}

دوستويفسكي والإشكاليّة السلافية – اليهوديّة (1- 2)

جورج كعدي جورج كعدي 7 سبتمبر 2022

 

لاحظوا معي أنّ ثلاثًا من أعظم قمم الفكر على امتداد التاريخ البشري متمثّلةً (بحسب التسلسل التاريخيّ لا الأفضليّة) في وليم شكسبير وفيودر دوستويفسكي وزيغموند فرويد، نال منها "الحِرمُ" اليهوديّ والصهيوني، فالعباقرة الثلاثة نُعتوا بـ"اللاساميّة" أو بـ"كره اليهود" أو بـ"كُره الذات" كما في حالة رائد علم النفس والتحليل النفسيّ الكبير فرويد، اليهوديّ حَسَبًا ونَسبًا، وأمًّا وأبًا، فلمجرّد إعلانه عدم تأييده المشروع الصهيونيّ الذي دعاه عتاة الصهاينة الأوائل إلى دعمه، وتأكيده لأرباب هذا المشروع أنّه محكوم بالفشل والزوال، أنزلوا به أقبح الصفات من نوع أنّه يهوديّ "كاره لنفسه" أو "يهوديّ مقيت".. إلخ. بل مضت الدولة الصهيونيّة "الديمقراطيّة" و"المنفتحة على الفكر والحوار" (كم أضحك لذلك) إلى منع تدريس فرويد – ونعرف جميعًا أهميّة فرويد وعظمة فكره ومنهجه النفسي العلميّ الذي أحدث ثورة في العالم – ضمن المناهج المدرسيّة والجامعيّة، مثلما منعوا تدريس شكسبير (كأنّ تجاهل موقع شكسبير الخالد يمكن تجاوزه بتلك السهولة أو إخفاؤه في زمن فيض المعلومات والدخول فائق السهولة إلى المعلومة)، ولا أدري إنْ كان دوستويفسكي عملاق الأدب الروسيّ مدرجًا على قائمة المنع الصهيونيّة أيضًا!

في أيّ حال، موضوعي اليوم (بعدما عالجتُ سابقًا في "ضفّة ثالثة" مسألة فرويد والصهيونيّة)، هو فيودر دوستويفسكي الذي لا يحتاج إلى ألقاب وصفات تُخلع عليه، فاسمه كافٍ وحده ليضيء عالم الأدب والفكر العميق بالقيمة الخالدة.

القضية هنا أنّ دوستويفسكي (1821- 1881) كتب نصًّا صغيرًا عن "المسألة اليهوديّة" لا يتعدّى الصفحات الخمس عشرة بحسب الترجمة العربيّة التي أنجزها مشكورًا الأستاذ حسن سامي اليوسف عن الروسيّة مباشرةً وحُجب نشرها عالميًّا، وحتّى عن الترجمة العربية لأعماله الكاملة التي أنجزها القدير الدكتور سامي الدروبي في ثمانية عشر مجلدًا، إنّما عن الفرنسية. كأنّما ثمّة تضافر إرادات ورغبات، معلنة أو دفينة، بعدم الإضاءة على رأي الكاتب الروسيّ الكبير في هذا الشأن. غير أنّ عنادنا وتصميمنا أوصلانا إلى هذا النصّ المهمّ جدًا الذي يكشف ويضيء ويعرّي حقائق تاريخيّة، خاصّة لناحية الإشكاليّة التي قامت طوال قرون بين الشعب السلافي الروسيّ والأقلّية اليهوديّة التي عاشت ولا تزال في روسيا. وهاكم الحكاية من ألفها إلى يائها، استنادًا إلى الوثيقة النادرة المغلّفة بالحَجْب والتعتيم.


نُشرت مقالة دوستويفسكي التي تحمل عنوان "المسألة اليهوديّة" للمرّة الأولى في مجلة "يوميّات كاتب" عدد آذار̸ مارس عام 1877



نُشرت مقالة دوستويفسكي التي تحمل عنوان "المسألة اليهوديّة" للمرّة الأولى في مجلة "يوميّات كاتب" عدد آذار̸ مارس عام 1877، والمجلّة هذه كان يُصدرها دوستويفسكي نفسه، ومصدر هذه النسخة من المقالة هو مجلّد "يوميّات كاتب" من مجموعة دوستويفسكي الكاملة المطبوعة في بطرس بورغ عام 1886، أي بعد وفاة الكاتب الكبير بخمس سنوات، وأصدرتها دار "آس سوفورين للطباعة والنشر"، وتكمن أهميّتها في أنّها كُتبت قبل عشرين عامًا من انعقاد المؤتمر الصهيونيّ الأوّل في مدينة بازل السويسريّة، وهو المؤتمر الذي اتخذ فيه قرار إقامة دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية. ثم اختفت هذه المقالة فجأةً من أعمال دوستويفسكي. ولعلّ ظهورها الأخير في وسائل النشر الروسيّة يعود إلى عام 1912، ومن ثمّ لم يُعثر لها على أثر في أي طبعة جديدة لأعمال دوستويفسكي الكاملة، بما في ذلك طبعة 1971 التي صدرت غايةً في الأناقة ضمن احتفاليّة كبرى أقامها الاتحاد السوفياتيّ لمناسبة مرور مئة وخمسين عامًا على ولادة أعظم كتّاب روسيا. وتكرّر أمر الإخفاء في سائر الطبعات باللغات الأجنبية، بما في ذلك الطبعة العربيّة التي ترجمها الدكتور الدروبي في سبعينيّات القرن العشرين.

لنقرأ بدءًا معًا، ودفعًا لأي التباس أو سوء فهم وتقدير لموقف هذا العملاق الروسيّ ذي الشهرة والموقع العالميين أدبًا وفكرًا، المقطع الأخير من مقالته هذه الخاصة بالمسألة اليهوديّة من الزاوية الروسية، إذ يقول بنبرة إنسانيّة عالية غاية في النبل والنوايا الطيّبة: " (...) ولكن ′أيقظ، أيقظ!!′ سوف تكون وحدة روحيّة لكلّ الشعوب، ولكن لن يكون في هذه الوحدة أي فروق تذكر! ومن أجل هذا فإنّ على المراسلين والمحاورين اليهود أن يكونوا تجاهنا نحن الروس أكثر تسامحًا وعدلًا. إذا كان تعاليهم، وإذا كان تأفّفهم الواجم الأبديّ تجاه الروس مجرّد تحامل فرضته علاقة عابرة، وإذا لم يكن متجذرًا في القوانين الباطنيّة لليهوديّة، فإنّني واثق من أنّ الخلافات كلّها ستذوب قريبًا، وسوف نتوحّد جميعًا في أخوّة كاملة، في أخوّة تساعدنا في إنجاز الأعمال العظيمة، تساعدنا في خدمة بلدنا وحكومتنا ووطننا المشترك.. سوف تخفّ حدّة الاتهامات المتبادلة.. بل سوف تختفي هذه الحماسة المفرطة لحبّ الاتهام، والتي تعوّق الفهم الواسع للأمور. يمكننا الرهان على أنّ الشعب الروسي سيستقبل اليهودي كأخ له بالمعنى الكامل لمفهوم الأخوّة، بغضّ النظر عن الاختلاف العقائديّ القائم، بل وسيُنظر باحترام كامل لحقيقة هذا الاختلاف التاريخية، ولكن من أجل الأخوّة، من أجل الأخوّة الكاملة، تلزمنا أخوّة من الطرفين، فليُظهر اليهوديّ شيئًا ما من المشاعر الأخويّة تجاه الشعب الروسيّ كي يشجّعه. أنا أعلم أنّ بين اليهود وجوهًا غير قليلة تبحث متعطّشةً عن سبيل مناسب لإقصاء عدم التفاهم الحاصل بين الناس وهذه الوجوه خيّرة ومحبّة للآخرين من دون شك.. ولستُ أنا من يصمت عن مثل هذه الحقيقة. وهكذا، من أجل ألاّ تنهار معنويّات هؤلاء اليهود الخيّرين، ومن أجل تمكينهم من الإمساك بسهولة بطرف الخيط المؤدّي إلى الأخوّة، من أجل هذا أقف بلا مساومة مع إعطاء اليهود مطلق الحقوق التي للآخرين، وليبرهن اليهوديّ عن أنّه قادر على الإفادة من تلك الحقوق من غير أن يوقع ضررًا وإجحافًا في حقّ الآخرين.. ولكن السؤال يظلّ قائمًا: هل يستطيع هؤلاء اليهود الخيّرون عمل الكثير؟ وإلى أي حدّ هم مستعدّون للعمل الجديد الرائع الحقيقيّ؟ إلى أي مدى يستعدّون للوحدة الأخويّة الحقيقية مع غيرهم من الشعوب الغريبة عنهم بالدم والمعتقد الدينيّ؟؟".

"التظلّم" و"التشكّي" الأزليّان لدى اليهود ليسا مرتبطين بحدث تاريخيّ واحد عارض (مثل "الهولوكوست" في زمننا المعاصر) بل هما مستمرّان منذ أربعين قرنًا 



اللافت والمثير هو الأسلوب الذي يستهلّ به دوستويفسكي مقالته إذ يقول: "أوه، لا تظنّوا بأنّي سأشرع جادًّا بمناقشة المسألة اليهوديّة، فأنا لم أكتب هذه المقالة إلاّ على سبيل المباسطة فقط. فإنّ الحديث حول قضيّة كهذه: ′وضع اليهود في روسيا′، وعمومًا وضع روسيا التي تحوي بين أبنائها ثلاثة ملايين يهوديّ، أكبر من طاقتي. هذه مسألة أكبر من إمكاناتي بكثير. ولكن، على الرغم من كلّ شيء، فإنّني أملك بعض الأحكام المتعلّقة بالمسألة. وما حدث، أنّ هذه الأحكام أخذت – فجأة – تهمّ الكثير من اليهود، فمنذ زمن غير بعيد صرت أتلقّى رسائل من بعض اليهود الذين يكتبون إليّ بكثير من الجدّية والحساسية، معاتبينني على تهجّمي على كلّ ما يمتّ إلى اليهود بصلة، قائلين إنّي أكره اليهود، ليس الرذلاء منهم، وليس ′المستغلّين′ بينهم، بل يقولون إنّي أكرههم كجماعة، أي في معنى آخر أكرههم لأنّ ′يهوذا باع المسيح′. هذا ما يكتبه لي يهود متعلّمون، من ذاك النوع الذي (ولا أريد تعميم الملاحظة لأنني لا أنوي التشهير سلفًا بأحد) يحبّ دائمًا أن يخبرك بأنّه متعلّم جدًا، وبأنّه منذ زمن بعيد لم يعد يؤمن بالخرافات التي يؤمن بها شعبه، ولا يمارس الطقوس الدينية المتبعة عند هذا الشعب، وأكثر من ذلك لم يبقَ مؤمنًا بالله لاعتقاده بأنّ مثل هذه الأمور هي من السخف بحيث لا يمكن أن ينشغل بها إلاّ اليهوديّ البسيط. أريد هنا أن أضع ملاحظتي بين قوسين فأقول لجميع هؤلاء السادة من ′رفعاء اليهود′ الذين يقفون من أمّتهم هذا الموقف: إنّ من الصعب جدًا نسيان القرون الأربعين المرتبطة بـ′يهوه′. وأنا أعرف سلفًا أنّ موقف اليهود المتعلّمين السابق ليس مبعثه الشعور بالإثم فحسب، بل ثمّة أيضًا أسباب مختلفة كثيرة كلّها ذات مستوى عالٍ. فالأمر في النهاية عجيب غريب: اليهوديّ لا يمكن تصوّره من دون إلهه. الإله واليهوديّ لا ينفصلان. في أيّ حال، هذه مسألة واسعة وسنتركها موقتًا. كلّ ما يذهلني الآن هو: كيف ومن أين ومتى تحوّلتُ إلى كارهٍ لليهود كشعب.. كأمّة؟! أمّا كمستغلّين وأصحاب رذائل فإنّ أحكامي عليهم لن تجد ممانعة من أحد، حتى من قبل هؤلاء السادة المتعلّمين. ولكن على مستوى الكلمات، فمن الصعب أن تجد في الواقع العمليّ ما هو أكثر إزعاجًا لليهوديّ المثقّف من كونه يهوديًّا. ولكن من جديد: متى وكيف صرّحتُ عن كراهيتي لليهود كشعب؟ في الحقيقة، لم تكن هذه الكراهية موجودة في قلبي مطلقًا، وبعض اليهود الذين يعرفونني أو الذين تربطني بهم علاقات ما، يدركون جيّدًا هذه الحقيقة. لذا فإنّني، ومنذ البداية، وقبل أن أتفوّه بأيّ كلمة، أرفع عن نفسي هذه التهمة، مرّة واحدة وإلى الأبد (...)".


خلاصة أولى

- إنّ قول دوستويفسكي إنّه لم يكتب هذه المقالة "إلاّ على سبيل المباسطة"، يعني أنه لا يُعير المسألة كثير اهتمام من فكره العميق، وانّ اتهامه بـ"كره اليهود" تهمة باطلة لا تستحقّ أكثر من مقالة صغيرة، وإلاّ كان أَفْرَدَ لها دراسة طويلة أو بحثًا كاملًا.

- يؤكّد دوستويفسكي في شكل حاسم لا لُبْسَ فيه على أنّه لا يكنّ مشاعر كراهية لليهود كجماعة أو أتباع دين ومعتقد، بل أنّه يردّ على من أسماهم "رذلاء" و"مستغلّين"، أي أفرادًا ضمن مجموعة أو مجموعات يوجد مثلهم لدى كلّ الجماعات والأقوام والأديان. وهو واثق من أنّ العقلاء اليهود و"المتعلّمين" يعون تمامًا ماذا ومَنْ يقصد بمآخذه.

- يقفز إلى ذهني، شخصيًّا في هذا المجال، اسم الأديب الفرنسيّ إميل زولا الذي هبّ بنخوةٍ عارمة دفاعًا عن قضيّة الضابط الفرنسيّ اليهوديّ درايفوس، رافعًا شعاره المشهور "إنّي أتّهم" ̸ J'accuse ، فليت أحدًا مثله هبّ في زمنه دفاعًا عن دوستويفسكي تحت الشعار ذاته أو ما يماثله، لكونه ظُلم بتهمة "اللاساميّة" وكره اليهود، مثلما اعتبر اليهود الضابط درايفوس بريئًا من تهمة الخيانة التي وُجّهت إليه. فلماذا تصحّ هنا ولا تصحّ هناك، ولِمَ الظلمُ غير جائز هنا وجائز هناك؟!

تكمن أهميّة هذه المقالة في أنّها كُتبت قبل عشرين عامًا من انعقاد المؤتمر الصهيونيّ الأوّل في مدينة بازل السويسريّة



يستمرّ دوستويفسكي في مناقشة هذه القضيّة الإشكاليّة وفي "ردّ التهمة" عن نفسه بأنّه كاره لليهود، متسائلًا: "ألا يُعقل أنّهم يتهمونني بالكراهية لهم لأنني أستعمل أحيانًا كلمة "جِيْدْ" (كلمة روسية تعني "المرابي الجشع" مثل شخصية "شايلوك" لدى شكسبير في "تاجر البندقية"، وتلفظ بالروسية بكسر الجيم ومدّ الياء وتسكين الدال) في تسمية هؤلاء؟ لم أفكّر، أولًا، في أن كلمة "جِيْدْ" مهينة إلى هذه الدرجة. ثانيًا، لم أستخدم هذه الكلمة من أجل تحديد معانٍ واضحة لأفكار محدّدة (...) ولكن لا تجوز الحساسية لمجرّد استخدام الكلمة (...)".

وتحت مصطلح  Pro U Contra الذي يرد باللاتينيّة في نصّ دوستويفسكي الروسيّ وترجمته الحرفية هي "مع وضدّ"، ويقصد دوستويفسكي: ما لليهود وما عليهم؛ يتابع الأديب الروسي: "(...) أودّ أن أكرّر القول: إنّ ′المسألة اليهودية′ فوق طاقتي. ومع ذلك، أستطيع أن أقول شيئًا ما. لنفترض أنّ من الصعب جدًا معرفة القرون الأربعين التي يتشكّل منها التاريخ اليهوديّ، لكنّني أعرف في المقابل أمرًا واحدًا على الأقلّ، أعرف أنّه لا يوجد شعب في العالم كلّه يشكو دونما انقطاع البتّة - في كل دقيقة وثانية – من المصير الذي ألمّ به، مثلما يفعل اليهود. إنّهم يندبون حظّهم مع كلّ خطوة، مع كلّ كلمة، يشكون من عذاباتهم، ومن احتقار الآخرين لهم، ومن آلامهم التي لا تنتهي. يشكون من كل شيء إلى حدّ أنك تنسى أنّهم هم الذين يسيطرون على أوروبا، وأنّهم هم المتحكّمون في أسواق البورصة هناك. ومع ذلك، تراهم يتذمّرون باستمرار من السياسات الداخلية اللاأخلاقيّة لمختلف حكومات تلك البلدان (...) ولكنّني بالرغم من كل شيء، لا أستطيع أن أثق بصرخات اليهود حين يُعلنون أنّهم معذّبون، ومحتقرون.


في رأيي أنّ الفلاّح الروسيّ، وبشكل عام الإنسان الروسيّ البسيط يحمل على كاهله من الهموم أكثر ممّا يحمله أيّ يهوديّ (...) عندما كانت جماهير اليهود ′تعاني من حرّية اختيار مكان الإقامة′ كان ثلاثة وعشرون مليون إنسان روسيّ يعانون من نظام القنانة (أي الرقّ والعبوديّة لدى السادة والإقطاعيين). ذلك النظام هو - بلا شك – أكثر قهرًا وإذلالًا من مجرّد ′حرّية اختيار مكان الإقامة′. وماذا حدث؟ هل أشفق اليهود وقتئذٍ على هذه الملايين كلّها من بسطاء الروس؟ لا أعتقد. اسألوا في غرب روسيا وفي جنوبها إذا كنتم لا تصدقونني. أبدًا، فحتّى في ذك الحين كان اليهود يصرخون ويشكون من أنّهم منسيّون ومعذّبون. كانوا يصرخون مطالبين بالحقوق التي لم يكن يمتلكها الشعب الروسيّ نفسه. كانوا يصرخون مطالبين بالحقوق التي ′عندما نحصل عليها سوف نقدّم بدورنا الواجبات الكاملة تجاه الدولة والشعب الأصليّ′. وأخيرًا جاء المنقذ وأنقذ الشعب الأصليّ. فماذا حدث؟ مَنْ الذي انقضّ عليه كما ينقضّ على ضحيّة؟ مَنْ الذي ناب عن الإقطاعيين في استغلال هذا الشعب حيثما استطاع إلى ذلك سبيلًا؟ من الذي سخّر حرفته الأبديّة (تخزين الذهب) في مصّ دماء بسطاء الروس؟ أقول لكم إنّ الفرق بين المستغلّ اليهوديّ والإقطاعيّ الروسيّ كبير جدًا، فالإقطاعيّ – على الرغم من أنّه استغلّ فلّاحيه أبشع استغلال – إلاّ أنّه كان يسعى دائمًا إلى عدم تدمير هؤلاء الفلاحين، من أجل مصلحته الشخصية على الأقلّ، ولذلك لم يسعَ إلى استنفاد القوى العاملة لفلّاحيه. أمّا بالنسبة إلى اليهوديّ فالأمر مختلف. إنّه لا يهتمّ إذا استُنفدت طاقة الإنسان الروسيّ أم لا... أخذ ما أخذ ثمّ انصرف. أعلم أنّ اليهود، عند قراءة هذه اليوميات، سوف يصرخون قائلين: إنّ هذه ليست سوى أباطيل، وإنّ هذا افتراء، وإننّي كاذب ويعود سبب كذبي إلى أنّني أؤمن بمختلف الحماقات، وإلى أنّني لا أعرف تاريخ القرون الأربعين ′لهذه الملائكة′ النزيهة الطاهرة، والتي لم يُعطَ لها ليس ما أعطي للأجانب فحسب بل حتى ما أعطي للشعب الروسيّ الذي أعبده أنا، بحسب قول أحدهم. فلنفترض أنّ اليهود – في العالم كلّه – لا يتمتّعون بحقوق الشعوب الأصليّة، بما في ذلك روسيا بالطبع.. فلنفترض هذا. أمّا أنا فقد قرأتُ في عدد آذار ̸ من كتيّب ′بشير أوروبا′ تقريرًا عن اليهود في الولايات المتحدة الأميركية – وتحديدًا في الولايات الجنوبية منها – يقول إنّ اليهود هناك قد انقضّوا على ملايين الزنوج المحرّرين حديثًا من العبوديّة وأخذوا يستغلّونهم بطريقتهم الخاصة التي اشتهروا بها، طريقتهم الأبديّة ′مهنة الذهب′، مستفيدين من قلّة تجربة هؤلاء القوم المُذَلّين (...) من البديهيّ أن يقول اليهود: إنّ الجميع في هياج بسبب الحقد الذي يحملونه لليهوديّ طبعًا، من الممكن جدًا أن يكذب الجميع، الجميع من دون استثناء، فكراهيتهم لليهود هي التي تحرّكهم في هذا الاتجاه، ولكن في هذه الحال فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه على الفور هو الآتي: إذا كان الجميع – من دون استثناء – يكذبون بسبب كراهيتهم لليهود، فمن أين جاءت هذه الكراهية؟ إنّ هذه الكراهية تعني شيئًا ما حتمًا، ′لأنّ كلمة الجميع تعني شيئًا ما حتمًا′ كما صرّح بيلينسكي ذات مرّة (...)".

فرويد اليهوديّ، الذي بمجرّد وضع يهوديّته على Divan التحليل الخاص به، ثم رفضه المشروع الصهيوني في فلسطين، أطلق عليه بعض قومه من الصهاينة صفة "يهوديّ كاره لنفسه"، بل نعتوه أبعد من ذلك بـ"اليهوديّ المقيت"! 



خلاصة ثانية

الخلاصة الأبلغ والأعظم التي نخرج بها من كلام دوستويفسكي أعلاه هي أنّ "التظلّم" و"التشكّي" الأزليّين الأبديّين لدى اليهود ليسا مرتبطين بحدث تاريخيّ واحد عارض (مثل "الهولوكوست" في زمننا المعاصر، مثلًا) بل هما مستمرّان منذ أربعين قرنًا، فعلى مرّ الأزمنة كان اليهود عامّةً، مع استثناءات محدودة لدى المتنوّرين منهم وقد لا يكون عددهم بالقلّة التي قد نخالها، دائمي "التظلّم" و"التشكّي" من "الاضطهاد" الذي يتعرّضون له من قبل مختلف الأقوام والشعوب، ويظهرون أنفسهم باستمرار أنّهم "مكروهون" من سائر الأمم! ويتساءل دوستويفسكي عن سرّ هذين "الاضطهاد" و"الكره" على نحو شبه "إجماعيّ"! وهل لا يتحمّلون هم فعلًا أيّ مسؤولية في ذلك من قبيل نزوعهم الدائم الى السيطرة المالية والاقتصادية أنّى عاشوا ووجدوا (وإن كأقلّية) والتأثير السياسيّ وممارسة الربا التي اشتهروا بها تاريخيًا، والتعالي على سائر "الغوييم" (أي الآخرين غير اليهود)، وفوقيّتهم الواهمة والراسخة بأنهّم "شعب الله المختار" أمّا باقي البشر فهم مجرّد عبيد ودونهم بشريًّا، ولاعتدادهم الواهم أيضًا بذكائهم المفرط وتفوّقهم عقلًا وفكرًا وعقيدة على جميع من عداهم، وإصرارهم تاريخيًا على العيش الانطوائيّ ضمن "غيتو" وعدم اندماجهم في المجتمعات المختلفة، غربًا وشرقًا، التي يوجدون فيها كأقليّة صغرى أو أقليّة كبرى (أليست دولة إسرائيل الإحلاليّة المحتلّة في فلسطين "غيتو" كبيرًا مسوّرًا بالجدران الفاصلة المرتفعة؟!). واضح من كلام دوستويفسكي وحججه العميقة المفحمة أنّه ينتج مثل هذه التساؤلات، يثيرها ويطرحها على بساط البحث والتأمّل. ولحقه اليهوديّ المتنوّر فرويد الذي جادل أبناء دينه وجلدته، أي الناس الأقرب إلى انتمائه الثقافيّ والحضاريّ الذي لم يتنكّر له بل واجهه بأسئلة تحليليّة تشبه ما فعله دوستويفسكي قبله أي: لِمَ عقدة الاضطهاد الملازمة للشعب اليهوديّ على مرّ التاريخ؟! ولِمَ "الغيتو" الذي شرحه فرويد وشرّحه؟ ولِمَ الشخصية اليهوديّة مختلفة عن كلّ الآخرين من أبناء البشر؟! ولِم ولِم ولِم، ولا تتوقّف الأسئلة التي تدور حول لغز الشخصيّة اليهوديّة وتكوينها وغاياتها وأهدافها الحقيقيّة وسرّ اضطرابها وتوسّلها لذرائع "الاضطهاد" و"الكراهية" و"اللاسامية" التي تُستخدم حتّى الساعة ضدّ كل من يناقش منابع القسوة والعدوانيّة والشجع والطمع بالمال والأرض والثروات والتحكّم في اقتصادات الدول وبورصاتها المالية ودوائر قراراتها السياسيّة والعسكريّة، إلخ؟


ممنوع على أحد أن يناقش مثل هذه المسائل أو يطرح موضوعيًّا مثل هذه الأسئلة، مهما علا شأنه وارتفعت قيمته وأهميّته على مستوى العالم، مثلما هي حال دوستويفسكي وشكسبير (بسبب شخصية شايلوك في "تاجر البندقية") وفرويد اليهوديّ، الذي بمجرّد وضع يهوديّته على Divan التحليل الخاص به، ثم رفضه المشروع الصهيوني في فلسطين، أطلق عليه بعض قومه من الصهاينة صفة "يهوديّ كاره لنفسه"، بل نعتوه أبعد من ذلك بـ"اليهوديّ المقيت"! وهذا ما فعلوه مع عدد مهمّ من اليهود المتنوّرين، الشرفاء والإنسانيين والأخلاقيين الرافضين للعدوانيّة والوحشيّة التي يمارسها عتاة الصهاينة في حقّ شعب فلسطين والشعوب العربية وآخرين، فأصدروا كتبًا ودراسات مستفيضة حول هذا الموضوع، ومنهم من غادر إسرائيل إلى الأبد، ومنهم من بقي يعارض ويرفع الصوت من الداخل. فإلى أيّ يهوديّ نصغي نحن؟ وأي يهوديّ ندعم ونؤيّد ونحيّي ونحبّ؟ أَمَنْ يحتلّ ويقتل؟ أم مَنْ لا يرى حقًا له في أرض فلسطين ويرفض المشروع العنصريّ "الأبارتهايديّ" المتوحّش من أساسه؟

أمّا باقي ما ذهب إليه دوستويفسكي فإلى الجزء الثاني الآتي بعد أيّام غير بعيدة.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان         

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.