}

اليوم يحرقون فرويد فمن سيحرقون غدًا؟

لطفية الدليمي 16 ديسمبر 2023
تغطيات اليوم يحرقون فرويد فمن سيحرقون غدًا؟
لا يعد الكثيرون ميشال أونفري فيلسوفًا حقيقيًا (Getty)
ظلّ فرويد منذ أيامه، وحتى يومنا هذا، إشكالية كبرى على صعيد المفاهيم والتطبيقات. الإشكالية مع الفرويدية تتأتّى من مصدرين: فرويد ذاته، والفرويدية كمفهوم. المعضلة في سلوكيات فرويد وطبيعة عمله. من أين جاء بمفاهيمه؟ وكيف يمكنك أن تجلس وتبتدع لنا مفهومًا مؤسسًا على مسرحية إغريقية (على شاكلة العقدة الأوديبية)، ثم ترى في هذا المفهوم إنعطافة علمية حقيقية؟ اجتذبت هذه الأسئلة الإشكالية ردّات فعلٍ متباينة امتدّت على طيف واسع من الاستقطابات الفكرية التي توزّعت بين أقاصي اليمين الفكري ويساره. لم يكن هذا الأمر غريبًا؛ فالفرويدية ـ كما الماركسية ـ هي واحدة من المتبنّيات الأيديولوجية التي سعى مريدوها إلى إلباسها لبوس العلم الصلب. أظنّهم أخفقوا في مسعاهم، وأساؤوا إلى الفرويدية، وأرى أن مسعاهم هذا قد تعمّقت مسوّغات عطبه المفاهيمي في عصرنا الذي بات يعتمد المعطيات العلمية الصلبة، ويغادرُ حقب الأيديولوجيا حتى لو تجمّلت بفضائل عليا متخيّلة وخصال محمودة مفترضة. التأثير العملي المباشر الناجم عن خواص ارتقائية في الفكر البشري بات هو المعيار الفاصل، ولم تعُد الأيديولوجيا الخالصة جذّابة. العلم قبل الأيديولوجيا، والتحفيز التقني قبل اليوتوبيا الفكرية: هذا هو المعيار الحاكم في عالم اليوم، وهو معيارٌ له مسوّغاته العملية والتطوّرية المدعمة بأسانيد تاريخية.
الأمر الحقيقي مع ما حصل في التطوّر التاريخي للفرويدية أبعدُ من محض كشوفات علمية مستحدثة جعلت المفاهيم الفرويدية تنزوي بعيدًا. هنالك عنصرٌ نوستالجي في تعاملنا مع فرويد والفرويدية. نشأ معظمنا من الجيل الذي تجاوز عقده الستيني والسبعيني في أجواء فكرية كانت الفرويدية واحدة من أعمدتها الراسخة، ولا ننسى أنّ الترجمات الأنيقة للفكر الفرويدي على يد الراحل جورج طرابيشي ساهمت مساهمة كبرى في إشاعة الفكر الفرويدي. عاملٌ آخر لا يمكن التغافل عنه هو أنّ الفرويدية تغلغلت في الأدب والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، ولم تكن صندوقًا مقفلًا في نطاق دراسات علم النفس، وقد ساهم كثيرون في توظيف الفرويدية ـ أو بعض مفاهيمها في الأقل ـ في مناهجهم البحثية. يمكن الإشارة في هذا المجال إلى كتاب الفرويدية لميخائيل باختين، وكُتُب جاك لاكان ومجايليه من أقطاب المدرسة الفرنسية التي عشّقَت البنيوية المستحدثة بالفرويدية في إطار التوظيف الرمزي للمفاهيم والعلاقات الإنسانية. حتى كولن ويلسون الذي شاع صيته في العالم العربي في العقد الستيني والسبعيني من القرن الماضي لم ينسَ الفرويدية، وقلّما ترى نصًا له لا يحتفي بذكر فرويد؛ بل إنه كتب كتابًا عنوانه "مسارات جديدة في علم النفس ما بعد الفرويدي"، وهو غير مترجم إلى العربية. قد يبدو أساطين علم النفس ممّن أعقبوا فرويد مضادين له تمامًا؛ لكنّ المساءلة الدقيقة ستكشف أنهم ما كانوا كذلك. كارل يونغ مثلًا أعلى شأن القيمة الرمزية في حياة الإنسان، وهو في هذا لا يختلف مع فرويد سوى في طبيعة الكينونة المقصودة بالتوظيف الرمزي.




لا يخفى على المتابع المتخصّص لتاريخ العلم، وبخاصة في حقل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وعلم النفس بالتحديد، أنّ ميلًا متعاظمًا بات يميلُ لصالح تدعيم الرؤية القائمة على مسبّبات بيولوجية بدلًا من الاكتفاء بمفاهيم قائمة على رؤى شخصية مستلّة من تراث إنساني قديم، أو من تجربة غارقة في فردانيتها. لو راجعنا كتب علم النفس ـ وبخاصة الإكلينيكي منها ـ سنرى أنْ لا ذِكْرَ لفرويد، أو الفرويدية، إلا في عبارات قصيرة في سياق مراجعات تاريخية. صار العقل البشري ميدانًا لسطوة نواقل عصبية دماغية، وصار السلوك البشري ميدانًا يتحكّم فيه السيروتونين والدوبامين بدلًا من العقدة الأوديبية، أو عقدة ألكترا، وصار الوسواس القهري عَرَضًا لاختلال بيولوجي محدّد. لعلّ من الغريب على سبيل المثال أنّ مفردة الهستيريا التي كانت شائعة في أدبيات علم النفس لن نرى لها ذكرًا في مصنّفات ومراجع علم النفس الإكلينيكي الحديث.
في إزاء هذه الخلفية التاريخية التي تعشّقت فيها الفرويدية بالتاريخ الشخصي لكثيرين منّا ستكون تجربة غير طيّبة أن نقرأ كتابًا عنوانه "أفول صنم: خرافة الفرويدية" للفرنسي المشتغل في الفكر الفلسفي (لا يُعدّه كثيرون فيلسوفًا حقيقيًا) ميشيل أونفري. العنوان لوحده سيكون جارحًا لهم وسيثيرُ فيهم نوازع نوستالجية مُرّة. أونفري في كتابه هذا سيسفّه جهد كثيرين، وسيجعل من قراءاتهم السابقة واجتهاداتهم الفكرية أقرب لعمل طاحونة تطحن الهواء!! لكن برغم هذا علينا أن ننفض غبار هواجسنا النوستالجية ومطالعاتنا السابقة. الحقيقة العارية من الانحيازات المسبّقة في النهاية أحقُّ بالنظر والاعتبار.
يأتي كتاب أونفري في سياق حملة منظّمة لتسفيه فرويد كشخص والفرويدية كمفهوم. حتى نضع الأمر في سياق التشخيص والتكثيف، وحتى لا نضيع في حومة أفكار مشتبكة سألجأ لتحديد بضع موضوعات أوردها أونفري في كتابه وسأضعها موضع المساءلة:
1 ـ لنبدأ من العنوان. هو عنوانٌ محمّلٌ بحمولات تسفيهية غير مرغوبة في الكتابات الرصينة. العنوان جعل من فرويد صنمًا، ومن الفرويدية خرافة. لنأخذ مثالًا من الفيزياء (وهي من العلوم الصلبة Solid Science بمعنى أنّ هامش الاجتهادات الشخصية فيها يتضاءل إلى حدّ كبير): المثال هو نظرية الأوتار/ String Theory. ليس من معيار تجريبي يؤكّد افتراضاتها؛ وبرغم هذا يوجد بين كبار الفيزيائيين من يدعمها. كثيرون لا يرتاحون لهذه النظرية؛ لكن لا أحد وصفها بالخرافة، أو وصف المدافعين عنها بالأصنام التي ستأفل عمّا قريب. الكياسة مطلوبة في السلوك العام قبل أن تكون مطلوبة في أخلاقيات التعامل البحثي والأكاديمي.

الفرويدية ليست علمًا (Getty)

2 ـ يقال إنّ الفرويدية ليست علمًا. هذا صحيح تمامًا. الفرويدية وجهة نظر تطلّع مبتدعها إلى رفعها لمصاف وجهات النظر المعمّمة والجديرة بالاعتبار والتدقيق والامتحان. كثيرةٌ هي الحقول البحثية التي ليست علومًا (بمعنى العلم الصلب الخاضع لمعايير الاختبار التجريبي ومطابقة الوقائع المتحصلة مع المفترضات النظرية). الاقتصاد مثلًا ليس علمًا؛ إنّه سياسات policies تسعى إلى الارتقاء بأحوال البشر. يمكن في هذا السياق أن نتساءل: هل الرأسمالية علم؟ أبدًا، إنها سياسات فحسب.




3 ـ عندما نقرأ كتابًا ذا عنوان دراماتيكي صاخب فيجب أن ننتبه كثيرًا وكثيرًا جدًّا. العناوين الصاخبة هي مقدّمات لجذب أكبر عدد من القراء، وهي بهذا جزء من سياسة تسويقية مُناوِرَة ومُخادِعة. ليس بالضرورة أن تقترن المخادعة بهذه العناوين؛ لكن علينا التدقيق في مثل هذه الكتب وعدم القبول التلقائي بمُتبنّيات كُتّابها. يميل أونفري كثيرًا إلى هذه العناوين الصاخبة في كتبه العديدة التي يرمي من خلالها إلى دغدغة النوستالجيا الدفينة عند قرّائه. لننتبهْ إلى مثل هذه الكتب!!
4 ـ يكتب أونفري أنّ فرويد كان يطلب المال من وراء كشوفاته المستجدّة، ولم تكن جلسات التحليل النفسي سوى واسطته للتربّح. يذكر مثلًا أنّ جلسة واحدة كانت تكلّف صاحبها ما يقاربُ العشرين دولارًا (ما يعادل الخمسمائة دولار بمعايير هذه السنوات). يمكن أن نتساءل: من كان يقدرُ على تحمّل تكاليف هذه الجلسات؟ الأثرياء بالطبع. هذا مالُهُم وهم أحرارٌ في ما يفعلون. التحليل النفسي أقرب إلى عمليات التجميل باهظة التكاليف في وقتنا الراهن: إذا وُجِد من هو مستعدٌ لدفع الاثمان فماذا في وسعك أن تفعل؟ لا يمكنُ عدّ فرويد مذنبًا في طلبه للمال من الأثرياء. كثيرون ممّن يظهرون في الحوارات التلفازية العالمية ـ وبينهم فلاسفة وعلماء ذوو شهرة أكاديمية طاغية ـ يتقاضون مبالغ كبيرة. هذه حقيقة ليس في وسعنا وصفها بأنها مثلبة أخلاقية طالما أنها لا تخالف المعايير القانونية المعمول بها. الأثرياء من جانبهم كانوا يرون في جلسات التحليل النفسي ممارسة يتفاخرون بها مثلما يفعل نظراؤهم في الوقت الحاضر عندما يقتنون أغلى المجوهرات والسيارات، ويتفنّنون في عرض (ماركات) ملابسهم وأحذيتهم.
5 ـ يكتب أونفري في كتابه: "ما الهدف من هذا الكتاب؟ ليس تدمير فرويد، ولا تجاوزه، ولا إلغاءه، أو الحكم عليه، أو احتقاره، أو السخرية منه؛ لكن الهدف هو فهم أن علمه كان أولًا مغامرة وجودية سيرية، شخصية حصرًا، نموذج للاستخدام مرة واحدة، وصيغة وجودية للعيش مع آلام كثيرة للكينونة"يريد أونفري القول إنّ التجربة الشخصية ـ مهما توسّعت وتعاظمت ـ لا يمكن رفعها لمصاف العلم، أو الممارسة العلمية. هذا صحيح في ميدان العلم الفيزيائي، وليس في ميدان اشتغال بحثي كان ناشئًا في زمن فرويد. البدايات دائمًا تكتنفها العثرات والملابسات، وبخاصة في حقل ملتبس مثل علم النفس الذي كان أقرب إلى ممارسات السَحَرة قبل عهد فرويد. لا يمكن تصوّر حدوث انفصال تام بين التجربة الشخصية للباحث وميدان بحثه في حقل علم النفس، وبالتحديد في بداياته المتعثّرة.
6 ـ لنفترضْ أنّ فرويد كان مدلّسًا في بعض كشوفاته التي كتب عنها، وروّج لوقائع غير متحقّقة سعيًا لإعلاء شأن ممارسة التحليل النفسي؛ ألا يمكن تقديره من بوّابة الأدب؟ حتى لو سقط في ميدان علم النفس، وتهافتت آراؤه، وتقادمت كثيرًا، بحيث ما عادت تصلح لأية فعالية علاجية، أو معرفية، هل يمكن غضّ الطرف عن كتاباته ذات القيمة الأدبية والثقافية العامة؟ كان فرويد قريبًا للغاية من الحصول على جائزة نوبل الأدبية في إحدى السنوات، ولا أظنّه أقلّ شأنًا أدبيًا من برتراند رسل، أو ونستون تشرشل، أو بوب ديلان، الذين حازوا نوبل عبر بوّابة الأدب، وليس الفلسفة، أو السياسة، أو أغاني البوب.
اليوم، يريد بعضنا إحراق فرويد. من سيحرقون غدًا؟ الأفضل من احتفاليات الحرق هذه أن نقرأ الأفكار ونعيد امتحانها في ضوء التطوّرات المستجدّة، وإذا ما تقادمت كثيرًا فلندعها تستكين في متحف الفكر الإنساني. هذا أفضل من الدعوة إلى حرق صُنّاعها بعد عقود عديدة لم يبقَ لهم فيها سوى أفكار مقروءة، وعظام ترقد في سكون المقابر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.