}

ريمكو كامبرت.. حين تودّع اللغة شاعرها

عماد فؤاد 6 يوليه 2022



 

رحل الكاتب والشاعر الهولندي الكبير ريمكو كامبرت (1929 - 2022) صباح الاثنين الماضي (4 يوليو/ تموز) في بيته الهادئ بأمستردام عن عمر يناهز 92 عامًا، وبرحيله الذي يُغلق الصفحة الأخيرة لجيل "الخمسين" العريق في الشعر الهولندي الحديث، يفتقد الأدب الأوروبي بعامّة أحد قاماته الإبداعية الكبيرة، فلم يبخل كامبرت على قرّائه بشيء من فنون الكتابة طوال تاريخه الأدبي المديد، فكما كتب الشِّعر كتب أيضًا القصة والرواية والعمود الصحافي، وأسّس مع آخرين دار النشر الهولندية العريقة "ده بازيخه باي" عام 1943 هربًا من خواء الحرب، وفي كلّ ذلك كان يحتفي بـ"خفّة الحياة"، تلك الخفّة التي تُخفي وراءها ما هو أعمق وأكثر ثقلًا في الآن ذاته.

 يقول كامبرت في قصيدته "ملاحظة" عام 2007:

"كتابة الكلمات

غيّرت ما لا يجب عليّ نسيانه:

ما لم يكن يملك كلمات

كان صورة حيّة تتنفّس

لذلك أملك الآن نسختين عنِّي

أستطيع أن أضعهما اليوم فوق بعضهما بعضًا

ولكن

غدًا عندما أموت

وحدها الكلمات المهملة

ستتحوّل إلى علامات تستحضر شيئًا

شيئًا بعيدًا

لم تره عين من قبل".




عاش ريمكو كامبرت أعوامه التّسعين ونيف محتفيًّا بالحياة وبالكتابة، ولكن أيضًا بالخفّة الكافية ليسبر عمقهما، دون صراخ أو دراما، بل للضحك والاستمتاع بالملذّات قدر الإمكان، هو الذي يفتتح روايته "الأيام الذهبية Gouden dagen " عام 1990 بتساؤل: "كيف تصف حياة رجل سعيد يعيش بلا دراما أو حزن؟". ربما يكون هذا الاحتفاء ببهجة الحياة هو الذي دفع لجنة تحكيم جائزة الأدب الهولندي، أعلى تقدير أدبي في البلاد، إلى تسجيل هذه الجملة في تقريرها عن منح الجائزة إلى ريمكو كامبرت عام 2015: "مثل جهاز قياس الزلازل، سجّل ريمكو كامبرت طوال حياته خفّة الوجود''. اللجنة ذاتها تنتهي في تقريرها إلى خلاصة تقول: "اُشتهر عن أعمال كامبرت سهولة وصولها إلى عدد كبير من القرّاء بفضل لغتها السلسة، ولكنها السلاسة التي تُخفي خلفها عمقًا وإن بدا خفّة في التناول، هناك الكثير من المشاعر والتاريخ يختفيان وراء كلمات ريمكو حتى وإن بدت ساخرة"، بهذا المعنى يمكننا إعادة النظر في أبيات من قصيدة كامبرت المعنونة "الشِّعر قانون" والتي كتبها عام 1955 دفاعًا عن الكتابة في مطلقها:

"كلّ كلمة كُتبت

كانت هجومًا على الفناء.

صحيح، ينتصر الموت في النهاية

لكن الموت ليس سوى الصمت في البهو

بعد أن قيلت الكلمة الأخيرة.

الموت عاطفة".




البداية

ولد ريمكو كامبرت يوم 28 يوليو/تموز 1929 في مدينة لاهاي الهولندية، وكان في الثالثة من عمره عندما انفصل أبواه، الشاعر الهولندي يان كامبرت وأمّه الممثّلة المتجوّلة يوكي برودلت، فتربّى الصغير على يد عمّاته وجدّه لأمّه، لكنّه ظلّ يتنقّل بين والديه حتى جاءت الحرب العالمية الثانية واحتلّ الألمان هولندا، وأُلقي القبض على أبيه من قبل النازيين، بسبب مساعدته لليهود المعتقلين على الهرب من محارق الغاز، وبوفاة الأب في ظروف غامضة في معسكر "نيونغامي" بألمانيا عام 1943، يصبح هو الغائب الأكبر في حياة ابنه الشاعر، وهو ما يسجله كامبرت لاحقًا في قصيدته "يناير 1943" بقوله:

"نظرتُ إلى أعلى فرأيت أبي واقفًا

أَدخل ذراعَه بين السّلك الشائك

ونظر إليّ متوسّلًا

أبي يسألني خبزًا

على هذا الدرب الريفي الحنون

عانقتني بقوّة لدقائق".

عندما استقرّ ريمكو ووالدته في أمستردام بعد انتهاء الحرب، تبيّن أنه غير قادر على الاستمرار في التعليم؛ فقرر ألّا يكمل دراسته، ليلقي بنفسه في بحر حياة الشوارع والميادين، فتنته الدراما والسينما والأدب ونوادي موسيقى الجاز. كانت روح الجاز أوائل خمسينيات القرن الماضي هي المحرّك الأساسي لموهبة كامبرت الشّعرية، فأراد أن يكتب "شعرًا يملك روح الارتجال لكنّه عميق مثل محيط كما في موسيقى الجاز" على حدّ تعبيره. من هذا المنظور يمكننا استعادة ما قاله كامبرت في قصيدة له بعنوان "الشِّعر" من مجموعته "صوت قديم" والصّادرة عام 2011:

"أوّل أمس كانت الحرب

بالأمس أيضًا

وحتى يومي هذا

يومي الذي لم يعد لي

يطوف المال جهات العالم

ليموّل نفسه

بالحرب

 

لا يصحّ للحرب أن تحمل اسمها

لذلك تغيّره إلى «دفاع»

الشِّعر هو الأجمّة

التي سوف أختبئ خلفها

عندما يأتي الجنود

داخل دبّاباتهم الهادرة".

مع بلوغه السابعة عشرة عام 1946، بدأ ريمكو كامبرت الشاب مشواره مع الكتابة. وفي عام 1950، حين كان عمره 21 عامًا فقط، يؤسّس مع صديقه الشّاعر والكاتب الهولندي رودي كوسبروك المجلّة الأدبية "براك". ليصدر بعدها بعام واحد أوّل مجموعاته الشعرية "الطّيور تطير رغم ذلك" 1951، ليشعر الشاعر الحرّ حينها بأن مدينته أمستردام ضاقت عليه، فيخرج منها إلى العاصمة الفرنسية باريس، ليتبعه صديقه كوسبروك ويصدرا المجلة من هناك، والتي كشفت عبر أعدادها عن أسماء جديدة في الأدبين الهولندي والبلجيكي، الأسماء نفسها التي ستتسيّد المشهد الأدبي في البلدين على مدى عقود كاملة، مُشكّلة فيما بينها جيل "الخمسين" الشعري وحركة "كوبرا" التجريبية في الفن والكتابة، ومن هاتين الحركتين خرجت أسماء لا تقل أهمية عن كل من الكتاب والشعراء: لوسبرت وهوغو كلاوس وسيمون فينكينوخ وبيرت سخيبيك وجيريت كوينار وهاري موليش.


مشروع طليعي

من بين جميع مجايليه، كان ريمكو كامبرت صاحب مشروع أدبي أكثر شمولًا، فهو بتأسيسه لمجلة "براك" كشف عن جيل كامل من الكتّاب المختلفين، وكان قبل ذلك بعدّة أعوام قد ساهم في تأسيس دار النشر العريقة "ده بازيخه باي"، لتكون الدار التي تتبنّى مشاريع هذا الجيل الجديد في الشعر والرواية والمسرح والنقد، ومن هذه الدار بدأ نشاط كامبرت يظهر في إصداراته القصصية والشعرية، لكن حياته الشخصية اتّخذت هي الأخرى العديد من المنعطفات الخطرة، بسبب من علاقاته النسائية العديدة، فكانت سنوات الستينيات ذروة أخرى من إبداعه الأدبي، خاصة بعد ظهور روايته الأولى الفاتنة "الحياة لذيذة" Het Leven is vurrukkulluk عام 1961، والتي رصد فيها كامبرت علاقته البوهيمية مع الشاعرة الهولندية فريتزي هارمسن فان بيك، وكانت فريتزي شاعرة من طراز خاص، كتبت الشعر الإيروتيكي بحسٍّ وحشي مغاير للغة السائدة آنذاك، فبزغ نجمها في الأوساط الأدبية سريعًا، وهي التي علّمت ريمكو شرب كمّيات كبيرة من الويسكي في "فيلا الشهوات" التي أسّستها في بيتها، وكانت مقصدًا لجميع شعراء الجيل وفنّانيه البوهيميين، لكن بالرغم من هذه الحياة اللاهية التي انغمس فيها كامبرت، ظلّ على حالته الصوفية مع العالم والأشياء، يقول في قصيدة بعنوان "أشجار" ظهرت ضمن مجموعته الشعرية "في الارتفاع والدّنو" عام 1959:

"من بين أصوات الكثير من الناس

صوتك هو الوحيد البشريّ

الذي يعرف كيف ينمو الحزن بطيئًا داخل الأشجار

تغذِّيه التربة

حتى تشيخ فروعها

وتموت على حوافّ الغابات

أو الحدائق النجسة.

يا للأشجار

تموت واقفة

كأبطال حزانى".

في أوائل الستينيات تزوّج كامبرت للمرّة الثالثة وأنجب بنتين. وعندما حوّلت السينما الهولندية روايته "فتاة العصابات" إلى فيلم عام 1966، كان الشاعر قد غادر أمستردام ليعيش في مدينة أنتويرب البلجيكية، لكنّه لم يتحمّل الابتعاد عن عاصمته أكثر من ذلك، فعاد إليها عام 1968 ليدخل في علاقة عاطفية أخيرة مع مالكة إحدى القاعات الفنّية هي ديبورا وولف، والتي بقيت زوجته حتى وفاته، رغم انفصالهما 15 عامًا منذ ارتباطهما أول مرة.

بحلول عقد السبعينيات كان ريمكو كامبرت قد دخل سنوات الاكتئاب والتوقّف عن الكتابة، مكتفيًا بأعمدته الصحافية التي وسّعت من دائرة تلقّيه وقراءته، مرّت سنوات السبعينيات كاملة بغياب ريمكو الشّاعر عن ساحة الشّعر و"عن نفسه"، كما قال لاحقًا، ويبدو أن الهولنديين لم يرضهم هجرة شاعرهم للشِّعر، فمنحوه جائزة PCHooft  الكبرى عام 1979 عن مجمل أعماله الشعرية، وبيّن تقرير هيئة المحلّفين أن قصائد كامبرت شاهدة على: "قبول حياة المتشائم الذي نزع سلاحه، وقرّر أن يتآلف مع وجوده كمحبّ أبديّ للحياة"، وكان للجائزة فعل السحر على روح الشّاعر المُعطَّل، فعاد من جديد إلى أرضه، محتفظًا بحضوره عبر أعمدته الصحافية على صدر أكبر الصحف الهولندية والبلجيكية.




الموت فكرة مجرّدة

برحيل ريمكو كامبرت، تُغلق هولندا دفّتي كتاب ضخم، قدّم ما يزيد عن المئة عنوان في الشّعر والرواية والقصة والعمود الصحافي، ولن تنسى الذاكرة الهولندية والعالمية أهم مجموعاته الشعرية ومن بينها: "البيت حيث كنتُ أعيش" (1955)، "في الارتفاع والدنو" (1959)، "هذا ما يحدث في كلِّ مكان" (1962)، "أزمنة أفضل" (1970)، "مشاهد في فندق موراندي" (1983)، "ثلاث قصائد منسيّة"، "الحرّيات السّبع" (1984)، "زملاء" (1986)، "عندما رأيتك" (1988)، "فوتوغرافيا الشّارع" (1994)، "مرارًا وتكرارًا" (2004)، "ثمانية رسوم مائيّة" (2006)، "ذكريات جديدة" (2007)، "صوت قديم" (2011)، "الوردة" (2012)، "نور حياتي" (2014)، "على طول الرّصيف"  (2016).

في سنواته الأخيرة، ظلّ ريمكو كامبرت منعزلًا، إلّا من مقالاته وقصائده القصيرة التي تظهر من حين إلى حين، ولاطّلاعه الدائم على الأحداث العالمية، وجد نفسه يشتبك عام 2016 مع الثورات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي، فكتب قصائد خاطفة عن الثورة السورية، ومنها قصيدة كتبها كامبرت عن الطفل السوري عمران دقنيش، الذي أُخرج من تحت أنقاض بيته يوم 18 أغسطس/ آب 2016، بعد هجوم شنّته القوات السورية الحكومية على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلّحة في حلب:

"رأيت طفلًا جالسًا

يلوّح فوق مقعده

كان مغطّى بالدم والغبار

أنقذوه من تحت ركام بيته

بعد قصفه بالقنابل

على يد عصابات الأسد القاتلة

هذه القصيدة لن تساعده في شيء

لكن ها هي قد كتبت".

سُئل ريمكو كامبرت في أواخر حياته: "هل تخاف الموت؟"، فأجاب: "الموت في حدّ ذاته لا يخيفني، ما يخيفني هو لحظة الاحتضار، لا أعرف كيف سأموت، وأحيانًا ما تشغلني فكرة الموت فأتساءل: هل سأموت بعد مرض في فراشي مثلًا، أم سأسقط هكذا ميّتًا فجأة، الموت ذاته عبارة عن فكرة مجرّدة، لكن لحظة الاحتضار نفسها تثير فضولي".

تحقّقت أمنية ريمكو كامبرت في أن يموت وحبيبته ديبورا إلى جواره، في إحدى قصائده الجميلة إليها كتب يقول:

"إذا مِتُّ

أرجو أن تكوني هناك

أن أنظر إليك

أن تنظري إليّ

أن أكون قادرًا على الشعور بيدك

عندها سأموت بسلام.

عندها لا يجب أن يحزن أحد

عندها أكون سعيدًا".

نعم، رحل ريمكو كامبرت صباح الرابع من يوليو كـ"رجل سعيد".

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.