}

عن جاك لانغ وغزة ومعرض "ماذا تجلب فلسطين للعالم"

بوعلام رمضاني 13 ديسمبر 2023
تغطيات عن جاك لانغ وغزة ومعرض "ماذا تجلب فلسطين للعالم"
جاك لانغ (Getty)

 

صحيح أن المثقفين والسياسيين اليساريين الفرنسيين ليسوا كلهم من المناصرين لحرية الشعب العربي الفلسطيني بالشروط التي يكافح من أجل انتزاعها عن حق، وتاريخ تأييدهم لاستعمار الجزائر، من منطلق فكر إرنست رينان وجول فيري وتوكفيل، دليل على تقاطع خطابهم مع مثقفي الشاشات الذين ما زالوا يبّررون الإبادة التي تتعرض لها غزة باسم محاربة الإرهاب، كما مرّ معنا في حلقتين كاملتين. الأصح الذي يثبت أن بعضهم ما زالوا أوفياء للشعب الفلسطيني في حدود ما تسمح به المكارثية الإعلامية الصهيونية، يتمثل في جاك لانغ، أشهر وزراء الثقافة بعد أندريه مالرو، ورئيس معهد العالم العربي الذي لم تستضفه القنوات التلفزيونية والإذاعية للتعبير عن رأيه المناهض لمواقف مثقفي الشاشات من اليمين واليسار.

لانغ هو الوحيد من الشخصيات السياسية والثقافية اليسارية البارزة التي رفضت المشاركة في المسيرة المناهضة لـ"معاداة السامية"، جنب مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، المحسوب تاريخيًا وفكريًا على معاداة اليهود، والرئيسين السابقين فرنسوا هولاند اليساري الذي عيّن لانغ على رأس معهد العالم العربي عام 2013، واليميني نيكولا ساركوزي صاحب قانون "الاستعمار الإيجابي" عام 2005. جاك لانغ الذي قاوم يساريين حمقى على حد تعبيره لصاحب هذه السطور في حوارات توجت بكتاب ("محارب ثقافي اسمه جاك لانغ")، فضّل تقدم مسيرة سلمية صامتة رفقة النجمة إيزابيل عجابي الجزائرية الأصل، وفنانات وفنانين انطلقوا من ساحة معهد العالم العربي، ومروا أمام متحف الفن والتاريخ اليهودي مطالبين بوضع حد لحرب الإبادة التي أدت إلى زهق أرواح الآلاف من النساء والأطفال والرجال الذين دفنوا في مقابر جماعية، بعد أن سلموا من الموت تحت الأنقاض.

فلسطين الحضارة والإبداع

خلافًا لمثقفي شاشات التضليل ما زال جاك لانغ، اليهودي غير الصهيوني، و"العربي" كما يطلق عليه أنصار اليمين المتطرف في وسائل التواصل الاجتماعي، يدافع عن فلسطين التي أعطت للعالم أجمل صور الإبداع في شتى الحقول الفكرية والفنية والحضارية، كما يؤكد ذلك معرض "ماذا تجلب فلسطين للعالم" الذي يحتضنه معهد العالم العربي منذ الواحد والثلاثين من أيار/ مايو الماضي حتى نهاية السنة الحالية، بعد أن تمّ تمديده في عز الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة إثر تزايد الإقبال عليه. لانغ لم يعبأ بالتعتيم الإعلامي الإسرائيلي الذي غطى على زيارته لغزة ورام الله والقدس خلال تموز/ يوليو الماضي، وراح يفنّد خطاب مؤيدي ب. نتنياهو من مثقفي الشاشات، بمن فيهم أولئك الذين يتقاسمون توجهه الإشتراكي. في شريط "حكايات غزاوية" تحديدًا نرى لانغ يتحدث عن غزة التاريخ والفنون والتراث والإبداع بحب وصدق لا يمتان بصلة لتخلف وهمجية أهلها، على حد تعبير الهنتغتونيين من أنصار صقور اليمين الصهيوني المتطرف وعدد غير قليل من اليساريين. لانغ تحدث في غزة عن الفنانين الفلسطينيين الذين ساهموا بلوحاتهم في تشكيل متحف الفن لحديث والمعاصر إلى جانب فنانين تشكيليين عرب وأوروبيين وفرنسيين، ونوّه بمواهبهم وحساسياتهم المختلفة. وقف لانغ خلال زيارته في غزة عند طاقات شبابها في مختلف الفنون، وعند أصالة وتنوع وجمال تراثها وتقاليدها، وزار دير سانت هيلاريون، وهو موقع أثري يقدم فيه بعض فنانيه أعمالهم في إطار معرض "ماذا تجلب فلسطين للعالم"، وتندرج مشاركة فناني فلسطين في إطار مشروع تدريبي مبتكر بدعم من الهيئة الإستعجالية الدولية. شملت زيارة رئيس معهد العالم العربي أيضًا مدرسة تابعة للأونروا، ومكتب الخدمات الأساسية التابع للوكالة الفرنسية واليونسكو، والذي يتعلق بالتعليم والصحة والغذاء.

معرض "ماذا تجلب فلسطين للعالم" الذي يحتضنه معهد العالم العربي بباريس،  تمّ تمديده حتى نهاية السنة في عز الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة إثر تزايد الإقبال عليه


قصص غزة

تتجلى أهمية فقرة "قصص غزة" التي تعرض جنب حديث جاك لانغ عن مختلف أوجه الثقافة الفلسطينية، في كونها مشروعًا فلسطينيًا متعدّد الوسائط يهدف إلى إظهار التجربة اليومية في قطاع غزة لبقية العالم رغم العزلة المضروبة عليها بسبب حصار مستمر منذ 13 عامًا، والحروب الإسرائيلية المتكررة التي تشن ضدها يوميًا برًا وجوًا وبحرًا. تم إطلاق "قصص غزة" في آذار/ مارس 2019، من خلال مقاطع فيديو قصيرة تتراوح مدتها بين 3 و4 دقائق، وهي منشورة على موقع يوتيوب، وعلى شبكات وسائل التواصل الاجتماعي. وتهدف إلى إظهار غزة بشكل مختلف عن الصورة الدعائية التي تروّج لها إسرائيل باعتبارها بؤرة إرهابية لا غير. ومن شأن هذه القصص توعية الجمهور الفرنسي والأجنبي بالزخم الإبداعي الذي تزخر به غزة في كافة المجالات الثقافية والإجتماعية والفنية والتراثية والرياضية والحضارية العامة. يجدر التذكير أنه تم نشر أكثر من 200 حلقة من قصص غزة لاقت تجاوبا منقطع النظير من جمهور واسع ومتعدد اجتماعيًا. الوجه الثقافي الشامل الذي يقدمه معرض "ماذا أعطت فلسطين للعالم"، كشف عنه حديث جاك لانغ الذي ظهر في شريط "غزة في عيون جاك لانغ" محاطًا بمسؤولين وفنانين شابات وشبان كلهم عزيمة فولاذية لتجاوز الدمار الذي فرضته الآلة الصهيونية: "إنهم دليل الفرح والسعادة والأمل في مجتمع يصنع الجمال والإبتكار والإبداع بوجه عام". في جلسة حميمية أثبتت إيمانه بغزة المبدعة، أردف لانغ قائلًا: "جئت إلى غزة لأقول: إن معهد العالم العربي صديق غزة، وسيكون دومًا معها كما كان في الماضي من خلال برامج فنية وثقافية وأثرية، ومن شأن هذه الزيارة أن تزودني بأفكار غير مسبوقة تسمح لي ببلورة مشاريع جديدة تزيد من وهج الإبداع الطالع من غزة".



يجدر التذكير في الأخير أن "ضفة ثالثة" كانت على موعد عدة مرات مع الإبداع الفلسطيني الذي عرض في معهد العالم العربي خلال السنوات الأخيرة. والكاتب إلياس صنبر، السفير الفلسطيني السابق في اليونسكو، أشرف عام 2016 بالتنسيق مع الفنان إرنست بينيو، على مشروع المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر الفلسطيني الذي تألق فيه عدد من الفنانين التشكيليين العرب والفلسطينيين كما تشهد على ذلك يومها تغطيتنا للحدث ومحاورتنا السيد صنبر وعددًا من التشكيليين الفلسطينيين. و"غزة تقدم الكثير لتاريخ العالم أكثر مما كنا نتصور وليس من الطبيعي أن لا يستطيع المثقفون والفنانون والمبدعون بوجه عام الخروج من غزة السجن للمشاركة في تظاهرات عالمية. سأحاول إقناع السلطات الفرنسية بتغيير هذه الوضعية غير العادية والمؤسفة"، كلام هام لم يوله الإعلام الأهمية التي يستحقها. وإلى جانب لانغ، شهد الكاتب الراحل الكبير جان جينيه الذي قضى حياته مدافعًا عن حرية الفلسطينيين، على حبه للأرض المسلوبة، وذلك من خلال كتابه "الأسير العاشق" الذي صدر بعد شهر من وفاته عام 1986. ومعرض "ماذا تجلب فلسطين للعالم"، يخرج جان جينيه من الرماد كالعنقاء من خلال فقرة مبهرة تحت عنوان "حقائب جان جينيه" التي تحتوي على مخطوطات سلّمها إلى محاميه الراحل رولان دوما قبل رحيله بأيام.

من قصص غزة في عيون جاك لانغ:

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.