}

مثقفو الشاشة والتضليل الفرنسي باسم محاربة حماس (1ـ2)

بوعلام رمضاني 17 نوفمبر 2023
تغطيات مثقفو الشاشة والتضليل الفرنسي باسم محاربة حماس (1ـ2)
ميشال أونفري (Getty)
تستمر القنوات التلفزيونية والإذاعية الفرنسية، في ظل تفاوت غير حقيقي وكامل بين العمومية والخاصة، في استقبال من أسماهم باسكال بونيفاس بالمثقفين الإعلاميين في كتابه "مثقفو التزييف"، والذي لم نشاهده جنبهم منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. هذه الطائفة الأيديولوجية المكّونة من مثقفين اشتهروا بظهورهم التلفزيوني منذ عقدين على أقل تقدير، ولم ينتظروا الحادي عشر من سبتمبر والسابع من أكتوبر لتبني نظرية الصراع الحضاري لصموئيل هنتنغتون. وبعد انطلاق إسرائيل في حرق غزة باسم محاربة إرهاب حماس، سقطت أقنعة بعض المثقفين التقدميين والإنسانيين الذين كانوا يختلفون نسبيًا مع صقور الفكر المحافظ والرجعي في صفوف المثقفين الإعلاميين على حد تعبير بونيفاس. إثر السابع من أكتوبر ببعض الأيام تحديدًا، اتفقوا كرجل واحد على ضرورة "مناصرة المتحضّرين الخيّرين ضد المتخلفين الأشرار والمتوحشين من إسلاميي حماس"، وعلى رفض ومحاصرة كل صاحب صوت يفنّد مقاربتهم العنصرية لصراع سياسي يؤرخ لإرهاب خارج من رحم كل أنواع الاستعمار بوجه عام، ومن استعمار استيطاني صهيوني بوجه خاص.
ميشال أوفري وألان فينكلكروت ("فينكي" للقريبين من عقله وقلبه)، نسيا الفلسفة التي يتحدثان باسمها منذ عقود، وتخصصا بكل ما أوتيا من قوة منذ السابع من أكتوبر في إحياء مقاربة صموئيل هنتنغتون لشرح الحرب على "إرهاب حماس"، وتبرير حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، والتفرقة بين ضحاياها وبين ضحايا غزة. وثمة مثقفون كثر مثلهما يتنافسون متبادلين الأدوار المحبوكة تحت الأضواء الكاشفة عن خطتهم الدعائية، ومرتدين ثوب المرشدين لسياسيين وقادة عسكريين بسعيهم الحثيث والممنهج لتكريس روايات وأخبار غير صحيحة، كاغتصاب "وحوش حماس" للنساء، وقطع رؤوس الأطفال، واستخدام المدنيين كدروع بشرية. ميشال أوفري، الذي كتب قبل اليوم عن انهيار الغرب أخلاقيًا وفكريًا وروحيًا، وجعل من "الأبيقورية" المنهج الفلسفي الأصلح والأكثر دوامًا لتبرير سعادة الإنسان المؤمن بكل أنواع ملذات الدنيا، والكافر بسعادة الآخرة، هو نفسه الذي يرفض وصفه باليميني المتطرف رغم تحوله إلى هنتنغتون جديد يرّوج لسابع من أكتوبر يؤرخ لوحشية إسلاميين لا يمقتون إسرائيل فقط، بل كل الشعوب الغربية العاشقة للحياة بكل أشكالها، وليس للموت. أوفري لم يعد مصدرًا فيلسوفًا، وأصبح مرشدًا سياسيًا ممتطيًا حصان طروادة مساعدًا لوبان الابنة للفوز بانتخابات رئاسة الجمهورية. الفيلسوفان أوفري، وفينكلكروت، كانا وما زالا يظهران في شاشات التضليل متحدثين لصحافيين يعملون في قنوات تلفزيونية وإذاعية تصدح بتوجه الملياردير فانسان بولوري- "موردوخ فرنسا"، وأحد أهم وأقوى رجال الأعمال. قناة "سي نيوز"، التي يقف خلفها السياسي المختفي تحت رداء التجارة التي طاولت النشر مؤخرًا، حققّت أعلى نسبة مشاهدة في الأيام القليلة الماضية متجاوزة غريمتها "بي إف إم" التي تستقبل هي الأخرى طائفة المثقفين المدافعين عن إسرائيل بشكل غير مشروط وغير الإرهابية في نظر كل ضيوفها ومعلقيها الدائمين. هذه الطائفة أصبحت تصف الإخوان المسلمين بالإرهابيين في خلط فكري ممنهج أوقعهم فيه الكاتب والأكاديمي جيل كيبال، الأقل تأثيرًا دعائيًا من أوفري وفينكي، الأمر الذي يفّسر ظهوره في برامج ترفيهية. التحق كيبال بعد السابع من أكتوبر بالطائفة السالفة الذكر، رغم روحه الأكاديمية الهادئة والأصلح للطلبة، وأصبح ينافس الصقور الأوائل ليتبوأ مكانة إعلامية أفضل بتنظيره القديم الجديد الذي يصب في صلب توجه أوفري وفينكي ولو بتهريج أقل. المتمعن هذه الأيام في تحاليل كيبال على إيقاع حرق غزة، يدرك بسهولة أنه أصبح هو الآخر مرجع سياسيين يستشهدون به لتضليل الرأي العام بالخلط بين مفاهيم تدور حول إرهاب لصيق بمسلمين سلميين وبإسلاميين جهاديين في الوقت نفسه، وهو بذلك يخدم بعض القادة العرب والمسلمين الذين يتفرجون على حرق غزة، ويحاربون إرهاب إسلاميي بلدانهم كما قال الرئيس الفرنسي متحدثًا لأحدهم.




إذا أضفنا إريك زمور إلى الثلاثي المذكور ـ في ظل الغياب اللافت لبرنار هنري ليفي الذي كان في أوكرانيا، وانضم إلى طائفة مثقفي الشاشة يوم السبت الماضي، كما سنرى لاحقًا ـ، تتخذ منافسة أعضاء الطائفة المسيطرة إعلاميًا طابع مسلسل تراجيكوميدي جدير بالمتابعة للتأكد من الخلفيات الفكرية الحقيقية للناطقين باسم أنوار إرنست رينان، وجول فيري، وتوكفيل، والطاهر بن جلون، وكمال داوود، وبوعلام صنصال، وياسمينة خضرا، ومن لف لفهم من ورثة الإستشراق والكاموية (نسبة إلى كامو) والعلمانية الإنسانية التي تحولت إلى دين رابع طلع من الأرض. حتى يضمن مكانه تحت شمس أوفري وفينكي، اختار زمور منهجًا شعبويًا ولغة غير فلسفية عصية على غير المتعلمين، وراح ينافس سكان الإستديوهات التلفزيونية والإذاعية بظهور سياسي مباشر يسمح له بالانفراد والتفرد. زمور سليط اللسان وسريع الكلام، والأقوى في دغدغة مشاعر المؤمنين بالصفاء العرقي الأوروبي ـ مثل هتلر الممثل الأكبر لمعاداة السامية ـ، نجح باعتباره كوميدي مونودراما أقبل عليها الملايين من الفرنسيين في انتخابات لم يفشل فيها في المطلق، مثله مثل لوبان الابنة، بعد أن نشر روحه الشعبوية في صفوف اليمين الماكروني الحاكم، وفي الجمهوري المعارض. زمور غير الأكاديمي، مثل جيل كيبال، اخترق الفيلسوفين المذكورين وكيبال، من دون نظريات أضحت موضة سياسية منذ السابع من أكتوبر باسم محاربة "إرهاب حماس" فقط. الفيلسوفان أوفري، وفينكلكروت، وجيل كيبال المتخصص في الحركات الإسلامية، فشلوا في الحد من الانتشار السرطاني لشعبوية زمور التي دخلت قلوب اليائسين من زعماء حكموا فرنسا تاركين المهاجرين المسلمين يغزون وطن كلوفيس، ونابليون، وجان دارك، بهوية قاتلة لهوية فرنسا المسيحية التي لم تعد ناصعة البياض في تقدير العائد بقوة للمشهد الثقافي والسياسي هذه الأيام. انتصر الكاتب زمور الشعبوي تلفزيونيًا، وانتشر كالنار في الهشيم أكثر من ثلاثي الطائفة التنويرية رغم تسويتهم بين حماس وداعش والإخوان المسلمين والجهاديين والسلفيين بتسطيح يعكس نواياهم ومقاصدهم الفكرية الجوهرانية. لقد انتصر زمور ككوميدي بارع على خشبة مسرح البولفار وحكواتي الأزقة والشوارع، وترك البرج العاجي لفلاسفة ومحللي التنظير النخبوي الذي لجأ إليه سياسيون يفتقرون للخطابة "الشيشرونية (نسبة إلى شيشرون)" المخادعة. تألق زمور في القنوات التلفزيونية والإذاعية والمجلات والصحف المهيمنة (سي نيوز، وبي إف أم، وأوروبا1، وأثّر في توجهات لوفيغارو، وفالور أكتيال ـ قيم راهنة ـ، وجورنال دو ديمانش ـ صحيفة الأحد)، وأصبح مرشدهم الأول. زعيم الهنتنغتونيين عرف كيف يوظف المشاعر، وليس العقل، وتجاوز بتأثيره تنظير ميشال أوفري، وآلان فينكلكروت، بتأكيده على حلول ساعة انطلاقة الحرب الأهلية بفرنسا في ظل تنامي معاداة السامية في أوساط مهاجرين مسلمين مؤيدين لـ"إرهاب حماس" وللفلسطينيين بوجه عام حسب زعمه. زمور لم يعد يناسب السياسيين الخارجين من جلدته الأيديولوجية الواحدة بعد أن تحول الى منافس سياسي شرس، والاستشهاد به يشكل اعترافًا بهزيمتهم. خلافًا لذلك، لجأ، وما زال يلجأ خصومه من رجال السياسة إلى تنظير ميشال أوفري صاحب نظرية "الحرب الأهلية بضجيج هابط" (غير المعلنة)، وإلى جيل كيبال صاحب نظرية "معاداة السامية" تأثرًا بالمناخ السياسي الطاغي. أوفري وكيبال وزمور وفينكلكروت... أصبحوا جميعهم مراجع محللين سياسيين يتحدثون هذه الأيام من منطلق توجههم الفكري "الهنتنغتوني" عن حرب أهلية غير معلنة بين الفرنسيين الأقحاح وبين المهاجرين المسلمين الداعمين حتمًا لإرهاب  الإسلاميين، وعن انفجار معاداة السامية في غياب أدلة وصور وفيديوات تفّند الأرقام التي يعلن عنها الصحافيون لحظة ظهورها أسفل الشاشة. المثقفون الذين يظهرون بانتظام في الشاشة، والأقل شهرة من أوفري وكيبال وزمور وفينكلكروت، لم يكونوا وحدهم يطلون بانتظام عبر مختلف شاشات القنوات العمومية والخاصة، وتم تعزيز استديواتها بآخرين متخصصين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وفي الشؤون العسكرية والاستراتيجية والأمنية.

آلان فينكلكروت (Getty)

من إعدام ميلونشون إلى تهميش دوفيلبان
تضليل الرأي العام بمثقفين معروفين بالتأويل الحضاري المذكور لنزاع سياسي يضرب بجذوره في ظلم تاريخي ـ اعترف به مثقفون يهود من غير الصهاينة ـ، أضحى سيد الموقف، وما زال كذلك حتى ساعة كتابة هذه السطور. اتخذ هذا التضليل أشكالًا عدة أسندتها أمثلة عامة وخاصة، تؤكد أن الحرية لم تعد مباحة منذ السابع من أكتوبر على الصعيد الفرنسي الداخلي كما تعودنا على ذلك، وتتاح، فقط، بعد أن يضع عسس الخط الافتتاحي خطة المنع الصلب والناعم بأساليب تنطلي على السذج والأغبياء فقط. جان لوك ميلونشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية"، أعدمه مثقفون وسياسيون وصحافيون عبر شاشات التضليل باتهامه بمعاداة السامية، بعد رفضه وصف حماس بالإرهابية، وطاولت التهمة رفقاء له حذوا حذوه باحتجاحهم على تأييد إسرائيل اللامشروط خلافًا لمعظم مثقفي شاشات التلفزيون. إسرائيل الاستعمارية المستمرة في حرق غزة باسم الدفاع عن أمنها، وجدت في مثقفي الشاشة، قضاة يحاكمون مسؤولي ومناضلي الحركة المحسوبة على اليسار المتطرف الإسلاموي كما يقولون، وهم أنفسهم الذين يقومون بحملة إعلامية لقطع الطريق امام ميلونشون كمرشح للإنتخابات الرئاسية القادمة. بعد أن قضوا أسابيع يعدمون الرجل الذي نزعت منه صفة الجمهوري، ضاعف أعداؤه من مثقفي الشاشة مجهوداتهم لتحطيمه سياسيًا، بعد أن أجمعوا على أن اليمين المتطرف المعروف تاريخيًا بمعاداته للسامية، لم يعد خطرًا على الجمهورية مثل زعيم "فرنسا الأبية". كما كان متوقعًا، لم توجه الدعوة لميلونشون المثقف الكبير الذي يخشاه الجميع كمناقش ومحاور شرس، كما تم مع الكاتب والمثقف الكبير الآخر دومينيك دو فيلبان، وزير الخارجية الأسبق، الذي اشتهر بخطابه في الأمم المتحدة ضد الاحتلال الأميركي للعراق. أسوة بالضيوف القلائل الذين يجدون أنفسهم أمام صحافيين ـ يستنطقون من لا ينسجم مع ما يريدون سماعه تماما كما يتم في مخافر الشرطة ـ، اضطر دوفيلبان لأن يكسر هدوءه المعهود بالرد غاضبًا على صحافية ظنت أنها أمام أحد مثقفي الشاشة. المثقف الذي شاهدته مرة واحدة متحدثًا لقناتي "بي إف أم"، و"مونت كارلو"، معزول ومهمش إعلاميًا، لأنه رفض دعم إسرائيل من دون قيد أو شرط كما تمنت مستنطقته، والانتقام من أهل غزة عسكريًا باسم محاربة حماس التي وصفها بالإرهابية خلافًا لميلونشون. مقاطعة الضيف الوحيد، واستنطاقه، ومحاصرته بمشاركة الصحافي أو الصحافية ومثقفي الشاشة، وإطلاق الإشهار لحظة تحدث المعارض لهم... أساليب فنية راحت ضحيتها أيضًا ليلى شهيد، الممثلة السابقة لفلسطين في فرنسا. ولأنها قوية الحجة، وماهرة في النقاش السياسي، استطاعت أن تثبت لصحافي قناة "أل سي إي" مسؤولية إسرائيل التاريخية عن المأساة الفلسطينية ورفضها للسلام قبل بروز إسلاميي حماس.
"إن الفساد الذي عرفته منظمة التحرير والأخطاء التي ارتكبتها حقيقة لا تبرّر الجرائم التي ارتكبتها إسرأئيل ضد الإنسانية في وطني الذي أعرفه أحسن منك" ـ هكذا ردّت شهيد على الصحافي الذي قاطعها أكثر من مرة، واستنطقها مثل زملائه الآخرين المتحالفين مع مثقفين حولوا الشاشات إلى منابر دعائية تخدم الطرح الإسرائيلي منذ عقود، وليس منذ السابع من أكتوبر فقط.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.