}

"ماتت الرواية، عاشت الرواية"

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 6 أغسطس 2021

 

 

الهُتاف بالحياة إلى آخر ساعة، إلى آخر نبض... وصيغ أخرى كثيرة تثير الغرابة من مثل "اختيار موعد الموت" أو "أن يكون قرار الموت في اليد". هل ذلك يحتوي على معنى أو قيمة؟ هل دلالة وقيمة ذلك يمكنها أن تذيب الفروق الفلسفية الجذرية بين الحياة والموت؟ لكن لا بد من تأكيد هذا الأمر الضروري: الموت واقفًا، وفي امتلاك تام للقدرات الجسمية والنفسية، وتحت المراقبة، أصبح هو مرجع ومعيار "الموت الجيد" الحديث1. إن البقاء إلى آخر ساعة، إلى آخر نبض في القلب، هو التراجع الحكيم عن قرار "الموت الرحيم"، الذي أصبح جريمة كاملة الأركان، من الناحية القانونية. ولذلك دلالة قوية: الإبقاء على الجوار المقدس، والوجود الثابت، بين الحياة والموت.

لكن، في البداية، لا بد من وضع هذا التمييز الدقيق الذي وضعه ر. هيغنز بين الموت وطلب الموت، حيث يرى أن الرغبة في الموت تعادل انتظار الموت كنهاية لحياة، بالمعنى الذي دعانا فرويد إلى تأمله: "إذا أردتَ تحمل الحياة، كُن دائمًا مستعدًا لتقبل الموت". سيكون طلب الموت، بالمقابل، إذن وهميًا، أي الرغبة في عدم الموت، أي عدم البقاء حيًا لحظة حدوث الموت2.  

إننا إذا أخضعنا الأزمات التي عاشها جنس الرواية، ولا يزال يعيشها، إلى هذه المفاهيم، سنقف على حقيقة الرواية المتأرجحة بين الحياة والموت. ولا ننسى هنا التذكير بأزمة الأربعين سنة التي عاشتها الرواية الفرنسية بين سنة 1890 و1930، وقد ألف ميشيل ريموند، في الموضوع، كتابًا أصبحت أفكاره مرجعية. ففي هذا التاريخ كانت "النقاشات النظرية نادرة، وفي غالب الأحيان لم تكن سوى صدى لخصومات السنوات العشر الأولى"3.

اهتم ميشيل ريموند بالنصف الثاني من سنوات 1920 على الخصوص، التي سجلت عددًا كبيرًا من الدراسات المكرسة لمستقبل "جنس أدبي في خطر"4. كان النقاش حادًا، كما تشير إلى ذلك العديد من الأعمال المنشورة في الموضوع. فقد كان شعار "الرواية في خطر" صدى لـ"هل الرواية في خطر؟" و"الرواية والدفاع عن الرواية"، و"اعتذار إلى الرواية" و"جُنَح الرواية" (لشارا رولا).  

مجلة "جسر" ومؤلف ميشيل ريموند "أزمة الرواية" 


إن مدونة الدراسات والأبحاث التي اعتمد عليها ميشيل ريموند ضخمة جدًا. لكن رغم ذلك، وجد دارسون آخرون، مثل سيلين مانساتي، أنه من أجل إغناء النقاش في الموضوع، من الضروري إضافة مرجعيات أخرى ليست تكميلية، بل جديدة، مثل مجلة المنفى الأميركية "جسر"5. وقد مكنها وضعها الثلاثي: 1- مجلة، 2- مجلة أجنبية، 3- مجلة المنفى، من لقاءات استثنائية خصبة مع العالم الثقافي الفرنسي والأوروبي خلال سنوات 1920 1930. ولا نحتاج إلى تأكيد أن للمجلات طبيعة خاصة تمكنها من إجراء المبادلات. بذلك جعلت "جسر" من الحوار الثقافي أولوية سمحت لها بتطوير نظرة خارجية عن الإشكاليات الثقافية، والأدبية، في البلدان الأخرى. هكذا، استفادت من النقاش الفرنسي حول الرواية من أجل تحليل أزمة الرواية الأميركية والإجابة عنها، لكنها قامت من جهة أخرى، وهذا ما يهمنا هنا، باقتراح مجموعة من الإجابات عن الأزمة الفرنسية. كانت "جسر" 1929 تُعتبر أهم مجلة أميركية (أدارها أوجين جولاس، ويقع كل عدد في 300 صفحة) للمنفى بين الحربين العالميتين، وتم نشر بيان "ماتت الرواية، عاشت الرواية"، في عدد تشرين الثاني/ نوفمبر 1928، الذي عكس الانشغالات النظرية الفرنسية واقترح حلولًا للأزمة، مع مزج لخطابات كل المتدخلين في النقاش، لكن مع اقتراح توجهات جديدة.

لم يكتف البيان بالإعلان عن بنيته: اثنتا عشرة فقرة قصيرة، بل عن الأشكال التي ستتخذها "رواية المستقبل". ورغم أنه مكتوب بالإنكليزية ومنشور في مجلة موجهة أساسًا للقارئ الأميركي، إلا أنه استعاد خلاصة تركيبية أصلية بمفاهيم النقاش الفرنسي حول الرواية كما ظهر منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى ظهور السريالية6. لقد كانت "جسر" أكبر مجلة أنجلوفونية للسريالية، وذلك معناه أنها تبنت أفكار أندريه بروتون في الموضوع. إذن، من الضروري قراءة بيان "ماتت الرواية عاشت الرواية" تحت أصداء بيان السريالية  الأول، الذي انتقد "الطابع الواقعي" المتشكل من "التفاهة والحقد والاكتفاء بسطح الأشياء"7: "لا يمكن للرواية أن تتطور، لأنها تتعلق بالإكراهات الوصفية لعالم تافه". وقد عبر بروتون و"جسر" معًا عن نفس التقزز من هذا الجنس التعاقدي الذي هو الرواية المعاصرة: "إن الرواية كما هي ممارسة اليوم هي شكل قديم لا يجيب أبدًا عن حاجيات الروح الحديثة". "إنها تقدم صيغة جامدة، مستهلكة وأصبحت أداة للتعبير ليست في المتناول". "لقد أصبحت مصطنعة وتشبه، مثلها في ذلك مثل البيت الشعري، سترة المجانين بالنسبة لراءٍ مبدع في مرحلتنا".

أندريه بريتون وبيان السريالية


بعد هذا النقد اللاذع لرواية تلك المرحلة، والحط من قيمتها، كيف تصور بيان "ماتت الرواية عاشت الرواية" رواية المستقبل، أو الرواية القادمة؟ "إن رواية المستقبل ستكون تكثيفًا لكل مظاهر الحياة تحت ضوء خالد وفوق المكان". "رواية المستقبل ستستعمل البرقيات، الرسائل، القرارات الإدارية، والأخبار والحكايات اليومية، الأساطير والأحلام باعتبارها وثائق للخطاب الجديد". "رواية المستقبل ستكون موسوعة مطاطية لانصهار الواقع الذاتي والموضوعي". "رواية المستقبل ستكون تركيبًا لكل أساليب المرحلة من أجل تشكيل وحدة".

إن أفكار البيان الثورية يمكن فهمها على أنها تخص تصورًا جذريًا للأدب بصفة عامة. ومفاده الكتابة بلغة ومعجم وتركيب لغوي جديد، يستطيع التعبير بشكل أفضل عن فرادة خيال ولاوعي الكُتاب. من هنا جاء تعبير "ثورة الكلمة". وقد رافق ذلك، في الجانب النظري اللساني، عدة دراسات وأبحاث حول اللغة. كما رافق، من جهة الإبداع الروائي، كتابات جيمس جويس وجرترود ستاين. كما وجد ترجمة واضحة في صفحات المجلة، التي اقترحت عدة نصوص تنتمي إلى الحداثة العالمية الموسومة بالبحث عن حقيقة أخرى. وفي ذلك نشرت ترجمات لشعراء تعبيريين أميركيين وألمان. إلى جانب نشر فصول من روايات فلسفية وتكعيبية، ميزتها الأولى غياب الاستمرارية في الشخصيات والحبكة، وعدم انتظام المعجم والأسلوب.



أوجين جولاس وجيممس جويس

 
لقد قمنا بتقديم أهم أفكار البيان الذي اهتم بإحداث ثورة في الخيال والكلمة، باعتباره أحد أكبر النصوص في الحداثة العالمية. وبغض النظر عن طابعه الأميركي أو الفرنسي، فقد ظل مختبرًا حقيقيًا للنثر المعاصر، للحداثة العالمية، لقضايا تحرير أجناس الأدب، وعلى رأسها الرواية، من الجمود الذي يوقف تطورها نحو أشكال جديدة. ستبقى الرواية متشبثة بالحياة إلى آخر دقيقة. وإن قرار موتها أو حياتها يبقى، في نهاية المطاف، بيد الكتاب والروائيين والنقاد الذين يجددون من أفكار نظريتها. وإذا أردنا تحمل قراءة الرواية، حتى في أشط أزمتها حدة، علينا تقبل أمر موتها في أي ساعة، كما أسلفنا في استعادة النصيحة التي أسداها فرويد للناس: "إذا أردتَ تحمل الحياة، كُن دائمًا مستعدًا لتقبل الموت".


هوامش:

1-   Stéphane Amar, vers un nouveau roman de la mort, dans : Jusqu’à la mort accompagne la vie, 2014, N.116, p.p. 27-36.
2-   Ibid, p. 27.
3-   Michel Raimond, La crise du roman, des lendemains du naturalisme aux années vingt, José Corti, Paris, 1966, p.16.
4-   Ibid, p. 10.
5-   Transition, 1929.
6-   Stéphane Amar, p. 143.
7-   André Breton, Manifestes du surréalisme (1924), Gallimard, 1985.

  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.