}

كازنتزاكيس لشابة صهيونيّة: الشتات وطن اليهود..

جورج كعدي جورج كعدي 17 يونيو 2022


ها رؤيا ثانية للأديب والشاعر والمفكّر والفيلسوف والكاتب المسرحيّ والرحّالة اليونانيّ نيكوس كازنتزاكيس (1883-1957) تلي رؤيا فرويد (راجع مقالتي في هذا الموقع بتاريخ 26 مايو 2022) تنبئ، بكيفية ما، بزوال "إسرائيل" وعودة يهودها الصهاينة إلى الشتات من حيث أتوا. تنبّؤان لرجلين فذّين غير عادييّن، واحد لرائد علم النفس والتحليل النفسي، وهو للمفارقة يهوديّ نَسَبًا وحَسَبًا وغير مؤيّد البتّة للمشروع الصهيونيّ الآيل حتمًا إلى الفشل والسقوط في نظرته الثاقبة، والثاني لأديب يونانيّ كبير أطبقت شهرته الآفاق ويعرف العالم كلّه تحفاته الكثيرة من "الحرية أو الموت" و "زوربا اليونانيّ" (الذي نُقل إلى السينما عام 1964 فيلمًا بديعًا للمخرج اليونانيّ القدير مايكل كاكويانيس مع الممثلين الكبار أنطوني كوين وألن بيتس وإيرين باباس، وموسيقى الكبير ميكيس تيودوراكيس)، إلى "الإغواء الأخير للمسيح" (أيضًا اقتبسه مارتن سكورسيزي للسينما عام 1988 محدثًا ضجةً عالميّة ومثيرًا سجالًا في الدوائر الكنسيّة)، إلى العديد من المؤلفات وأحد أشهرها أيضًا "تقرير إلى غريكو" الذي نشرته زوجته بعد وفاته ويجمع رسائل كازنتزاكيس ومذكراته. والجدير ذكره أنّ كازنتزاكيس كاد ينال نوبل الآداب التي رشّح لها عام 1956 لكنّ الأكاديميّة آثرت منحها لألبير كامو عامذاك. علمًا بأنّ شهرة كازنتزاكيس وعظمة قيمته الأدبيّة والفكريّة تطغى على كلّ الجوائز مهما علا شأنها.

كازنتزاكيس كان، إلى الأدب والشعر والفكر والفلسفة والمسرح، رحّالة من الطراز الأوّل، زار بلدانًا عديدة من بينها روسيا واليابان والصين والولايات المتحدة ومصر وإيطاليا وإسبانيا وقبرص... وفلسطين، وقد جمع رحلاته الأوسطيّة (مصر، سيناء، قبرص، فلسطين) في كتاب واحد تحت عنوان "Journeying" عام 1975 نموذجًا أدبيًا ذاتيّ النظرة والانطباعات، ومنه أَستلُّ مقطعًا متعلّقًا برحلته إلى فلسطين عام 1927 الذي كان يشهد بدايات الاستيطان اليهوديّ الصهيونيّ المقنّع والمتسلّل كالأفعى إلى أرض فلسطين التاريخيّة، منشئًا المزارع والكيبوتسات، تمهيدًا للاستيلاء على كامل الأرض في مرحلة لاحقة، تحت حماية المنتدب البريطانيّ ووعده "البلفوريّ" المشؤوم. هناك زار كازنتزاكيس القدس ونواحيَ عديدة من الأرض الفلسطينيّة، واصفًا مشاهداته في أسلوب أدبيّ رفيع ورقيق يجمع التاريخيّ إلى الذاتيّ والوجدانيّ ويلامس الشعر النابض بالرقّة والروح الإنسانيّة العالية. أديب وشاعر ومفكّر يكتب أدب رحلة، ولنا أن نتخيّل درجة الرهافة والعمق. وهناك، دوّن لقاءً مثيرًا، معبّرًا، تنبؤيًا، فذًا، مدهشًا، مع مدرّسة شابّة صهيونيّة في العشرين من العمر، ودار بينهما الحديث (الحوار؟) الآتي الذي أنقله كاملًا لما فيه من فائدة وعمقِ رؤية وثقافةٍ ومعرفةٍ ونظرةٍ واقعيةٍ إلى المشروع الصهيونيّ ومآلاته المستقبليّة.

جمع كازانتزاكس رحلاته الأوسطيّة في كتاب تحت عنوان "Journeying" 



هذه قارئي الوقائع الكاملة للحوار الذي دار بين كازنتزاكيس والشابة اليهوديّة والصهيونيّة، ويحمل خلاصة المعنى العميق لنبوءة الأديب اليونانيّ الكبير وما أراد إبلاغه للمستوطنين اليهود الصهاينة الأوائل قبل حلول النكبة الكبرى عام 48 ونشوء الدولة المسخ القائمة على مجموعة خرافات ومزاعم متهافتة وأباطيل.
يروي كازنتزاكيس حرفيًّا:

"كانت بجانبي حسناء يهوديّة تسير وتتنفّس بيسر. كانت مدرّسة تدعى جوديت. رافقتني لتريني حديقة للأطفال اليهود، وكانت في سنّ العشرين، قصيرة القامة، رشيقة، ذات أنف معقوف، وعينين فاحمتين حائرتين، وشعر خشن أجعد، وذقن عريض يدلّ على العناد والتصميم.

سألتها:

"ماذا حصل كي تصبحي صهيونيّة؟".

أجابت:

"كنتُ أدرس الطبّ، ولم يكن لديّ أيّ انتماء لأيّ دين أو بلد. كان الناس يثيرون اهتمامي، وكنتُ أشعرُ بالرأفة والشفقة حيال الجنس البشريّ بأكمله، مدركةً كيف يمكن أن يتقاسم سائر البشر المعاناة أو الحبور أو الحزن. لكنّني كنتُ متعطشةً لشيء مختلف. لذا جئتُ إلى فلسطين".

قلت:

"لماذا لم تذهبي إلى روسيا؟ يقولون إنّ عالمًا جديدًا يتشكّلُ هناك؟".

أجابت:

"لا حريّة هناك. إنها جماعة فظّة تحكم الآخرين، الآخرين جميعًا. الحقيقة أنّ جماعة البروليتاريا هذه ما كانت تريحني البتّة. كنتُ أَنشدُ الحرّية".

قلت:

"وهل وجدتِ تلك الحرّية هنا، في فلسطين؟".

أجابت:

"هنا نعمل بحرّية، نحاول، نختبر، نبحث للعثور على شيء ما. هنا تستطيع أن تلقى شعبًا تعمل وإيّاه، تبعًا لمزاجك الشخصيّ. هنا تصادف الثوريّين المتطرفّين في ثوريّتهم والمحافظين المفرطين في تقليديّتهم. هنا تجد الحرية. للمرة الأولى أشعر بأنّني حيّة وقويّة وقادرة على أن أحبّ الأرض التي لم أُعِرها اهتمامًا قطّ يوم كنتُ في أوروبا. كما يسعني هنا أن أشعر بفرح انتمائي إلى الجنس اليهوديّ".

قلت:

"في تعبير آخر، ها أنتِ بدأتِ بفقد حريتكِ، بتقييد نفسكِ وجذبها إلى ركن محدّد من الأرض. بدأتِ تضيّقين مساحة قلبكِ بعدما كان متّسعًا للعالم كلّه وبات يميّز الآن ويفرّق ويختار ولا يتقبّل سوى اليهود. ألا تشعرين بخطر ذلك؟".

احتجّت الحسناء اليهوديّة على كلامي غاضبةً، بيد أنّ غضبها كان يشوبه خوف، وسألتني: "أيّ خطر؟"

قلت: "أيّ خطر؟ سأخبركِ: منع زعيم الغجر شعبه من بناء البيوت، أو زرع الأشجار، أو رفع الأسوار والأسيجة. لذا هم ينصبون خيامهم على أرض ما لفترة زمنيّة قصيرة، ثم يعاودون امتلاك حرّية التنقّل. وذات يوم، فيما هم يفكّون خيامهم، انحنت فتاة شابة أرضًا، وتلكأت، ولمّا دنا منها زعيم الغجر ألفى أنّ الفتاة عصت أمره وزرعت غصن ريحان عند مدخل خيمتها، وهذا الغصن أزهرَ، لذلك انحنت عليه وراحت تبكي ولم تعد تستطيع تركه. فهوى الزعيم بسوطه على الفتاة صائحًا: لِمَ عصيتِ أوامري، ألا تعلمين أنّ من يبني بيتًا سوف يرتبط بهذا البيت الذي بناه، وأنّ مَنْ يزرع شجرةً سوف يُقيَّد بتلك الشجرة؟!"

صاحت الشابة اليهودية في وجهي قائلةً:

- لا نريد نحن البقاء يهودًا رحّلًا أكثر ممّا عشنا ذلك.

قلتُ: إنّه الخطر الذي أحدثكِ عنه. ما عدتم تريدون التقدّم أكثر في ترحّلكم.

إذا كان الهدف من الحياة هو السعادة - أن تقتاتوا جيدًا، وتناموا في أمان، وتحيوا في سلام-  فهذا ليس سوى مجرّد تبرير بأنكم تبغون الهرب من الاضطهاد والازدراء، وأن تمدّوا جذوركم أخيرًا في أرض موطنكم. مع ذلك، لست مؤيدًا هذا الطرح، لاعتقادي – وأشكر الله على ذلك – أنكم لن تلقوا السعادة والأمن هنا في فلسطين. إذا كان الهدف من الحياة، وهدف الشعب بخاصة، أشقى من ذلك بكثير، وهو أن يكافح لتحقيق أقصى ما يستطيع من تبديل في سلوكه، وفكره، وقيمه الجمالية، وأن يسمو فوق عذاباته، عندئذٍ تكون الحركة الصهيونيّة وبلا جدال منافيةً ومناقضةً لمصالح جنسكم اليهوديّ العليا.

كازنتزاكيس والنسخة الأصلية الأولى من روايته "زوربا"



قالت: لماذا لم يتخذ الإنكليز والفرنسيون واليونانيون مثل هذا النمط من الترحال إذًا؟ أم عساك تظنّ أنّ إسهاماتهم تضاءلت إجمالًا إذ أضحت لهم أوطان؟

قلت: لكلّ شعب مناقبيّاته الخاصة، وعيوبه الخاصة، وله بالتالي دربه الخاص لبلوغ الذروة، واليهود يمتلكون تلك الخاصيّة العظمى: ألاّ يرتاحوا، الاّ يتناغموا مع حقيقة الزمن، أن يناضلوا من أجل الهرب، أن يعتبروا كلّ مثال سجّانًا، وكل فكرة سجنًا خانقًا. وبتلك الخاصيّة الحادّة التي ينعمون بها، صانوا الجنس البشريّ من المساعي المولّدة للقناعة وراحة البال. ما أودّ قوله هنا، إنّه من خلال هذا الوضع الذي لا منجاة منه، تمكّنت الروح اليهوديّة من تحطيم التوازن، والدفع نحو التكامل والارتقاء وإشاعة مكوّنات الكبرياء والافتخار في الحياة، فهذه الروح لا تَقْنَع، ولا تعرف التوقّف، بل تثب من النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى الإنسان، ثمّ تعذّب الإنسان وتلوّعه، كأنّها تروم تفجيره لبلوغ ما هو أبعد من ذلك.

قالت: كان آباؤنا في أرض كنعان مزارعين تجذّروا في أرضهم وأبدعوا حضارتهم.

قلت: تلك كانت طبيعتكم الجسديّة إذًا. لم ينعم اليهود بخاصيّة الثورة على نحو مستمرّ، بل اكتسبوها، فالاضطهاد والقتل والظلم والنفي، كلّ ذلك الذي تطلقون عليه الشتات (دياسبورا) ألزم الجنس العبريّ منذ ألفي عام وشكّله وكوّنه على عكس إرادته، وبالقوّة، في خميرة الأرض.

قالت:

- بالقوة؟!

قلت:

- هل أزعجتكِ هذه الكلمة؟ أليس صحيحًا أنّ القوّة هي قانون سريّ للتاريخ؟ أجناسٌ وفيرةٌ آثرت الهرب من دمويّتها، ومن قدرها الجليل، لكي تعيش حياتها السرّية في حبور وسعادة. لكنّ الحاجات والضرورات الاقتصادية والحروب، وبعض الأنبياء الذين ولدوا بين ظهرانيكم لم يدعوكم وشأنكم، بل حفّزوكم عن طريق القوة، والقهر، على النهوض. بذلك عشتم حالة الشتات في أصقاع الأرض لقرون عديدة عانى فيها اليهود وذاقوا الرعب والقتل، وترك هذا الأمر دمغته التي لا تمحى في تكوينهم النفسيّ، وخلق فيهم الكُره والحقد على كلّ ظلم وجبروت، سواء تأتّى من أفراد، أو نظم حكم، أو حتّى أفكار، لذا هم جماعات مرعوبة، جَزِعة. هذا قدرهم، ومن دونهم يفسد العالم ويُصاب بالعفن.

قالت: أشكرك على الدور الذي وَسَمْتَنا به يجب أن أقرّ وأعترف بأننا نشعر بشرف عظيم لكوننا ضحايا القتل والقلق وعدم الاستقرار غير المنتهي، وكوننا نجعل الآخرين قلقين. غير أنّنا لا ننشد المزيد من هذا الدور.

قلت: تعبتم إذًا؟ لكنّ الحتميّة التاريخيّة التي تسيّر الأجناس لن تتوقّف لتسألكم. إنّها تدفعكم بلا هوادة، شئتم أم أبيتم. وهذه الحركة الصهيونيّة، أيضًا، ليست سوى قناع يضعه قدركم المتجهّم ليخدعكم إلى ما لا نهاية. لهذا السبب أنا لا أخشى الصهيونيّة: كيف يسع خمسة عشر مليون يهوديّ أن يحشروا أنفسهم في هذا المكان؟ لن تجدوا الأمن هنا، فخلفكم- وهذا ما ينبغي ألا تنسوه على الإطلاق – جموع من العرب السمر الأشدّاء المتحمّسين. ولذلك، شئتم أم أبيتم – ستصبحون أدوات الروح لعصرنا هذا، وعصرنا هو عصر الثورة، ولذلك سيكون عصر اليهود، مثلما قال أحدهم ذات مرّة: "في الثاني والعشرين من آذار (مارس) عام 1832، مع وفاة غوته، انتهت حقبة تاريخيّة، وبدأت حقبة جديدة، حقبة حكم اليهود". هذا صحيح، إذ كان غوته آخر ممثّل حقيقي للتوازن في عصره. بعد غوته، حلّت البداية الفعليّة لعصرنا الراهن، وسيكون العنف العنصر الثمين على حدّ سواء لتفجير التوازن القديم، وخلق التوازن الجديد. وهذا سبب انتشار الجنس اليهوديّ في زمننا، لكونه المادّة الجوهريّة التي لا غنى عنها من أجل تفجير أيّ توازن، وهو السبب الذي جعل المثقّفين الذين يحتلّون المراكز العليا ويقودون صانعي القرار في العالم، من اليهود. لِمَ حدث كلّ ذلك؟ لأنّكم كنتم مشتّتين في أصقاع الأرض، قلقين. هكذا كنتم في العصر البائد الذي دمّرتموه بأيديكم. الشتات هو وطنكم. لا جدوى من هذا الهرب من قدركم والبحث عن السعادة والأمن في هذا البلد النائي. آمل – لأنني أحبّ اليهود – أن يستطيع العرب، عاجلًا أم آجلًا، طردكم من هنا وإعادة تشتيتكم في العالم.

في تلك الأثناء، كنّا وصلنا إلى حديقة للأطفال حيث كان فتيةٌ يهودٌ، شقرٌ وسمرٌ وذوو شعر أسود أجعد، يلعبون تحت الأشجار ويغرّدون مثل العصافير. وجدت نفسي، بحركة عفويّة، ألامس شعورهم الناعمة، وانتابني فجأة إحساس مأساويّ يملأ قلبي...

هنا يُقفل كلام كازنتزاكيس الذي لا كلام ممكنًا بعده، لبلاغته وعبقريته وعمق رؤياه...

٭ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.      

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.