}

العلم للأبناء.. عن الرواية والعلوم

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 9 سبتمبر 2021
يهتم الفرنسيون العاملون والفاعلون في المجال التربوي والعلمي بتبسيط العلوم لأبنائهم. وقد نشأ عن هذا الاهتمام بروز كُتاب بعدد كبير يقدمون للفتيان مفاهيم علمية معقدة في قالب روائي مبسط وشيق، أو في شكل حوارات، كما هو الشأن بالنسبة لكتاب "تبسيط العلم لأبنائي" لجان- مارك ليفي- لوبلون ( دار سوي، 2014)، ونقتبس منه هذا الحوار الشيق بين عالم فيزياء وابنه:

 - ما هذه العلامات الغريبة التي تخربش على الورق؟  

 - إنه عملي: الفيزياء.

 - لكنني أعتقد أن الفيزياء تهتم بالذرّة، والجُزَيْئات، أو النجوم الفلكية، أو الثقوب السوداء... وتتطلب آلات معقدة جدًا من أجل مراقبة هذه الأشياء!

 -  لقد أصبتَ! وهذه الورقة وهذا القلم، هما من بين الآلات المعقدة جدًا.

 - هل تسخر مني؟

 - لا، فقط أمزح قليلًا. في الواقع، الآلة المعقدة التي أستعمل هي عقلي.

 - تقصد أن داخل رأسك، تستطيع أن تدرس الذرّة، مثلًا؟ وأنك لست في حاجة لمنظار أو لمعجل الجسيمات؟

 - بلى، بطبيعة الحال، أنا في حاجة إليها، لكن التجارب والمراقبات التي نقوم بها بواسطة هذه الآلات لا تكفي: يجب أن نفهم نتائج القياسات والصور المحصل عليها، ونؤولها. وهنا يتدخل عقل الإنسان، آلة التفكير إن شئت، كما تدخل من قبل في تصور التجارب واختراع الأدوات.

 - لكنني لم أرَكَ أبدًا تستعمل إحدى الأدوات وأنت تعمل...

تقدم مجموعة من نماذج الأدب الموجه إلى الأطفال أو الفتيان صورة واضحة عن كيف نقدّم الأشياء الكبرى بسيطة لأبنائنا بدون غموض أو تعقيد. فالتعقيد والتركيب هما أمر خاص بالكبار فقط. ولتحقيق هدا الهدف العلمي لا بد من أن نوكل الأمر إلى أهل الاختصاص. فمثلًا كريستوف شافاردان، مؤلف رواية "بلثزار وسر العميل مولر"، هو مهندس ومسؤول عن الأنشطة التربوية في جامعة تولوز، وله عدة إصدارات موجهة إلى الفتيان في مجال علم الفضاء.

وتثير مثل هذه المؤلفات عدة نقاط تفكير في العلاقات الممكنة بين الأدب والعلم. فالأدب حقل مختلف، والعلم حقل آخر لا يمكن العبور إليه بسهولة من حقل الأدب. فإما أن يكون التأليف في الأدب، وإما في العلم. لكن بالرجوع إلى التاريخ نجد أن التقاطع بين الأدب والعلم ليس جديدًا. ففي سنة 1925، لاحظ ألفريد ويتهايد أن 1605 كانت سنة نشر كتاب "تطور العلم" لبيكون ورواية "دون كيشوت" لسيرفانتس. وكذلك أضاء الفيلسوف الفرنسي ميشيل سيريس عدة مظاهر للتطور المتوازي بين الأعمال العلمية، والفلسفية والأدبية، جاعلًا من القرن السابع عشر أحد "الجسور" بين العلوم الإنسانية والعلوم الحقة. وقد أكد في كتابه "أضواء وعلامات الغروب" ضرورة تجاوز الحواجز الفاصلة بين العلم والأدب.

نقدم اليوم نموذجًا ناجحًا لهذه التجربة، وهي رواية "بلثزار وسرّ العميل مولر" للكاتب الفرنسي كريستوف شافاردان (لوبومييه، 2012، 180 صفحة)، وتحكي عن "بلثزار" و"جامبو"، وهما طالبان في المرحلة الثانوية، طلبت منهما أستاذة اللغة الفرنسية كتابة قصة من وحي الخيال. فاختارا الحكاية المرسومة كي يشخصا بها أحداثًا لأناس الفضاء. وخلال زيارة قام بها بلثزار للمرصد، صادف العميل مولر، وهو عالم غريب الأطوار، قام بتزوير أبحاث قامت بها عالمة الفضاء الشابة باولا ديل أكوا. اختفت باولا ولم يُعثر لها على أثر. فقاما، بلثزار وجامبو، بتحقيق في الموضوع، واكتشفا أن العميل مولر وراء اختفائها. وسوف يتم تحرير باولا ليحظى الشابان البطلان بجائزة عن قصتهما المرسومة.

إنها رواية تقع بين العلم والأدب. وكاتبها كما ذكرنا هو كريستوف شافاردان، الدي بدأ شاعرًا وانتهى مهندسًا متخرجًا من جامعة تولوز. ونشر عدة كتب بيداغوجية حول الفضاء وعلم الفلك.  

 

يهتم الفرنسيون العاملون والفاعلون في المجال التربوي والعلمي بتبسيط العلوم لأبنائهم،  كما هو الشأن بالنسبة لكتاب "تبسيط العلم لأبنائي" لجان- مارك ليفي- لوبلون



محاضرة البيولوجيا الخارجية

وأخيرًا يوم الأربعاء. دق جامبو جرس باب منزل بلثزار، الموجود على بعد بضع مئات الأمتار من المدرج.

- لنذهب.

لبس بلثزار كنزته الرياضية الجميلة ذات القلنسوة، وجذب جامبو نحو الطريق المؤدية إلى المطعم الجامعي.

- أنت على حق، لا ينبغي أن نصل متأخرين.

وهو يقفز فوق إحدى أجمل كراته، أو على الأقل أحدثها، بدا جامبو منسجما مع صديقه السيناريست.

كان بعض الطلبة بشعورهم الطويلة ينتظرون في مدخل المدرج. كان هناك أيضا رجال متقدمون في السن، بعض الأزواج وأمّ أو اثنتان صحبة أطفالهم. عبر بلثزار وجامبو وسط مجموعة صغيرة للولوج إلى القاعة.

نصف المقاعد كانت ممتلئة، أكثر من مائة شخص يوجد هنا. اقترب جامبو من بلثزار، تعثر في الدرج، ثم نهض، التصق بصديقه، وشوش في أذنه وهو ينظر إلى القمطر الموجود في أسفل الصالة:

- هل رأيت، هناك في الأسفل، هل تظن أنها هي؟

- أوووه... ربما هي، نعم... أجاب بلثزار.

بعد لحظة تردد، جلسا في الجزء السفلي من المدرج.

امرأة عجوز بشعر أحمر أخذت بسرعة الكلمة.

- أصدقائي الأعزاء، نحن سعداء برؤيتكم بهذه الكثرة لحضور هذه المحاضرة بالجامعة. لا يتعلق الأمر بمفاجأة، لأن كل الناس يريدون معرفة هل الحياة توجد خارج كوكبنا؟ ذلك ما سنكتشفه بفضل صديقتنا الشابة، شابة لكنها متخصصة كبيرة في البيولوجيا الخارجية، باولا ديل أكوا.

مثل الجميع، صفق بلثزار وجامبو تصفيقًا شديدًا. نهضت امرأة من مقعدها وتقدمت إلى القمطر وبدأت تتحدث.

- شكرا. لا أعرف إذا ما كنت قادرة على أن أقول لكم هذا المساء ما إذا كانت هناك حياة موجودة في الفضاء، رغم أنني أرغب في ذلك...

كانت تتحدث بلكنة إيطالية خفيفة، لا تدع مجالا للشك.

- لكن قبل أن أشرح لكم بماذا تتكون أبحاثي حول الحياة في الفضاء، سأبدأ قبل كل شيء بالتطرق معا إلى ما معنى حياة أرضية؟ أنا مضطرة للاعتراف أمامكم الآن: إنها الوحيدة التي نعرف. لكن هل نعرفها أكثر من ذلك؟

أخرج بلثزار دفتر ملاحظات، القلم ذو الدوران الآلي يتحرك بين أصابعه، بحركة موحدة وآلية من الإبهام إلى السبابة. يدا جامبو تهتزان. لقد استرعت باولا بانتباهه.

 - هل تعلمون ما يسمح بالتمييز بين ما هو حي وما هو ليس كذلك؟ هيا، لا تخجلوا، هل لكم بعض الأفكار؟

لم تدم الضجة الأولى في القاعة أكثر من بضع ثوان. الأجوبة الأولى صدرت عن طلبة بشعر طويل، يجلسون في أعلى المدرج:

- الأكل.

ضحك صاحب هذه الإجابة العفوية، الطرية والمسترخية.

- طبعًا. هذه أولى قواعد الكائن الحي الذي يتغذى. وهذه التغذية تسمح له بالحفاظ على وظائف جسمه الحيوية. جيد جدًا. لكن الكائن الحي يتميز أيضًا بنشاط آخر...

- التنفس.

إنهم الطلبة في أعلى المدرج من حاولوا مرة أخرى.

- نعم، صحيح، لكن التنفس يمكن أن يتخذ أشكالًا متنوعة جدًا. لكي نتنفس، يجب أن نستنشق الأوكسجين والهواء، ونلفظ الديوكسيد والكاربون. غير أنه توجد حيوانات صغيرة مجهرية، جراثيم، ليست في حاجة إلى الأوكسجين لكي تعيش. شكل تنفسنا ليس مقتسما إذن بين كل الكائنات الحية. لكن هناك نشاط آخر تشترك فيه، بدون أدنى شك...

ساد الصمت هذه المرة في المدرج.

اقتربت باولا ديل أكوا من مكبر الصوت، وجسدها قريب من القمطر. استقر نظرها على الصفوف الأمامية وهي تبتسم، ركزت عينيها الزرقاوين بالقرب من جامبو وبلثزار، وشوشت مرة أخرى، لكن وشوشة خفيضة هذه المرة:

- ألا ترون حقًا؟

هل بفضل حدس إلهي، بانقطاع تيار عصبي صالح لكل التأويلات، بذكرى ملائمة لقراءات حديثة؟ صرخ جامبو، بل صاح، وقذف فجأة كلمة واحدة:

- التناسل.

- آه نعم. برافو، لقد بدأت أفقد الأمل. في الواقع، كل الكائنات الحية تتناسل، أي أنها قادرة على إنتاج نسخة من نفسها. لكن هذه النسخة تختلف بشكل خفيف عن الأصل، لكي تتأقلم بشكل جيد مع محيطها: هذا ما نسميه التطور، وهو مفهوم أساسي. هذه القواعد هي مشتركة بين كل الكائنات الحية... أظن أنه من المهم التذكير بذلك.

لم يهدأ جامبو، ما زال يرتعش. حاول بلثزار بجد تسجيل القواعد الكبرى للكائن الحي في مذكرته ذات اللولب، لكن خطوطه المبهمة المكتوبة بقلم حبر أسود ستبقى غير مقروءة من طرف أجيال "شامبويون" القادمة.

تابعت باولا:

- لكن لنعد الآن إلى دراستنا عن الحياة في الفضاء... في أي شروط يمكن للحياة أن تتطور خارج كوكبنا؟

حملت باولا كأس ماء إلى شفتيها، لتنتعش قليلا. ثم تابعت محاضرتها، وهي تتجول بمكبر الصوت في يدها، في ذهاب ورواح فوق المنصة.

- نحن للأسف لا نعلم كيف ظهرت الحياة فوق الأرض. ذلك يبقى لغزًا بالنسبة لكل العلماء. لكن، مقابل ذلك، نعرف الشروط التي أعدت لتطورها. شروط تضمن لكل الكائنات القدرة على احترام القواعد الكبرى للكائن التي حدثتكم عنه قبل قليل. إذا أردنا أن تكون لنا حظوظ إيجاد حياة خارج كوكبنا، يجب علينا أولا العثور على كوكب يحتوي على كل تلك الخصائص... هذه هي صورته النموذجية...

عادت المحاضرة إلى القمطر، وبدأت الآن تدير فيلما يُعرض على الشاشة الكبيرة في القاعة. تظهر فيه صور كوكب متخيل، ينكشف شيئا فشيئا مع التقديم.

- أولًا، يجب على هذا الكوكب أن يكون صخريًا، بمناخ يحميه من اعتداءات الفضاء، مثل الأشعة الخطيرة أو النيازك. هناك نقطة أخرى مهمة: يجب أن نجد فيه مواد عضوية، أي جزيئات متكونة من ذرة الكاربون، الأزوت، الهيدروجين والأوكسجين.

بدا جامبو في حالة من التركيز متقدمة، كان يتشرب بدون مصفاة كل كلمات خطاب باولا. هذه المجموعة من المقاطع اللفظية تسافر داخل تعرجات عقله بسرعة مذهلة، وتتصادم... كاربون، أوكسجين... تقوم بجولة داخل عقله... هيدروجين، آزوت... ثم تتبخر في هواء المدرج بدون تشوه ملحوظ، شبه سليمة، وصالحة لاستعمال جديد.

- بكل تأكيد، يجب أن يوجد أيضًا على هذا الكوكب مصدر للطاقة، يعود مثلًا لنجم يقع بالقرب منه. لكن هذا النجم لا ينبغي أن يكون قريبًا جدًا، ولا بعيدًا جدًا، لأن حرارة الكوكب يجب حتمًا أن تسمح للماء أن يكون سائلًا. هذه المسافة المثالية بين الكوكب ونجمه تحدد ما نسميه الـ"منطقة السكنية" للنظام. إذا اجتمعت كل هذه العوامل، إذن، يوجد الأمل.

تابعت باولا محاضرتها وهي تدعمها بأمثلة حديثة لبعثة تم إرسالها إلى النظام الشمسي بحثًا عن  الحياة في الفضاء. كان بلثزار يتأمل الصور على الشاشة بإعجاب. لقد انكشفت أمامه عوالم أخرى، التي كانت دائمًا تملأ قراءاته الكثيرة. من المؤكد، أن الرواد الجدد يختبئون داخل الفيزياء الفلكية، داخل مختبرات علم الحياة الخارجية وعلوم الفضاء. لماذا لا يحكون قصتهم بقليل من السبق، لماذا لا يتخيلون مفخرة هذه المغامرات في الحياة الفضائية؟

انتهت المحاضرة. حاول بلثزار أن يظهر مغتبطًا، التفت نحو جامبو لكي يقتسم معه شعوره، فكرته والسيناريو الذي بدأ يتبلور منذ بضع دقائق.

وهو منكمش على نفسه حول القلم الذي يمسكه بيده اليسرى، كان جامبو يرسم. كان يضع اللمسة النهائية على رسمه الذي يملأ كل غلاف مذكرته "أ.4": تظهر عليه فتاة فضائية شابة بشعر أسود طويل، تقود مركبة فضائية، في الفضاء البرتقالي في كوكب مجهول لحد الآن...

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.