج اللبناني نتيجة تاريخ طويل صار عمره اليوم قرنًا وربع قرن.
ماذا في هذا التاريخ؟
في كتاب صدر بالفرنسية بعنوان "ليالي بيروت" (دار أو. إس. إن.)، بداية العام الحالي، تؤرخ ماري بونت، أستاذة الجغرافيا في جامعة فنسين- سانت دنيس، لهذا الموضوع بالذات. ترصد حياة السهر والمتعة في بيروت منذ العقد الأخير للقرن التاسع عشر، عندما كان لبنان ما زال تحت الحكم العثماني، مرورا بالقرن العشرين، وانتهاء بيومنا هذا.
بعض من هذا الكتاب يبدأ بحديث عن الحرب الأهلية: الليل في بيروت. ومئات الكباريهات وعلب الليل المحروقة أو المهجورة. ما زال يتذكرها المعمرون.  تتخيل الكاتبة ماضي الخراب الكثيف، تغوص فيه، وتتوقف عند محطاته.
أول تلك المحطات هي التغييرات التي أصابت المكان الأول للسهر، في وسط البلد، ساحة الشهداء. وتلحظ تطورين متوازيين حصلا عليه:
كان البغاء يغلب على السهر فيه. من الساحة هذه يتفرع شارع المتنبي، المعروف برصيفه وشققه وتقديماته الجنسية مدفوعة الأجر... وفي الساحة أيضا، الدكاكين الصغيرة والمطاعم والفنادق والمقاهي. وبعض هذه الأخيرة يقدم وصلات غناء، والقادمون إليها مسافرون يحيون لياليها الطويلة. و"التطور" الذي أصابه غيَّر وظيفة السهر الأساسية، أي البغاء، وصارت أولويته الرقص والموسيقى والطعام وتناول الكحول.




"التطور" الثاني يخص المكان، مواز له. حيث تنتقل الأنشطة الليلية تباعا من ساحة الشهداء في وسط البلد إلى ما يُعرف بـ"خليج الزيتونة" الذي يمتد على طول شارع فينيسيا، حيث الفندق الأشهر وباره "الطاووس الأحمر"، وفندق السان جورج، وباره القديم. واستقطب صحافيين وفنانين ودبلوماسيين وأهل المجتمع المخملي الراقي، أناس "شيك"، خيرة أبناء المدينة، أيسرهم اقتصادا ، تصفهم الكاتبة بـ"كوبلات الراقصة"... وبالقرب منهما، "الكاف دي روا" (كهف الملوك) والكورسير (القرصان) إلى ما هنالك من عشرات الكباريهات المجاورة التي شكلت العصب الحقيقي لمنطقة عُرفت لاحقا بالزيتونة، يمتد ليلها حتى الفجر... وتذكر الكاتبة وسط هذا النشاط المحموم أن الذهاب إلى هذه الأماكن كان نوعا من "الروتين"، يتجسد في عروض السيارات الفاخرة والموسيقى والملابس والرقصات الدارجة والأناقة المفرطة للنساء. والزحمة الدائمة على رصيفها وفي جوارها.
والمهن التي توظفها هذه الحياة عديدة: الراقصون والراقصات، المغني(ة)، الموسيقيون، البارمن، النادل والنادل(ة) والطباخون وسائقو السيارات... وغيرها من المهن الأبسط. طبعا أرباب هذه الأماكن، يسيطرون على المهنة، هم أصحاب الاستثمار فيها والعاملين على توسيعها وتنظيمها والتنسيق في ما بينها، أو تنظيم التنافس بالأحرى.
بل هذه الحياة أصبح لها رأي عام، يدافع عنها أو يدينها، وصحافيون يدلون بدلوهم حولها، وشبكة مصالح، أصحاب مؤسسات كبرى، وبعض السياسيين.
وفي بداية الستينيات، امتدت حياة الليل إلى الحمراء ورأس بيروت: صارت هذه المنطقة نقطة جاذبة للكتاب والمثقفين والصحافيين واليساريين والطلاب، وتوسعت فيها الحياة الليلية، وتركزت فيها مقرات الصحف ودور السينما ودور النشر والمطاعم ومقاهي الرصيف، وظهور أولى الستيريوهات، وهي نوادي مغلقة ذات ضوء خافت، تفصل بين روادها حيطان تخفيهم عن العيون الفضولية.
فكان رأي السياسيين أن هذه الحياة تحتاج إلى ضبط، وكنا في بداية الستينيات، وكمال جنبلاط وزيرا متقطعا للداخلية. أصدر في عهده الأول قرارا بمنع (التعري على خشبة مسرح)، وبحظر رقصة التويست في المرابع الليلية. ثم قراره الأشهر، عام 1963، بمنع المغني الفرنسي جوني هوليدي، راقص التويست، من إحياء ثلاث حفلات في كازينو لبنان. وأخيرا، يفرض كمال جنبلاط معايير على الستيريوهات، برفع درجة الضوء فيها، وبفتح الأقسام على بعضها منعا لإقامة "علاقات حميمة" على كراسيها... ويختم صائب سلام، رئيس الوزراء، بفرض قوانين تنظيم ساعات العمل فيها، من الساعة التاسعة مساء وحتى السادسة فجرا. وذلك لتجنّب إقبال الطلاب عليها هروبا من أوقات المدرسة. وتذكر الكاتبة بأن احترام هذه الممنوعات كان "ضعيفا".
وخلال الحرب الأهلية، دمّر المركز القديم للسهر في الزيتونة ورأس بيروت، وتحولت الفنادق فيهما إلى ساحات قتال طوال العامين الأول والثاني للحرب.  والأمر نفسه حصل لوسط البلد وقد انقسم إلى خطي تماس بين شرقية وغربية، واختفت كل مؤسسات الليل والفنادق والكباريهات وعلب الليل وتحولت إلى مخازن سلاح للمتقاتلين. فيما الحمراء "فقدت نفسها تدريجيا وصارت تحت حماية رجال المليشيات والخاوات".
وعلى الرغم من الأخطار الليلية في زمن الحرب، لم تتوقف حياته، وان تقطعت سُبُله بين وصلة قتال أو تفجير سيارة أو تقاتل المسلحين أو حتى اجتياح إسرائيلي... بحسب اشتداد الأحوال الأمنية القريبة. وفي هذا المناخ بالذات، انتشرت مجلات وجرائد لها صفحة لعرض صور السهرات، النساء والرجال من المجتمع المخملي، مع أسمائهم. والنساء بأحلى الجواهر وفنون تصفيف الشعر والماكياج. هذا التقليد توسع وتثبت، وباتت هذه الوجوه تضم زوجات سياسيين ورؤساء أحزاب، اسمهم "نجوم مجتمع". هذا غير الفنانين والمطربين ومغني البوب.

 حب الموت لدى فريق حزب الله ليس من صميم الثقافة اللبنانية (Getty)

في هذه الاثناء تعدّ الكاتبة الأماكن الجديدة خلال الحرب وبعدها، أسماءها وأسماء أصحابها وتواريخ انتقالهم من هنا إلى هناك وما الذي يحثهم على الاستمرار في الاستثمار. لن نغوص هنا في تفاصيلها. إنما في كلامها معهم وما فهمته من أحاديثهم وإجاباتهم.
 في صفحات كتابها تتوزع التفسيرات لفهم ديناميكية هذه الظاهرة اللبنانية: تقول إنها تعبير عن الحاجة إلى الاختلاط بالناس، عن الحاجة إلى التمرّد، لا بل "المقاومة" (نعم تذكر "مقاومة")، عن الرغبة بتجاوز الانقسامات التي يفرضها القتال الحامي أو البارد، والاحتكاك بالآخر، عن الهروب إلى "مكان آخر"، عن التحرر من الوقائع العنيدة للحرب، عن الرغبة بنسيان هذه الحرب، ولو لعدة ساعات، عن البحث عن "كرامة ما"، عن النظر إلى المشاركة بهذه الليالي بصفتها آخر سهرة، عن الحاجة إلى "مغازلة الخطر"، عن الضجر، عن مهارة اللبنانيين "المدهشة، الرائعة" بالاستمرار "بالعيش في الفرح، رغم كل شيء".
خلال الحرب الأهلية، ثمة شهادتان فلسطينيتان:
الأولى هي لعلي حسن سلامة، القيادي في حركة فتح. ولقبه الأمير الأحمر، والذي اغتالته إسرائيل عام 1979. سلامة شاب ساحر، يرتاد الملاهي الليلية، كغيره من المقيمين في بيروت أيام الحرب، أو ربما أكثر منهم. يلتقي في أحد الملاهي، "الباك ستريت" على الأرجح، بملكة جمال لبنان والعالم جورجينا رزق، فيغرمان ويتزوجان. شهادات الذين عاصروهما في وقته يقولون عنهما: "كان الكوبل الذي ينال القسط الأوفر من كلام أهل بيروت. وكل الذين عرفوهما أو التقوا بهما، يقولون إنهم صادفوهما في الملاهي الليلية والمطاعم".
الثاني هو لبسام أبو شريف، أحد قادة منظمة التحرير الفلسطينية، الذي تعرض أيضا لمحاولة اغتيال إسرائيلية عام 1972 بكتاب ملغوم، فقد عينه على أثرها. كتابه "بيروت مدينتي"، الصادر عام 2010 (دار رياض الريس)، يقدمه بعبارات تبدو كأنها وفاء إلى القضية وإلى الليل، وكان معروفا بارتياد أماكنه: "عشرين عاما من حياتي(...) قصتي مع الحياة والموت، والكتاب سجل حواري معهما... ويرصد عشقي للحياة وحياة العاشق الأبدي للقيم التي تكون حياة إنسان استغل جسده وروحه ليحارب بهما الظلم والقهر وطغيان الظالم على محبي الحياة والسلام والذين يعشقون الجمال في الأرض(...) ذكريات ما بين دخول بيروت والخروج منها، مليئة بالحب والعشق والنضال والقتال وأسرار الحب والحرب (...) كنت تلميذ بيروت لعشرين عامًا وتعلمت خلالها الكثير الكثير، وعلمتني بيروت درسًا في الحياة والحب والموت وتقاليد طائر الفينيق (...) علمتني بيروت كيف أنتصر للحب وأهزم الموت. علمتني كيف أنقض على الخطر فأهزمه. وكيف أتعامل مع الصعاب فأفتتها (...) بيروت كانت بداية الحياة... وستبقى لتعلم الذين سيرون النور أن لا قيمة للإنسان من دون حرية ومن دون الانتصار لها حيثما حوصرت".
أورد هاتين الواقعتين لمناضلَين فلسطينيَين معترف بوطنيتهما، لوضع ليالي بيروت في سياقها. لم يكن ثمة حاجز بين السهر والنضال في تلك الفترة. كانت فتح قيادة المقاومة الفلسطينية علمانية، لا يوجد في قاموسها شعف بأدبيات الاستشهاد. سهر الليالي بدأ يرتدي ثوبا لا أخلاقيا، ثم تحريميا مع صعود الإسلام السياسي، الشيعي بشكل خاص، كونه الإسلام السياسي المهيمن الآن في لبنان.
فأن يكون الآن النقاش محصورا بين محبي الاستشهاد ومحبي الحياة، بين أصحاب ثقل معنوي اسمه "مقاومة"، كما يراه حزب الله، وبين أخفّاء، "رذاذ مطر"، كما يصفهم أحدهم، لا شيء قياسا إلى عظمة الذين "يرتقون..." ويحتفل أهلهم بهذا الارتقاء... هذا الكلام إذًا، يدحض أسسه المثل الفلسطيني أعلاه، المدعم بعشرات الشهادات عن حياة مناضلين كان السهر والرقص والغناء عندهم بمثابة نمط حياة تحت القنابل والانفجارات والمفخَّخات.
وإذا تعمقتَ بالنقاش أكثر من ذلك، فسوف يُطرح عليك السؤال عن الدوافع العميقة لهذه الخفّة المزعومة. الفرق بين عهد المقاومة والعلمانية وعهد المقاومة الحزبلاهية، ليس فقط بـ"روح عصرهما"، إنما أيضا بشيء آخر: أنه في ظل المقاومة الأولى، كان ثمة أمل حقيقي، يضخّ علينا الطاقة للفرح، الأمل بانتهاء الحرب. أما اليوم، فإن الساهرين المواظبين ليس لديهم أي أمل. إنهم يائسون يتوسلون شيئا من السعادة العابرة. استشفوا من انتظاراتهم الطويلة أن الصراع والحرب والانهيار لا نهاية لها. وبأن لا حل.
وبما أن الصراع حتى الآن لم ينته، وبأن أحدا لم يكسب فيه نهائيا، صار لبنان منقسما بين من يفسرون الحياة، على أنها توق للموت، بعبارات الاستشهاد المقدسة، وبين آخرين لا يصدقون هذا التوق، ولا يأملون خيرا لا منه ولا من غيره، فيقبلون على الفرح تحت وقع أن حياتهم مهددة في كل لحظة.
وهؤلاء الأخيرون استمدوا طاقاتهم من تاريخ المدينة، روحها وتجاربها وقصص أزقتها اللاهية. من تاريخ تجاوز عمره الآن قرنًا ونصف القرن، يزخر بالحيوية. والسؤال برسم المؤرخين: حسنا قبل القرن ونصف القرن هذا، كيف كانت الحياة الليلية في بيروت؟ هل كان فيها ثمة براعم أو أجنة أو بدايات... ولو خجولة؟ وهل لخروج النساء من البيوت تحت تأثير الحداثة دور في تحويل هذه الإشارات إلى علامات خاصة بالمدينة بصفتها مركزا للهو والرقص والغناء؟ وهل يكون هذا العدد الهائل من المطربين والراقصين ونجوم البوب، من بين اللبنانيين، هو نتيجة هذا الذي يمكن تسميته بـ"الروح" اللبنانية الخاصة؟ 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
26 يوليه 2024
يوميات
24 يوليه 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.