}

ماكرون والقراءة كقضية وطنية

بوعلام رمضاني 23 يونيو 2021
تغطيات ماكرون والقراءة كقضية وطنية
ماكرون يحث التلاميذ على القراءة

خلال الزيارة التي قادته إلى مقاطعة "لان" وإلى مدينة شاتو تيري تحديدًا يوم السابع عشر من الشهر الجاري، ضرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر من عصفورين بحجر واحد. في المدينة الوديعة التي اختارها بحسٍّ ثقافي ثاقب، قام بتكريم جان دو لافونتين، رمزَ الأدب واللغة في الذكرى الأربعمائة لميلاد من يُعتبر أحدَ مرجعياتِ الذاكرة الإبداعية التي تخترق كل الطبقات الاجتماعية وتصدحُ بعلاقةِ وطنٍ تذوبُ فيه كل الفوارقُ الممكنة من خلاله باعتباره رمزًا ثقافيًا جامعًا لوُجودِ أمَّةٍ تُدينُ بالولاءٍ الأبدي لمبدعي الأدب، ومن خلاله للُّغة كتعبير غير محايد ثقافيًا وحضاريًا. وتجلى ذلك في احتفالية سياسية المظهر وثقافية الجوهر بحضور فابريس لوتشيني، أحد أكبر ممثلي المسرح والسينما والأدب في الوقت نفسه على مرأى ومسمع تلاميذ وتلميذات في سن الربيع. واختيار الرئيس للوتشيني، الممثل الشهير المعروف بجنونه الأدبي، لمرافقته إلى مدينة لافونتين، ينطوي على دلالة وظيفية وهادفة ورمزية على أكثر من صعيد، إذا عرف القارئ أن لوتشيني قد اشتهر فرنسيًا وأوروبيًا وعالميًا بتمجيد وتكريم أشهر وأكبر الأدباء الفرنسيين من خلال قراءات ساحرة بصوته وأدائه الساحرين، ومن بينهم جان دو لافونتين الذاكرة الأدبية الجمعية. ولأن مواطن فرنسا الأول يجب أن يُعطي المثل في افتتانه بالقراءة وبحبه للأدب، قال إنه مُولَعٌ بقِصَص لافونتين حول الحيوانات، لكنَّه يُفضِّل قصة "الحيوانات المرضى بالطاعون"، على مرأى لوتشيني الذي رافق الرئيس المُحِب للأدب وليس للصفقات السياسية والتجارية فقط.

الرئيس الذي وقع في غرام أستاذة للغة الفرنسية وتزوجها رغم فارق السن، وأحب فيها عِشقها لِلُغة موليير وبودلير ومونتسكيو وسيلين وبروست وفلوبير ولافونتين، كانت هي الأخرى حاضرة لتشارك زوجها عرسهما الأدبي وسط تلاميذ المرحلة الابتدائية، وسافرت معه أدبيًّا كما تفعلُ دائمًا تجسيدًا لتصريح في مدينة لافونتين تكريمًا للقراءة والأدب قائلًا: "القراءة سفر دائم، ونحن هنا للتَّحدث عن القراءة، عن اللغة الفرنسية، وعن لافونتين بطبيعة الحال".

تمثال جان دو لافونتين في مدينته



إجراءات لتشجيع الشباب على القراءة

لأن جولته ليست سياسية فحسب، وهي ثقافية تضرِبُ في صُلب الديمقراطية بمعناها الإنساني الواسع في علاقتها بمواطنة حقيقية، راحَ الرئيس الفرنسي يقول مُعلِنًا عن إجراءات ثقافية وتربوية تدفع كلَّ الشرائح والشبان بوجه خاص إلى القراءة و(هي الإجراءات التي لا تخدمه حتميًا سياسيًا في بلده الذي يعج بأعداء كثر يكرسون وينشرون شعبوية مَقيتة): "القراءة كانت إحدى مُرتكزات المواطنة لأنها هي التي تسمح بالمشاركة الاجتماعية من خلال تواصل مع آخرين يُؤدي إلى خلقِ وجودٍ وطني يقوم على قيم مشتركة".

وإذا كانت القراءة التي اعتبرها الرئيس الشاب والمُثقف حاجة قومية مصيرية في المجتمع الفرنسي بوجه عام، فإن هدفه التكتيكي السياسي الواضح تمحوَرَ أساسًا حول إغراء الشبان والشابات ودفعهم إلى القراءة التي تراجعت في فرنسا حسب آخر الدراسات وعمليات سبر الآراء، رغم قِدَمِ شعار اعتبارها قضية وطنية منذ عام 1977. ولأنَّ هذا الشعار لم يعرف طريقه إلى الواقع العملي كما يجبُ لأسبابٍ ماليةٍ حسب إحدى نشرات قناة "آل سي إي"، يحاول الرئيس الشاب أن يستغل حملة الانتخابات الجهوية تحضيرا لمعركة الانتخابات الرئاسية الكبرى التي ستعرفها فرنسا العام المقبل، وأن يستبقَ الأمرَ بربحِ الشُّبان الذين فقدوا الثقة في السياسيين الفرنسيين خاصة بعد أن تأكد من ظفره بإعجاب نسبة لا بأس بها في الآونة الأخيرة بعد حملة سياسية وإعلامية قادها عبر قنوات يوتيوب "وتيك توك". ضَرَبَ الرئيس الفرنسي أكثر من عصفورين بحجر واحد أيضًا، ليس بتوظيفه أشهرَ الممثلين المولعين بالأدب فحسب، بل باستغلال قدرته الفنية الخارقة التي تَغْرِسُ حبَّ الأدب حتى في قُلوب الذين تَضيقُ بهم الدنيا لحظة حمل كتاب، ولولا حضور الممثل المبهر فابريس لوتشيني جنبَ الرئيس لما تمكن من تمرير الرسالة بـ"وسيلة" إنسانية لا تُعوِّضها التقنية المتقدمة مهما كانت قوة الوسائل المعتمدة. دليلُ صبِّ القراءة كقضية وطنية في مجرى التزام أُمَّة ليس أمرًا ماكرونيًا محضًا فقد سبقه ديغول وميتران، ويندرجُ ضِمنَ مسارِ تدارُك تراجعٍ نسبي للقراءة وليس لغياب شبه مطلق. ولكن الرئيس "الماكر" ثقافيًا، تميّز عن سابقيه، وضِمنَ بَصْمته الخاصة بدعوته الفرنسيين إلى قراءةِ الأدب بصوت عالٍ لتَمَثُّلِ والتقاطِ سحر ووقع الكلمة والتعابير الأخاذة التي تُمَكِّنُ المستمع من السفر فرديًا وجماعيًا في الوقت نفسه، وتحقيق إفادة شاملة تحقق المُتعة والتسلية والتثقيف والتهذيب النفسي والتلطيف الروحي والتجديد البدني حتمًا كنتيجة سيكولوجية علمية في محصلة مسار الأمر إذا عرفنا أن الدراسات قد أثبتت أن الذي يقرأ أسعد من الذي لا يقرأ.

ماكرون ولوتشيني خلال زيارة المدينة



لوتشيني وخطر الصديق الجاهل

لم يضرب الرئيس الفرنسي وحده أكثر من عصفورين بحجر، وفعل الشيء نفسه الممثل فابريس لوتشيني الذي غطى معنويًا وثقافيًا وإعلاميًا على الرئيس ماكرون في نظر الكثيرين المتفطنين للضربات الدعائية العابرة. الممثل الذي تجوَّل وجلس جنب الرئيس وتبادل معه الدعابة والابتسام وعاش برفقته الزمن الثقافي والخالد والخارق والأجمل، قرأ له وللتلاميذ وللعالم الذي أصبح قريةَ نماذجَ مُختارة بدقة مما كتب لافونتين، فخر الفرنسيين الأدبي، ولم يكن وقعُ قراءة لوتشيني قويًا ومؤثرًا على الحاضرين من المسؤولين المعنيين دون استثناء فقط، ولا شك في أن مُصوري القنوات التلفزيونية التي غطت الحدث قد تمتعوا بدورهم كما لم يحدث لهم من قبل. قرأ لوتشيني نماذج من أشعار وقصص لافونتين، ومن بينها "الدب وهاوي الحدائق"، و"ليس هناك أخطر من صديق جاهل" مضيفا مرتجلًا: "هذه المقولة تنطبق على الكثير من مستشارين سابقين لرؤساء الجمهورية".

للتذكير ولمن لا يعرف فابريس لوتشيني، نُضيف أنه من مواليد الفاتح نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1951 بباريس وهو ابن تاجر إيطالي للخضار والفواكه، اضطر لأن يتحول إلى سائق للشاحنات كما اضطرت زوجته للعمل خادمة بعد إفلاس زوجها التاجر السابق، وترعرع في حي "لاقوت دور" الباريسي الشعبي (القطرة الذهبية) في الدائرة الثامنة عشرة المعروفة بمهاجريها الجزائريين. فابريس لم ينجح في الدراسة، وعمل حلاَّقا قبل أن يُصبِحَ مُولعا بالأدب بعد أن اكتشف فيه أستاذه في الإملاء والإنشاء ميلًا جنونيًا لكل ما له علاقة بالكلمة. فابريس العصامي ولد مجددًا إثر تحوّله مراهقًا إلى قارئ يلتهم أدب كبار الكتاب من أمثال بلزاك وفلوبير وبروست وسيلين الذي قرأ له تحفة "سفر حتى حافة الليل" وعمره لا يتجاوز السابعة عشرة. اشتهر منذ نهاية الستينيات بعشرات الأدوار السينمائية تحت قيادة المخرجين إريك رومير وكلود شابرول وكوستا غافراس وكلود لولوش وسدريك لابيش وجاك ريتشارد وآخرين كثر. بعد تجربة سينمائية متفاوتة المستوى، اقتحم التلفزيون في نهاية السبعينيات، وصَعَد خشبة المسرح في الوقت نفسه ليُكرِّسَ لاحقا كواحد من "وُحوشها" كما يقال عن الممثلين الكبار، وتألَّق في العديد من المسرحيات نذكر من بينها "في انتظار غودو" و"الحارس الليلي" و"سفر حتى" و"ساعة هدوء". رغم تألقه كممثل موهوب، ارتبط اسمه بتمثيله الإبداع الأدبي والفكري على خشبة المسرح، ومن بين الذين قرأ لهم ومثلهم بالصوت والإيماء والنبرة والحركة نذكر لافونتين بطبيعة الحال ونيتشه وسيلين وبودلير وبول فاليري وهوغو ورولان بارت وموليير ورامبو وآخرينَ كُثُر لا يَسَعُ ذكرهم كلهم في هذا المقام. حصل على عدة جوائز تكريمية من بينها سيزار أحسن ممثل بين أعوام 1985 و2017 وجوائز متعة المسرح وجان غابا وبومارشيه وموليير الشرفية وكوكب الكريستال لأحسن مسرح من أجل الشِّعر.

ماكرون بين التلاميذ في إحدى المدارس




الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.