}

أوروبا المنكوبة.. أو كيف تصنع رواية ديستوبيا؟

أحمد عبد اللطيف 28 مارس 2020
تغطيات أوروبا المنكوبة.. أو كيف تصنع رواية ديستوبيا؟
لوحة للتشكيلي Ceslovas Cesnakevicius من ليتوانيا
1

صورة أوروبا الموبوءة، انتشار الرعب، السوبر ماركتات المزدحمة والمفرغة من السلع الغذائية في ساعات محدودة، هذا الفراغ الذي خلفه فيروس كورونا وشغلته الوساوس، كان ملهماً للروائي والسينمائي الإسباني وأحد كتاب جريدة "الباييس"، دابيد ترويبا، ليكتب مقالاً بسيناريو ديستوبي عن مصير أوروبا مع هذا الفيروس، يطرح من خلاله أحد أهم الأسئلة المطروحة الآن على الطاولة الأوروبية: الهجرة، اللجوء، الحدود التي أقامتها أوروبا لتمنع العرب والأفارقة من المرور. يتخيل السيناريو تزايد المصابين بالكورونا، وعجز الصحة الأوروبية عن محاصرته، الكورونا في كل مكان ولا أحد يعرف كيف يمكن النجاة منه مع كل الإجراءات الاحترازية، وفي مقابل أوروبا الموبوءة، على الجانب الآخر من المتوسط حيث بلدان شمال أفريقيا وأفريقيا السمراء لا أثر كبير للكورونا لأن الفيروس يموت في درجات الحرارة المرتفعة، بحسب ما يتصور ترويبا. يتخيل السيناريو نجاة أفريقيا وإصابة أوروبا، ويمد الخيط على آخره لنرى: الأوروبيون يخرجون في جماعات نحو البحر المتوسط، يبحثون عن طريقة للوصول إلى النجاة في أفريقيا، لكنهم يتعثرون بالحواجز التي رفعوها من قبل أمام الأفارقة، يتعثرون في جدران العزل التي طالما واجهوا بها الأفارقة الفارين من بلدانهم الفقيرة والمنحوسة، الأوروبيون الآن يحاولون الإفلات منها، يركبون مراكب الهجرة إلى جنوب المتوسط، لكن يفاجئهم ما لم يكونوا يتوقعون: الجنود الأفارقة يقفون بأسلحة على أكتافهم، يصوّبون بسيل من الرصاص لإيقاف الأوروبيين الموبوئين، لمنعهم من الوصول إلى أراضيهم السليمة والخالية من الجائحة، يريد الأفارقة أن يحتفظوا بصحتهم سليمة غير موبوءة من عالم سينقرض من الوباء. في كل ذلك، ربما تظهر مافيات تهريب الأوروبيين لشمال أفريقيا، ربما تظهر صور لغرقى أوروبيين في البحر المتوسط. ما قدمته أوروبا لنفسها ستجنيه الآن، المهاجرون واللاجئون العرب والأفارقة الذين اضطرتهم ظروف الحياة الصعبة لترك بلادهم وعلائلاتهم يتفرجون الآن، ربما تدمع عيونهم لأن الطبيعة انتقمت لهم، ربما يشعرون بوخز الضمير لأنهم يتشفون بدون إرادة منهم، وربما يبكون إخوانهم في الإنسانية.

في كل ذلك ستظهر أصوات يمينية عالية في العالم العربي وأفريقيا يقولون "لن يمروا" وينادون بـ "غلق الحدود"، لكن أصواتاً يسارية أكثر اعتدالاً سترفع شعار الإنسان، لكنها للأسف بلا أثر ولا سلطة. جمعيات حقوق الإنسان والمتطوعين وجمعيات المرأة والطفل وجمعيات حقوق المهاجرين، ستظهر كلها في شمال أفريقيا لتقديم العلاج المناسب لعدد قليل جداً من الناجين من مذبحة الحدود، لكن كل ذلك لن يكون شيئاً يذكر في مقابل الآلاف أو الملايين الذين يقضون نحبهم على البر أو في البحر.

2

تبدو أوروبا الآن محاصرة، تعيش حالة رعب مهول، العديد من مدنها الكبرى تبدو حزينة وخالية. مدريد، مثلاً، المدينة التي لا تهدأ ولا تستكين، تبدو الآن يتيمة أو سيدة في حالة حداد. مطاعمها الممتلئة على الدوام وباراتها التي لا تخلو من زبائن آناء الليل وأطراف النهار صارت خالية، ومسارحها وسينماتها وأنشطتها الثقافية غدت متوقفة، ومدارسها وجامعاتها صارت فصولاً خاوية، حتى شوارعها تغير إيقاعها. في لحظة أدرك سكان العاصمة الإسبانية أن الخطر قد بدأ بالفعل بعد أن زاد عدد المصابين عن 40 ألفا لتسجل بذلك البلد الأوروبي الثاني بعد إيطاليا، ولتحتل مدريد مركز الصدارة من بين المدن الإسبانية، إذ استحوذت وحدها على ما يزيد عن نصف المصابين بالعدوى. كان الإجراء الحكومي الأصح، رغم أنه تأخر كثيراً، هو فرض حالة الطوارئ، وبموجبه لا يسمح لأي أحد بالخروج من البيت ما لم تكن قبلة الخروج هي المستشفى أو الصيدلية أو السوبر ماركت، وإغلاق كل المصالح الحكومية، واتباع نظام العمل من البيت لبعض الوظائف.

في مقابل ذلك، طرحت حكومة بدرو سانتشيث العديد من الحلول لمواجهة الأزمة، مثل التأميم المؤقت للمستشفيات الخاصة لتساعد مع المستشفيات العامة في استقبال المصابين، وضخ 200 مليون يورو لمواجهة الكورونا وما يترتب عليه من خسائر اقتصادية بالإضافة لتعويضات للعمالة المؤقتة والحرة، وغلق الحدود البرية والبحرية مع الدول المجاورة، أما خطوط الطيران فلم تفرض فيها أي توصيات خاصة بعد أن أغلقت الكثير من الدول خطوط طيرانها مع إسبانيا. 

3
تبدو أوروبا محاصرة، بعد قرار ترامب بوقف الطيران بين أوروبا والولايات المتحدة، وهو أول قرار في التاريخ يمنع الأوروبيين من الحركة نحو أميركا، يزداد الحصار مع إعلان العديد من الدول وقف الطيران مع إيطاليا وإسبانيا، حتى بين دول الاتحاد الأوروبي نفسه بات الحصر بديهياً. التلفزيون الإسباني نقل استياء المواطنين في الرحلة الأخيرة من إيطاليا لمدريد، شكواهم أن أقرباءً لهم وأصدقاء لم يلحقوا بالطائرة الأخيرة وهم الآن عالقون في إيطاليا. أحداث المواطنين الأوروبيين العالقين في العديد من الدولة باتت حدثاً يومياً، سفر بغرض الرحلة لأيام سيكون بالنسبة لهم إقامة غير محددة المدة. لكن ذلك لن يكون آخر المطاف، فالعالم يبدو الآن مستشفى كبيرا، والفيروس لديه القدرة على الانتشار بشكل مريب، ورغم الإعلان عن لقاح لمواجهة الوباء الجديد من الصين، كوبا، ألمانيا، الولايات المتحدة، إلا أن ذلك لم يتحول إلى واقع. في النهاية، أي شكوى ضد الإجراءات الاحتزاية لن يبالي بها أحد، فلا شيء سيفوق الحفاظ على الحياة، ومع تزايد أرقام المصابين ستلجأ المستشفيات الأوروبية لتطبيق الاختيار الطبيعي والتنازل عن كبار السن.

  4
دابيد ترويبا لا يفعل شيئاً في السيناريو المتخيل غير قلب العملة على وجهها الآخر، كل ما سرده وما يمكن أن يسرده وما أضفته أنا من خيالي وما يمكن أن يضيفه آخرون ليس إلا الواقع الذي عاشه اللاجئون السوريون في السنوات الأخيرة، ليس إلا حياة المصريين المفقودة في البحر المتوسط في طريقهم إلى إيطاليا منذ سنوات مضت، ليس إلا حياة الأفارقة والمغاربة التي رفضت أوروبا استقبالهم وألقتهم في البحر وصوبت النار إلى قلوبهم المكلومة. حتى الذين نجوا من الموت لم ينجوا من الإسلاموفوبيا، لم ينجوا من كلمات قاسية عن أن العرب أو الأفارقة يسرقون العمل من الأوروبيين، لم ينجوا من تهم الإرهاب الجاهزة لمجرد أن اسمك عربي حتى لو كنت مسيحياً.

لا مقال دابيد ترويبا ولا تعليقي على المقال، بالطبع، يحملان أي سمة من التشفي، فنسب الأوروبيين المعادين للعرب والأفارقة تبقى قليلة مقارنة بالكل، لكنهم لسوء الحظ لديهم من السلطة والتأثير ما يجعل أصواتهم مسموعة. ليس تشفياً، إنما لحظة يجب أن يتوقف أمامها كل أوروبي ليراجع ضميره، ليتخلى عن أوهام نقاء العرق وطهارة الهوية، لينظر إلى العالم أجمع كبشر يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأننا لو اضطررنا في النهاية لنتقاسم هذا الكوكب فليس بوسعنا إلا أن نتقاسمه بالعدل والرحمة. ففي النهاية لا اللاجئون ولا المهاجرون اختار أي منهم مصيره بمحض إرادته، إذ ليس أفضل للمرء من أن يبقى في بلده لو كان صالحاً للحياة، يسافر كلما أتيح له ويطلّع على الثقافات الأخرى من باب الفضول والتعلم، لكن ظروف الحياة القاسية، كما يعلمها أي أوروبي، هي ما تدفع الناس للهرب من الموت إلى ما يظنونه الحياة.

5
الوباء الجديد، الذي لا أحد يعلم متى سينتهي ولا يمكن توقع عدد ضحاياه ولا أراضيهم،

لن يكون عابراً في تاريخ القرن الجديد، ستمتد آثاره لسنوات طويلة قادمة يتذكر فيها الآباء والأبناء كيف مرت عليهم الأيام العصيبة، وكيف كان الموت قريباً منهم. ستتغير نظرتنا إلى الحياة وإلى أنفسنا، ستتغير عاداتنا وتقاليدنا، ولعل التغير الكبير سيكون في الأوروبيين ومن عاشوا فيها، إذ ناموا ذات يوم بأحلام بالغد، فوجدوا الغد على باب بيوتهم بوباء قاتل. طرفا العالم، جنوب المتوسط وشماله بالتحديد، سيقفان على أرض واحدة من الألم، لأن الجميع قد عرف أن الموت، هذا المفهوم البعيد والغامض، أقرب إلينا من راحات أيادينا.

6
أغلب الظن أن مقال دابيد ترويبا الديستوبي لن يمر بدون أن يلفت الانتباه كثيراً. ولعله الحجر المناسب في المياه المناسبة. وربما يكون المقال هو البذرة الأولى لفيلم سيكتبه بنفسه ويخرجه، لو حدث ذلك سيكون أسرع فيلم عن الكورونا، وربما سيكون الفيلم الأكثر واقعية حتى لو اعتمد الخيال كنقطة انطلاق. المثير للحزن أن يسبق الواقع تنفيذ الفيلم، فتغدو المراكب المهاجرة من أوروبا لأفريقيا واقعاً نسمع عنه يومياً.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.