}

لماذا رفض سولجنتسين حضور مأدبة إدارة ريغان؟

سمير رمان سمير رمان 3 سبتمبر 2022
تغطيات لماذا رفض سولجنتسين حضور مأدبة إدارة ريغان؟
سولجنتسين أثناء رحلته عبر روسيا (7/7/1994/Getty)

في الثاني عشر من مارس/ آذار عام 1974، اعتقل ألكسندر سولجنتسين (1918- 2008) بتهمة "خيانة الوطن"، ورُحّل إلى ألمانيا الاتحادية في اليوم التالي. استقر في زيوريخ، ثم جال في دول أوروبا الغربية، وكندا، والولايات المتحدة الأميركية، وألقى خطابًا أمام مؤتمر النقابات العمالية، وأمام الكونغرس الأميركي، مهاجمًا النظام السوفييتي، والشيوعية عمومًا.
انتقل في عام 1976 مع أسرته إلى الولايات المتحدة، واستقر في بلدة كافينديش النائية في ولاية فيرمونت الصغيرة. اشتهرت المنطقة بطبيعةٍ بكرٍ خلابة بدت للكاتب المهاجر كبيرة الشبه بالشمال الروسي الذي عشقه. بعيدًا عن الضجيج، وعن صخب الحياة الأميركية، اشترى سولجنتسين هكتارين من الأرض يتوسطهما بيت خشبي متواضع، ليضع نفسه في عزلة تامّة، حتى عن سكان البلدة القليلين أصلًا، الذين لا يزيد عددهم عن 1500. لفترةٍ طويلة، لم يظهر الكاتب في شوارع البلدة، الأمر الذي أثار حنق جيرانه الذي اعتادوا التواصل بنشاطٍ في ما بينهم، كما هي الحال في التجمعات الأميركية الصغيرة، وخاصةً أنهم لمسوا بأيديهم كيف تدير هذه الشخصية المشهورة التي نزلت بلدتهم ظهرها لهم. وعندما بلغت موجة الاستياء باب المنزل، أرسل زوجته إلى قداس يوم الأحد في كنيسة البلدة لتوضح للناس الأمر. في البداية، أعربت الزوجة عن عميق شكرها وزوجها لأهالي البلدة على حسن ضيافتهم، راجية أنّ يتفهموا سلوك زوجها المنكب بكليّته على التأليف الأدبي. صحيح أنّ الأهالي أبدوا تفهمهم لمبررات الضيوف، ولكنّ مراسل إحدى الصحف التي كانت تواكب حياة سولجنتسين اليومية في البلدة قال في تقريره إلى إدارة التحرير: "لا يبدي سولجنتسين أيّ اهتمامٍ بجيرانه، ويتصرف كما لو كان يعيش في الاتحاد السوفييتي"!

ألكسندر سولجنتسين في موسكو (7/ 7/ 1994/Getty)


في عام 1978، نظمت إحدى أشهر جامعات الولايات المتحدة الأميركية حفلًا لتكريم هذا الكاتب السوفييتي، ومنحه شهادتها الفخرية. في ذاك الوقت، كانت شهرة سولجنتسين قد بلغت أوجها في الولايات المتحدة، ولهذا احتشد الآلاف في غابة الصنوبر التابعة للجامعة لسماع خطاب الكاتب الشهير، غير آبهين بالأمطار الغزيرة التي كانت تنهمر على رؤوسهم. بعد كلمات المديح التي توالى الخطباء على إلقائها، صعد سولجنتسين إلى المنصة، وأخرج من جيبه النصّ الذي أعدّه لهذه المناسبة. كانت الحماسة منقطعة النظير، وحبس الحشد أنفاسه في انتظار كلمة "الأسطورة التي تحدّت النظام السوفييتي".





في بداية كلمته، عبّر سولجنتسين باقتضابٍ عن عميق شكره لكلّ من وقف إلى جانبه في تلك الأوقات الصعبة، لينتقل مباشرة إلى لبّ الموضوع. لم تمض دقائق على بداية الخطاب، حتى بدأت تعابير وجوه الحاضرين تتغيّر لترتسم الدهشة عليها. مع تقدّم الخطاب، ازداد اكفهرار وجوه الحاضرين ليسود الأجواء صمتٌ رهيب، خاصّة بعد أن قال الخطيب: "بعيدًا عن أيّ رقابة، تجري في الغرب عملية فرزٍ دقيق للأفكار العصرية الدارجة وغير العصرية. ولا تجد الأخيرة، رغم أنّها غير محظورة، طريقًا حقيقيًا لا إلى الصحافة المكتوبة، ولا عبر الكتب، ولا حتى في المنصات الجامعية".
بعد مرور يومين، وبعد صحوتها من الصدمة، راحت الصحافة بكلّ ما أوتيت من جبروتٍ تصبّ جام غضبها على الكاتب السوفييتي، وتوالت على صفحاتها التعليقات التي كانت في غالبيتها تشجب كلام سولجنتسين، وقلّة وفائه، وإنكاره للجميل، منوهة بأن التجربة كشفت حقيقته التي أظهرته عكس ما كان يظنّه الأميركيون. ووصل الأمر ببعضهم أن ذهب إلى اتهامه بأنّه رجلٌ محافظ، وأنّه من أنصار المَلَكيّة، وربما العبودية. بعدئذٍ، نسيته وسائل الإعلام تمامًا لسنواتٍ طويلة.

بعض روايات سولجنتسين معروضة بمناسبة مرور 100 عام على ولادته في جناح الشرف المخصص لروسيا خلال معرض باريس (15/ 3/ 2018/Getty)


عاد سولجنتسين إلى الواجهة مع تجدد المباحثات السوفييتية ـ الأميركية بشأن مسألة الحدّ من التسلّح في بداية الثمانينيات، حيث بدأت الولايات المتحدة باستعراض سياسة رونالد ريغان تجاه الاتحاد السوفييتي. فمن جانبٍ، كانت المباحثات تجري مترافقة بفترات توقفٍ طويلة. ومن جانبٍ آخر، كانت الإدارة الأميركية تشنّ حملة تصعيدية على جميع الجبهات، بما في ذلك إطلاق تصريحات تهدّد بإمكانية وقوع مواجهاتٍ نووية محدودة النطاق. في إطار المواجهة بين الدولتين، أرادت الإدارة الأميركية، ولأهدافٍ دعائية بحتة، تنظيم مأدبة غداءٍ للمنشقين السوفييت يحضرها الرئيس الأميركي نفسه. وهنا، تذكروا ألكسندر سولجنتسين ليكون على قائمة المدعوين إلى المأدبة.

بعض كتب سولجنتسين في مكتبة في باريس  (13/ 2/ 1974/ فرانس برس)





رفض سولجنتسين حضور المأدبة، فقامت إدارة ريغان، التي رأت في عدم حضوره إهانة لها، بنشر إشاعات من قبيل: لم يرد سولجنتسين الجلوس إلى جانب منشقين آخرين إلى مائدةٍ واحدة بسبب معاداته للسامية... إلا أنّ سولجنتسين اتخذ خطوة مضادّة، فعرض، عبر زوجته، على صحيفة "واشنطن بوست" نشر نصّ رسالته التي وجّهها إلى الرئيس ريغان، والتي بيّن فيها الأسباب الحقيقية لعدم مشاركته في مأدبة الغداء الرئاسية. تلقفت الصحيفة المعادية للرئيس ريغان الرسالة، ونشرت الوثيقة تحت عنوان: "سولجنتسين يردّ على ريغان: أشكرك جزيل الشكر".
وجاء في نصّ الرسالة ما يلي:
"السيد الرئيس العزيز!
أنا معجبٌ للغاية بكثير من جوانب عملكم، لدرجةٍ صرت أغبط أميركا لأنه أصبح لديها أخيرًا رئيسٌ مثلكم، وأشكر الله دومًا أنّ تلك الرصاصات لم تقتلكم (في إشارةٍ إلى محاولة اغتيال ريغان في 30 مارس/ آذار عام 1981).
السيد الرئيس: لم أحظَ يومًا بشرف استقبالي في البيت الأبيض، لا في عهد جيرالد فورد، ولا بعده. في الأشهر الأخيرة، وعبر طرقٍ مختلفة، وصلتني استفسارات غير مباشرة عن الظروف التي أقبل فيها الحضور إلى البيت الأبيض إن تلقيت الدعوة. لقد كانت إجابتي دومًا: أنا على استعدادٍ لزيارة البيت الأبيض لإجراء حوارٍ حقيقي معكم. أمّا بشأن حضوري من أجل مظاهر خارجية، فإنني لا أمتلك الوقت الضروري لحضور مقابلاتٍ رمزية.
وعلى الرغم من ذلك، أخبرني المستشار بايبس هاتفيًّا أنّ اللقاء لن يكون خاصًّا معكم، وأنّ الغداء سيكون بمشاركة سياسيين سوفييت في المهجر. نقلًا عن المصادر ذاتها، أعلنت الصحافة أنّ مأدبة الغداء ستكون لـ"منشقين سوفييت". وفق المفهوم الروسي، فإنني كفنانٍ كاتب لا أنتمي إلى أيٍّ من الفئتين. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ شكل وتوقيت الدعوة سرب إلى الصحافة قبل أن أتلقاها فعليًا، ولم أتلق حتى الآن أيّ معلومة بشأن الأشخاص المدعوين يوم 11 من مايو/ أيار. كان الأسوأ من كلّ ذلك كشف الصحافة عن تردد البيت الأبيض في مسألة تنظيم لقاء خاصٍّ بيني وبين الرئيس، وقامت الصحافة أيضًا بذكر الأسباب التي جعلت إدارتكم ترى لقائي بكم أمرًا غير محبّذ، وهو: "أنني أمثِّل نموذجًا للتطرف القومي الروسي". كانت الصياغة مهينة لكثير من أبناء بلادي، وتتناسى العذابات التي كرّست لها جلّ حياتي الأدبية.
عمومًا، لست "قوميًا متعصبًا"، بل أرى نفسي وطنيًا، أي أنني أحبّ بلادي، ولذلك أفهم جيدًا أنّ الآخرين يحبون أيضًا وطنهم. لقد سبق وصرّحت علنًا أنّ مصالح شعوب الاتحاد السوفييتي تحتاج إلى وقفٍ فوريٍّ لجميع اشكال الهيمنة في البلاد الدائرة في فلك الاتحاد السوفييتي. ولو قيض لأناسٍ مثلي استلام زمام الحكم في الاتحاد السوفييتي لكانت أولى خطواتهم مغادرة أميركا الوسطى، أفريقيا، آسيا، وبالطبع أوروبا الشرقية، وترك الشعوب هناك تقرر مصيرها بنفسها. أمّا الخطوة الثانية فكان يجب أن تكون التخلي عن سباق التسلّح، وتكريس جميع الموارد والجهود لمعالجة الجراح الداخلية المستمرة في بلادي منذ قرون طويلة، والتي تضع المواطنين على طريق الموت. وأخيرًا، فتح أبواب البلاد أمام من يرغب في الهجرة من بلادنا التعيسة.



والغريب أنّ كلّ هذا لا يناسب مستشاريكم المقربين!. إنّهم يريدون شيئًا آخر، وإلا كيف نفسّر أنّهم يعدون هذا البرنامج "تطرفًا قوميًا روسيًا"؟ في حين يقترح بعض جنرالاتكم توجيه ضربات نووية وإبادة سكان الاتحاد السوفييتي. من الغريب في عالمنا اليوم أنّ الوعي الروسي القومي يثير رعب السلطة السوفييتية، وفي الوقت نفسه يثير رعب الحلقة التي تحيط بكم. هنا في الولايات المتحدة، تظهر النظرة العدائية، التي يحملها جزءٌ مهمُ من الطبقة المثقفة في المجتمع الأميركي تجاه روسيا بلدًا وشعبًا. النظرة نفسها تحملها الدوائر المالية الأميركية. وللأسف الشديد مستشاروكم أيضًا. أرى أن هذا المزاج مهلك لبلدينا على حدّ سواء.
السيد الرئيس..
يصعب عليّ أن أكتب هذه الرسالة. ولكنني أعتقد أنّكم، كمواطنٍ أميركي وطني، ستشعرون بالإهانة مثلي لأنّ مستشاريكم يرون أمر لقائي بكم غير مرغوب فيه للأسباب التي بيّنتها.
عندما ستتركون المنصب الرئاسيّ، فإنّه سيكون من دواعي سروري لقاءكم هنا في منزلي.
وبما أنّ هذا المشهد نال كثيرًا من العلنية المهينة والتشويه، ولأنّه من المرجح أن تشوه أيضًا الدوافع التي منعتني من تلبية الدعوة لحضور تلك المأدبة، فإنني أخشى أن أكون مجبرًا على نشر هذه الرسالة.
كلّ الاحترام الصادق.
ألكسندر سولجنتسين".

وهكذا، لم يجثُ سولجنتسين على ركبتيه أمام جبروت سلطات الولايات المتحدة، كما فعل غيره. واليوم، لا تزال كتب سولجنتسين تباع وتعاد طباعتها في الولايات المتحدة الأميركية، وإن كانت بأعدادٍ ليست كبيرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.