}

عودة جديدة لجان جينيه: الهامش الذي يشكّك في القاعدة

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 4 أكتوبر 2023
في عام 2021 صدرت الأعمال الكاملة لجان جينيه عن سلسلة "لابلياد" في جزأين، وتضم رواياته وشعره وأعماله المسرحية الكاملة.

إن عالم الأديب الفرنسي جان جينيه، الذي توفي سنة 1986، مألوف لدى القراء الشباب في فرنسا. فهم يصادفون هذا العالم، ولو أنهم لم يقرؤوا سطرًا واحدًا من أعماله. والذين أحبّوا السلاسل التلفزيونية الصغيرة الساحرة والمخيفة "مقتل جياني فيرساس" الأميركية (في نيتفليكس)، مثلًا، سيفهمون جيدًا كتاب جينيه "مذكرات لصّ"، أو روايته الشبيهة بسيرته الذاتية "معجزة الوردة"، التي كتبها في سجن "فريسنيس" ونشرها سنة 1946، بالإضافة إلى رواية "سيدة الزهور العذراء" التي كتبها أيضًا في السجن. الهوامش التي تشكّك في القاعدة؛ السجن؛ خيالاته غير المتوقّعة؛ مكان الجريمة و"وحشيته الإقطاعية"؛ عوالمه الموجودة خارج الخير والشر... كل ذلك شكّل نقاط جذب للقراء، ويسمح لهم بخرق القوانين وتغيير وجهات النظر. وبالوسع القول هذا هو عالم جان جينيه.

لم تكن أعمال جان جينيه لتمرّ من دون أن تحدث ردود فعل من الوسط الأدبي الفرنسي. فحين نشر "سيدة الزهور العذراء" في سنة 1943 كتب جان كوكتو يقول: "إنه الحدث الكبير في هذه المرحلة". بعد سنتين عاد وكتب عن "شعائر الجنازة": "إنه العبقرية ذاتها.  فبحرية مخيفة يضع المؤلّف نفسه خارج التوقّع، وهو جالسٌ على عرش الجنّ في سماء فارغة حيث القوانين الإنسانية لا وظيفة لها، بل تبدو مثيرة للسخرية".  لقد كان ظهور جينيه في عالم الأدب رمزًا للانفجار.

ثلاثية روائية ضدّ المجتمع

وصف النقد الفرنسي ثلاثية جينيه الروائية بالاستثنائية في تاريخ الأدب. نُشرت هذه الثلاثية، وهي: "سيدة الزهور العذراء"، "معجزة الوردة" و" مذكرات لص" لأول مرة ضمن منشورات لابلياد. فوصفت الصحافة الفرنسية ذلك بالتأخير غير المبرّر. رغم أن جينيه يُعتبر، رفقة بروست وكامي، من كبار الكتاب الفرنسيين في القرن العشرين. ويضعه بعض النقاد الفرنسيين في مرتبة أعلى من سيلين، رغم الاقتراضات الأدبية لجينيه من العامية الفرنسية. كما أنه ظلّ صامدًا أمام اختبار الزمن الأدبي أفضل من جان بول سارتر وجان كوكتو، اللذين حملاه إلى المراتب المقدسة (المعمودية)، ويضاف إليهما الأندريان مالرو وجيد اللذان أخذاه في حمايتهما، ولو متأخرًا، تحت أجنحتهما الكبيرة. إضافة إلى بذره للكُتّاب المثليين في عصره مثل: جوليان غرين، هنري دي مونتيرلان، وخصوصًا فرانسوا الذي نددّ بجرأته الإباحية، وآخرون ظلوا يتقاسمون معه أخلاقه في صمت. وحين أضيف إلى هذه الثلاثية نصّ معقّد هو  "شعائر الجنازة"، وروايته التي لا تُنسى "كوريل دي بريست" (1947)، التي اشتهرت بفضل فيلم ميكائيل فاسبندر وكفاءة الممثل الأميركي براد ديفيز، نكون، مع طبعة لابلياد الحالية، قد حصلنا على أساس أدب جينيه. كل هذه النصوص كُتبت بين عامي 1942 و1948.

لم تكن أعمال جينيه تمرّ من دون أن تحدث ردود فعل من الوسط الأدبي الفرنسي


هل هي حقًّا روايات؟

نُشرت الأعمال المسرحية لجينيه أول مرة سنة 2003، تحت اسم "روايات وقصائد"، ولم تتم الإشارة إلى المسرحيات. كما أن الروايات كانت هي الغالبة والقصائد قليلة. لكن لابلياد وضعت طبعة متميزة هي في نفس الآن عالمة وجامعة لكل الأعمال، مع ملاحظات وشروح وافرة. ملاحظات مقنعة وهوامش دقيقة، رغم أن الصحافة الفرنسية لاحظت على المقدمة طابعها المدرسي، وعلى الأساتذة الجامعيين المساهمين في الطبعة جرأتهم على استعمال كلمات بذيئة دون وضعها بين هلالين، من أجل إزالة الطابع المتكلف والمتأنّق وإظهار طابع الصعلكة. وفضّل نفس نقاد هذه الطبعة لو كلفت لابلياد كتابا حقيقيين مثل ميشيل ويلبيك أو فيليب سولرز أو إدوارد لويس (حائز على جائزة غونكور) بكتابة تلك المقدّمات.

"روايات وقصائد"، هل فعلا يتعلّق الأمر بـ"روايات"؟ نعرف أن جينيه كان يبدي الحذر من هذه اللفظة. في حين أنه كان يطمئن لكلمة "قصائد". وقد أجاب جان بول سارتر: "كتبي ليست روايات... لأن شخصياتي لا تأخذ القرارات بنفسها". وهذه الإجابة في غاية الدقّة، لأننا نقرأ جينيه بنفس الطريقة التي نقرأ بها "فصل في الجحيم" للشاعر آرثر رامبو، أي كما نقرأ "قصيدة النثر".

فصلٌ في الجحيم

في هذه المرحلة التي نشرت فيها لابلياد أدب جينيه، وهي مرحلة توصف بالـ"يقظة"، من المشروع طرح السؤال الآتي: هل نشر أعمال جينيه في هذه الطبعة الفاخرة على ورق صقيل- غلاف من الجلد البُنّي- يشكّل حدثًا؟ لماذا هذا السؤال؟ لأنه يُمكن أن يُوّجه إليها النقد على نشر هذا الكاتب ذي السمعة السيئة، الذي قيل فيه الشيء الكثير: عنصري، معاد للسامية، لوطي، منبوذ، يساري متعاطف مع المسلمين، كاره للنساء وطبعا له سوابق سجنية. وهذا ليس كل شيء.

بدون شكّ، هناك أشياء مقلقة عند جينيه، فقد كان الناقد والكاتب الفرنسي إيفان جابلونكا على حق حين بيّن المشاكل الموجودة في هذه الأعمال الأدبية المنجذبة إلى الشرّ، التي كتبها أديب غامض، في دراسة نقدية له تحت عنوان "الحقائق المسكوت عنها لجان جينيه"، حيث أشار إلى إعجاب جينيه بالألمان من خلال شخصية إريك سايلر في رواية "شعائر الجنازة". ولكن بعض النقاد اعتبروا نقد جابلونكا خارج السياق وجانب اكتشاف حقيقة عبقرية أدبية، وغابت عنه حقيقة أن جينيه لن يعتذر عن ذلك، بل هو يكتب من أجل الإزعاج.

لا بدّ من وجود حُماة

كان جينيه في حاجة إلى حُماة في نهاية الأربعينيات حتى يتمّ قبوله من الوسط الأدبي الفرنسي: كوكتو، سارتر، ثم مالرو وأندري جيد، لكنهم لم يكونوا من القوة بحيث يستطيعون نشر ثلاثيته الجحيمية، الشيطانية: سيدة الزهور العذراء (1942)، معجزة الوردة (1946)، مذكرات لصّ (1949)، التي نُشرت في البداية متفرّقة ومجهولة المؤلّف أو في مجموعة من المجلّات، قبل أن يعمل مارك باربوزات، ناشره الأوّل، على نشرها، وقبل أن تقوم دار غاليمار، كما هي العادة، بنشرها بعد مرور عشر سنوات.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.