}

بين الإنفلونزا الإسبانية وكورونا.. الفن كاحتجاج ضد الجنون والعدم

ضفة ثالثة ـ خاص 13 يوليه 2020
ترجمات بين الإنفلونزا الإسبانية وكورونا.. الفن كاحتجاج ضد الجنون والعدم
مونش: "بورتريه ذاتي أثناء الإنفلونزا الإسبانية" و"بعد الشفاء"
"نتذكر الآن الإنفلونزا الإسبانية بشكل شخصي، وليس بشكل جماعي، ليس ككارثة تاريخية، بل كملايين المآسي الخاصة المنفصلة. لقد فضل الناس نسيانها، وأصبحت حاشية للحرب العالمية الأولى" [لورا سبيني، صحافية وكاتبة بريطانية]

نشهد اليوم بأنفسنا كيف أن تفشي فيروس كورونا يغير بشكل أساسي الطريقة التي يتفاعل بها الناس مع البيئة من حولهم، وطريقة عمل المؤسسات الثقافية والفنية، ويؤثر على التجربة البصرية اليومية. في غضون أيام قليلة من إعلان كوفيد 19 كوباء عالمي، أغلقت المتاحف وقاعات العروض الفنية، والمسارح والمدارس، وكل الخدمات تباعا، ثم تم تعليق جميع الأعمال تقريبا.
قبل قرن من الزمان في مواجهة جائحة الإنفلونزا الإسبانية، التي توفي فيها ما يقرب من 50 مليون شخص، من حوالي 500 مليون مصاب حول العالم، نجد الكثير من التشابهات بين الأحداث، والتجارب الموثقة فوتوغرافيا، خاصة في الملصقات التي كانت متداولة قبل 100 عام، والتي تربط بين الإنفلونزا الإسبانية، والالتهاب الرئوي، وحظر البصق أو السعال، ووجوب تغطية الفم والأنف، للحد من انتشار الوباء.
تعتبر السجلات البصرية الباقية من الإنفلونزا الإسبانية شحيحة بمعايير اليوم، لكنها تتأرجح بين الخوف والرعب، وبين الرغبة في استمرار أنشطة الحياة قدر الإمكان. نجد صور القبور وصفوف المرضى في عنابر المستشفيات، وصفوف الجثث التي توضح ضعف النظام الصحي العالمي. وكانت صورًا كئيبة تشبه صور ضحايا الحروب.
لم توثق الإنفلونزا فنيا، لأن الحرب العالمية الأولى طغت إلى حد كبير على وباء الإنفلونزا في الذاكرة العامة، وفي ضوء التركيز على أخبار الحرب، تراجعت أخبار الوباء، بالإضافة إلى إرسال العديد من الفنانين إلى الحرب في ذلك الوقت.
وفقا لمؤرخي تلك الفترة، أدى تفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية مع الحرب العالمية الأولى، إلى تضخيم عبثية اللحظة، خاصة بعدما ترافق ذلك مع سقوط الإمبراطورية العثمانية، وصعود الحكومات الشيوعية، والصراعات الدائرة حول القضايا الاجتماعية مثل قضايا النوع والمساواة في الدخل. خلق كل ذلك تصورا فوضويا ويائسا وانتشر الشعور باللامعنى. فقد الناس الثقة في حكوماتهم، وفي البنى الاجتماعية والقيم والأخلاقيات المقبولة اجتماعيا. استكشفت الحركات الفنية التي خرجت في هذه الفترة، هذا اليأس وظهر في الطرق التي عبر بها الفنانون عن مشاغلهم وأفكارهم.

 إدوارد مونش "بورتريه ذاتي مع الإنفلونزا الإسبانية" 1919 

















الإنفلونزا الإسبانية في لوحات مونش
ربما كان هناك القليل من الصور الفوتوغرافية التي وثقت للإنفلونزا الإسبانية، لكنها تبقى أقل في نطاق الفن التشكيلي والفنون البصرية، وأهمها لوحات الفنان النرويجي إدوارد مونش (1863- 1944). اللوحة الأولى "بورتريه ذاتي أثناء الإنفلونزا الإسبانية" والثانية "بورتريه ذاتي بعد الشفاء".
اعتاد مونش على تصوير المرض والمعاناة، وكانت الوفاة والحزن موضوعات أساسية في فنه نتيجة فقدانه أفرادًا من عائلته بسبب مرض السل، الذي أصابه هو الآخر. تبنى مونش هذه القضايا في لوحاته وقال في مذكراته: المرض والجنون والموت ظلوا يراقبونني ورافقوني طوال حياتي. رسم مونش اللوحة الأولى وهو مريض بالإنفلونزا. صور نفسه جالسا في غرفته على كرسي بجوار سريره، يبدو شاحبا ومرهقا، يذكرنا وجهه المنهك وفمه المفتوح بأكثر أعراض الإنفلونزا شيوعا. بالرغم من ذلك لم يصور مونش في لوحتيه أي هياكل عظمية ولم يظهر ملاك الموت، عكس لوحات أخرى له، كما لم يصور نفسه محاطا بأحبائه يظللهم القلق والخوف، بل صور نفسه وحيدا يتحمل الألم والمعاناة في ظل وباء مُعدٍ.

إيغون شيلي ولوحات الإنفلونزا الإسبانية
في يوم 7 فبراير/ شباط 1918 ألقى إيغون شيلي النظرة الأخيرة على معلمه وملهمه غوستاف كليمت. لكن هذه المرة كانت في مشرحة مستشفى فيينا العام، بعد أن توفي كليمت بسكتة دماغية، يعتقد المؤرخون أنها نتيجة الإنفلونزا. أظهرت الاسكتشات السريعة وجه كليمت مشوها ومنتفخا نتيجة المرض والموت. رسم فيها شيلي نفسه مع زوجته وهي تحمل طفلهما المستقبلي. وماتت زوجته التي كانت حاملا في شهرها السادس بسبب الوباء، الذي أنهى حياة شيلي نفسه بعدها بثلاثة أيام.

إدوارد مونش "بورتريه ذاتي بعد الشفاء" 1919 



















ظهور الدادائية والتجريد والباوهاوس
ظهرت المدرسة الدادائية في ذلك الوقت واستولت على العبث والأسئلة الوجودية والعدمية كجوهر لقيامها. كان هناك دافع كبير لدى العديد من الفنانين في إنشاء عالم خيالي جديد تماما، بعيد عن الواقع الصعب المميت، ولهذا السبب أيضا ظهر التجريد كعوالم فنية حرة يخلقها الفنان بعيدا عن التقاليد الفنية المتعارف عليها، وكأن الفن أصبح ملجأ من ثقل الحياة، واحتجاجا ضد الإنسانية التي جنت.
مع الأخذ في الاعتبار نهاية الحرب وانتشار الإنفلونزا الإسبانية، أسس المهندس المعماري والتر غروبيوس مدرسة الباوهاوس المعمارية التي امتدت إلى الفن التشكيلي أيضا. بدأت المدرسة في فايمار بألمانيا، وأسست باعتبارها جسرا بين الفن والتصميم، وتدريب الطلاب على التخلص من الزخارف التي تثقل التصميم، في مقابل إنشاء أشياء فنية عملية ومفيدة في الحياة اليومية.
أنتجت المدرسة مفروشات عملية يعتقد مؤرخو الفن أنها تأثرت بوباء الإنفلونزا الإسبانية، وكانت على النقيض من الأثاث الثقيل كثير التنجيد الذي كان شائعا في ذلك الوقت. اتسم الأثاث بالخفة والبساطة واستعمال الخشب غير المزخرف مع أنابيب الفولاذ، وهي خامات سهلة التنظيف وخفيفة الوزن، تسهل التطهير والتنظيف.
تقول مونيكا أوبنيسكي، منسقة الفنون الزخرفية والتصميم في متحف أتلانتا العالي للفنون: "ارتبطت العمارة والفنون والتصميم الحديث في العشرينيات ارتباطا وثيقا بالخطاب السائد حول الصحة والتباعد الاجتماعي".

إيغون شيلي "غوستاف كليمت على فراش موته"، 1918 


















مائة عام بين الوبائين
كما كانت الحال في عام 1918، فإن الوباء ليس سوى جزء من مزاج أكبر سبق المرض ورافقه. كانت العزلة وآثار الاستهلاك بالفعل موضوعات استكشفها الفن على مدار القرن الماضي وفي العقود الأخيرة في لوحات أكثر من فنان منهم الفنان الأميركي إدوارد هوبر، والفنان الإيطالي جورجيو دي كيركو، والفنان الأميركي جون روجر كوكس، والفنان الهولندي فان غوخ.
استدعى ظهور وباء كورونا المستجد كل هذه اللوحات كمرادفات للحظة الحالية. وسيكون من المهم أن نرى كيف سيتذكر الفنانون والمؤلفون الجائحة الجديدة، خاصة مع توفر وسائل التواصل الاجتماعي والصور ومقاطع الفيديو التي تمثل مخزونا بصريا توثيقيا كبيرا لا يمكن تجاهله أو نسيانه، تظهر فيه المشاهد المروعة للشوارع المهجورة، وطوابير التسوق الطويلة في ظل التباعد الاجتماعي، وصور المستشفيات المكتظة بالمرضى والجثث الملقاة داخل أكياس القمامة، إلى جانب قصص أولئك الذين فقدوا أحباءهم دون وداع أخير. سيكون من المثير للاهتمام أن نرى كيف سيصور الفن الألم والمعاناة والموت الذي أحدثه فيروس كورونا في كل العالم. وهو ما قد نعود إليه في وقت لاحق.

 كرسي فاسيلي، B3، التصميم لمارسيل بروير في مدرسة باوهاوس 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.