}

"كتاب الجيب": بين ديمقراطية القراءة والتجارة

بوعلام رمضاني 12 أكتوبر 2023
تغطيات "كتاب الجيب": بين ديمقراطية القراءة والتجارة
(GettyImages)
هل "كتاب الجيب" الذي عاد إلى صدارة الحدث الثقافي في ظل أزمة نشر خانقة وغير مسبوقة ـ كما رأينا في تغطيتنا لانطلاق الموسم الأدبي الفرنسي ضمن وقفة سابقةـ دليل عافية وإيجابية ثقافيًا واجتماعيًا ونفسيًا وحضاريًا، أم أنه يحمل بين طياته سلبيات كثيرة كما أكد ذلك الأديب الراحل جان بول سارتر قبل عقود في عز انطلاقته؟ سنقف هنا عند تجربة "كتاب الجيب" الذي اكتسب حضورًا وجوديًا ومصيريًا أكثر من أي وقت مضى في سياق دخول أدبي فرنسي أنقذ نفسه من تراجع لافت بفضله. لولا هذا النوع من النشر الذي ساهم في تكريس ديمقراطية القراءة ـ كما يقول أنصاره الذين يؤمنون به إيمانًا شبه ديني ـ، لما استطاعت الكثير من دور النشر الكبيرة والصغيرة الصمود في وجه تضخم رفع سعر الورق إلى مستويات غير مسبوقة منذ بداية القرن الجاري... لولا هذا النوع من النشر، لما أصبح أي كان يدعي القراءة، ويتباهى بتواجد كتب رخيصة وصغيرة الحجم في مكتبته وفي جيوب ملابسه، ولما راهن عليه الكثير من ملاك دور النشر لرفع أرقام أرباحهم المذهلة جريًا وراء التجارة الخالصة وليس حبًا في الثقافة بوجه عام وفي الكتاب بوجه خاص... إنهما سؤالان على طرفي النقيض الذي يبرر أهمية وقفتنا الثقافية بعد مرور ستة أشهر على مرور الذكرى السبعين لولادة "كتاب الجيب"، لدرس سياق استمرار رواج هذا الكتاب وإسهامه في التخفيف من أزمة النشر ليس فرنسيًا فقط.


الولادة والسياق

الكتاب الذي بيع منه 1.2 مليار نسخة في فرنسا منذ انطلاقته الأولى عام 1953، ويمثل نصف المبيعات تقريبًا منذ العام الماضي في فرنسا، وتتواجد منه نسخة واحدة على الأقل في كل بيت، خرج إلى النور بفضل هنري فليباتشي، الأمين العام لمكتبة هاشيت الشهيرة. الكتاب الشهير الأرخص والأصغر حجمًا، يدخل في الجيب مثله مثل مسدس جندي أميركي، على حد قول أحد اختصاصيي النشر في حصة إذاعية بثتها القناة الثقافية الشهيرة "فرانس كلتور" (فرنسا الثقافة) في عز تخليد ذكرى الكتاب الأشهر من علم. الكتاب لا يحدث الإجماع عند القراء، وإذا كان يعتبر لدى الكثيرين عنوان الديمقراطية الثقافية ودليل العدل الاجتماعي، فإن كثيرين من غير البرجوازيين أيضًا، يعتقدون أن "كتاب الجيب" قد تحوّل إلى سلعة تجارية باسم الغيرة على القراءة، وقد تمّ الحط من شأنها، وهي ليست متاحة لكل الناس بطبيعتها، ورخص الكتاب يجلب الكثير من أدعياء الثقافة من خلال القراءة العابرة، وبالتالي غير الصالحة كمعيار للتأكد من صحة النوعية الثقافية التي يتباهى بها قراؤه. "كتاب الجيب" الذي هزّ عالم النشر في مطلع الخمسينيات كالزلزال، انطلق بقوة بفضل التقدم التكنولوجي عقب ما بعد الحرب لتخفيض تكلفة الطباعة، وكان من الممكن يومها الحصول عليه مقابل فرنكين، ويجدر الذكر والإشارة إلى أن الكتاب الصغير الحجم قد ولد في القرن السابع عشر قبل أن يدمقرط  - يصبح دليل ديمقراطية ثقافية إن صح التعبير ـ كما يقول مناصرو هذه الكلمة المستوحاة من بيئة غير عربية. الكتاب الأول الذي كان لصاحبه شرف إحداث ضجة الإنطلاقة الأولى، تمثل في كتاب "كونيجسمارك" للروائي بيير بينوا الذي تألق ما بين الحربين.



سارتر ضد وبانيول مع...

"كتاب الجيب" الذي أصبح يظهر بأغلفة أشبه بملصقات سينمائية وبألوان زاهية ورسومات مثيرة تخاطب الوجدان أكثر مما تخاطب العقل، أحدث خلافات بين متلقيه من عامة وخاصة الناس، وخاصة بعد أن دخل المتاجر العامة، وخرج من المكتبات المتخصصة في بيعه. من الذين لم يرقهم "كتاب الجيب" طالب فرنسي أنيق تحدث في قارعة الطريق مرتديًا بذلة أضحت أنيقة وغير محايدة اجتماعيا داخل شاشة ملونة بالأبيض والأسود فقط. الطالب الذي تحدث للتلفزيون عام 1964 ـ أي بعد 11 عامًا من انطلاق "كتاب الجيب"- قال ساخطًا ومحتجًا على استعمال صيغة الديمقراطية الثقافية عند الحديث عن مزايا الكتاب: "أؤمن بأرستقراطية القراءة، وكتاب الجيب يتنافى مع ذلك. الذين تعودوا على قراءة أي شيء هابط... وجدوا أنفسهم فجأة يقرأون الفلاسفة الكبار ومن بينهم جان بول سارتر، وهذا النوع من القراء أصبحوا يسيئون لهيبة الأدب بعد أن ركبوا موجة القراء المثقفين علمًا أنهم لم يقعوا من قبل أسرى قراءة حقيقية تفرضها مواقع اجتماعية معروفة". هذا الطالب الذي رأى في "كتاب الجيب" وسيلة للتباهي لا غير، أردف يقول في تسجيل أخذ من الأشرطة الوثائقية التي يحفظها المعهد الوطني للأرشيف: "قبل بزوغ فجر كتاب الجيب، الناس كانوا متواضعين أمام القراءة مقارنة بقراء مثقفين فعلًا، وانتقلوا بقدرة قادر من قراءة كتب الماء الوردي كما يقول الفرنسيون (كتب مثيرة عاطفيًا واجتماعيًا لا غير) إلى أخرى فكرية ليست في مستواهم الحقيقي، وبذلك تكون القراءة قد فقدت مرماها العميق". وقد شاطر سارتر هذا الطالب الرأي في حين رفضه مارسيل بانيول الذي قال: "إنني أتنبأ بمستقبل زاهر لكتاب الجيب، وخاصة بعد أن بلغني أنه تم نشر 120 ألف نسخة من كتب رامبو وفيرلين، وهذا الرقم من شأنه أن يحّول كتاب الجيب إلى وسيلة ثقافية ديمقراطية مثل الراديو والتلفزيون". وساند موقف سارتر المنظر الفني هوبرت داميش الذي قال أيضًا في عام 1964: "إن دفتر الجيب (لم يقل كتاب)، يخّفض القارئ إلى مرتبة المستهلك، وانطلق كمشروع محّير بمنح الجميع امتيازات تعليمية وثقافية لا تشارك فيها الجماهير الغفيرة بالضرورة"، وهذا فعلًا ما قصده الطالب المذكور الذي يؤمن بأن القراءة قد ابتذلت بعد أن أصبحت في متناول أناس تحولوا إلى دخلاء على القراءة. والقراءة الحقيقية في تقديره، ليست في متناول الجميع، وتبقى نخبوية بالضرورة وربما أرستقراطية كما لمّح إلى ذلك. وردّ المؤرخ روبرت ماندرو على داميش بقوله لمجلة "الأزمنة الحديثة" الشهيرة في نيسان/أبريل 1965: "يعتبر كتاب الجيب نعمة، وقد تم تداول 60 ألف نسخة من كتاب الجيب "المدارت الحزينة" الشهير لصاحبه الأشهر الأنثروبولوجي كلود ليفي شتراوس، وذلك بسعر علبة سجائر الأمر الذي يجعله غير قابل للصدأ".

آني إرنو، صاحبة جائزة نوبل للآداب العام الماضي، كانت صاحبة شهادة حديثة عزّزّت مواقف المؤيدين لنجاعة "كتاب الجيب" إبداعيًا بحكم تأثيره الإيجابي على أمثالها اللاحقين لكتاب عرفوا الشهرة قبلها بعقود. قالت إرنو: "لقد قمت بتطوير كتاباتي بفضل ‘الصفر واللانهاية‘ لآرثر كستلر، و‘الغثيان‘ لجان بول سارتر بعد صدورهما في شكل كتاب الجيب الذي شكّكّ في سلامة وصفه بالكتاب الحقيقي".

يجدر الذكر في الأخير أن ستة كتب جيب من عشرة كانت ضمن قائمة أكثر الكتب مبيعًا العام الماضي، وانفرد الروائي غيوم ميسو بروايتين. وكاتب هذه السطور يرغب بأن يؤكد أن كتب هذا الأخير تصنف ضمن روايات يطلق عليها روايات المحطات، والمقصود الروايات العاطفية والبوليسية الهتشكوكية الروح، والقائمة على الحب والتشويق غير المحدودين!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.