}

عودة إلى حلم "نهاية التاريخ" لدى فوكوياما

سمير رمان سمير رمان 25 ديسمبر 2023
تغطيات عودة إلى حلم "نهاية التاريخ" لدى فوكوياما
عودة علماء السياسة إلى مناقشة مفاهيم فوكوياما ليست عبثًا(14/10/2016/الأناضول)

في خريف هذا العام، وعلى وقع الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتدام الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، عادت نخب الفكر والفلسفة إلى استحضار آراء المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ"، التي أطلقها عام 1989، وتحوّلت سريعًا حينها إلى تيارٍ رئيس في العلوم السياسية. رأى فوكوياما، وقتها، أنّ الديمقراطية الغربية دشّنت آخر مراحل تطور البشرية. كما رأى أنّ عصر الحروب والنزاعات والثورات، وكذلك التعصّب القومي، وتنافس الدول، قد انتهى حقاَ بالنسبة لدول "الديمقراطية الناضجة". ولكنّه استطرد أنّ نهاية التاريخ لا تعني نهاية الأحداث التاريخية، بل تعني فقط نهاية التناقضات الأيديولوجية، وما ينجم عنها من ثورات وحروب.
يعتقد فوكوياما أنّ نهاية التاريخ هذه تعني أيضًا نهاية الفنون والفلسفة، لأنّها بلغت ذروة تطورها. أمّا بالنسبة إلى العالم القديم "العالم التاريخي"، فيرى أنّ التاريخ سيشهد استمرارًا طويل الأمد، لكنه سيكون تاريخًا خارج حدود الغرب، الذي سيكون قد دخل مرحلة ما بعد التاريخ.
اليوم، لا يمكن القول إنّ عودة علماء السياسة إلى مناقشة مفاهيم فوكوياما قد جاءت عبثًا، لكن معظم النقاشات طغى عليها حديثٌ عن فكرةٍ مفادها أنّ "نهاية التاريخ" إمّا أنّها قد أُجّلت، أو أنّها لن تحلّ أبدًا.
قبل ذلك، في عام 2007، تطرق عالم العلوم السياسية الأميركي روبرت كاغان إلى فكرة تأجيل نهاية التاريخ، فقال: "مع صعود الأنظمة الشمولية في روسيا والصين، فإنّ نهاية التاريخ ستتأجّل حتمًا فترة غير محدّدة".
وفي حين يتناقل أنصار الديمقراطية الليبرالية أنّ النزاعات في أوكرانيا، وفي الشرق الأوسط، قد أجّلت بالفعل "نهاية التاريخ" المنتظرة، فإنّ خصومها يتحدثون بشيءٍ من الشماتة، وينعون مفهوم فوكوياما، ويتحدثون عن عودة التاريخ. فهل تكون "نهاية التاريخ"، إن أزفت، أكثر مرارةً مما افترض فوكوياما؟
يمكن فهم نهاية التاريخ من خلال التجول، على سبيل المثال، في صالات متحف الأرميتاج في مدينة سان بطرسبرغ، حيث توجد معارض كاملة من التوابيت الحجرية، وتنتصب مئات التماثيل الإغريقية والرومانية، وتُعرض أنواع من أسلحة القوطيين والفرانكيين (قدامى الفرنسيين). المتاحف والكتب هي الأمكنة الوحيدة التي تذكّرنا اليوم بتلك الحضارات البائدة، حيث تغيب غالبية الشعوب القديمة، وحيث لم تعد كثير من شعوب العصور الوسطى موجودة أيضًا: فمنذ زمنٍ بعيد، فقدت الأجيال اللاحقة من تلك الشعوب ثقافتها ولغتها، وضاعت ملامحها الأنثروبولوجية، فذابت في بواتق شعوب أُخرى، كما يذوب الملح في الماء. لم نعد نرى السومريين، ولا الهيلينيين القدامى، ولا قدامى المصريين، ولا الرومان (اللاتينيين)، كما غابت عن المشهد قبائل الجرمان، وكذلك القبائل التي انحدر منها الأتراك، فقد حلّت عليهم "نهاية التاريخ" بالفعل.




عند تصفّح الروايات التاريخية، تراودنا تساؤلات عن قومية الملك آرثر وفرسان الطاولة المستديرة، وعن أصول تريستان وإيزوالدا. إنّها مسألة جديرة بالتأمّل فعلًا، كما أظهرت روايات الفروسية، التي انتشرت في القرن السابع عشر، والتي استلهمت مواضيعها من أساطير بلاد الغال، المكتوبة باللغة الفرنسية القديمة. كان النورمانديون هم من أقام المملكة الفرانكية الغربية، ومن ثمّ غزوا إنكلترا عام 1006، وأصبحوا فيها صفوة القوم، وانضم إلى هذه المملكة (في القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشر) فرسان جنوب فرنسا.
ونسمع في بعض الأحيان أنّ الصين تعطي نموذجًا فريدًا لشعبٍ خالدٍ، تواجد على مدى ثلاثة، أو أربعة، أو حتى خمسة آلاف سنة. في واقع الأمر، يزخر التاريخ الصيني بشعوبٍ انقرضت تمامًا، عرفت بالفعل منذ زمنٍ بعيد نهاية التاريخ. كانت إمبراطورية "الهان" (618 ـ 907)م أعظم إمبراطورية في التاريخ الصيني، ولكنّها لم تقم بفضل سواعد شعب الهان نفسه، بل أُسست على يد عرقٍ آخر يمثل قبائل متنقلة في مناطق شمال الصين، انصهرت لاحقًا في بوتقة ما يعرف بالثقافة الصينية. أمّا إمبراطورية "تسين" في شمال الصين، فقد تأسست حوالي عام 1115 م على يد شعب آخر، هو الشعب المنشوري. وبعد مئة عام على قيامها، لم يهيمن منغول جنكيزخان على الصين، بل على دولة منشوريا، التي نظر شعب الهان إلى نخبها كفاتحين. لم يتبق من الشعب المنشوري اليوم سوى مجموعات عرقية صغيرة تفقد لغتها وثقافتها بسرعةٍ كبيرة.
في عصرنا الحالي، يمكننا أن نلحظ أيضًا نهاية تاريخ بعض الشعوب. على سبيل المثال، في القرن التاسع عشر، شكّلت أراضي إستونيا ولاتفيا الحاليتين آخر ما تبقى من أراضي ألمان البلطيق (الإستون)، أحفاد ألمان (ليفونيا)، وهو الشعب الذي لعب دورًا بارزًا في تشكيل النخب الروسية. ولكن تمّ ترحيل ما تبقى من هذا الشعب في روسيا إلى ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ولم يستطع أبناء الأجيال اللاحقة المحافظة على هويتهم الشخصية! (كان كثير من الألمان الإستونيين قد ذابوا في الشعوب الأُخرى في خضمّ الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية التي أعقبتها). على المنوال نفسه، اختفى ألمان بروسيا، وهم الشعب الذي ظل يعد طيلة مئة عامٍ العمود الفقري للإمبراطورية الألمانية. في عام 1947، قضي الحلفاء على مملكة بروسيا، ورُحّل البروسيون من أراضي بولندا والاتحاد السوفياتي إلى ألمانيا، حيث لم يحافظوا هناك أيضًا على هويتهم. في ألمانيا الاتحادية اليوم، يقول الألمان عن أنفسهم: أنا بافاري، أو أنا ساكسونيّ، ولكن لا يعرّف أحدٌ بنفسه كبروسيٍّ. وكذا، فقد حلّت نهاية التاريخ، بشكلٍ أو آخر، بالنسبة للبروسيين، وللإستونيين الألمان.
على ما يبدو، لم يكن فوكوياما محقًّا، بل كان عالم التاريخ الألماني أوسفالد شبينغلر هو المحق فعلًا عندما قال: هنالك نهاية للتاريخ، وهو نهاية حقبةٍ تاريخيّة لشعبٍ بعينه، أو ثقافةٍ في حدّ ذاتها. وفي حين عرف التاريخ مثل هذه النهايات، فإنّ معاصري تلك النهايات لم يدركوا أنّهم انتهوا. فالتاريخ يسير قدمًا، ولكن من دونهم!

يذكرنا حلم فوكوياما عن "نهاية التاريخ" بنصوصٍ تركها الفلاسفة الإغريق والرومان، مثل: أبيكتيتوس سينيكا، ماركوس أوريليوس، الذين عاشوا فترة أفول العصور الإغريقية والرومانية القديمة. وعندما نقرأ تاريخ الرومان المتأخرين، نستغرب إحساسهم بأنّ الأفضل في تاريخ الإمبراطورية الرومانية قد ولّى إلى غير رجعة، وأنّه حان الوقت للتفكير في الانسجام الداخلي.
على هذه الخلفية، يمكن النظر إلى مفهوم فوكوياما من جانبٍ آخر. فقد أظهرت شهرته الواسعة أنّ جزءًا من النخب الفكرية في الغرب يحلم في دخول هذا الغرب حالة ما بعد التاريخ، التي تذكر بفناء الأعراق، أو الثقافات. ربما، ترى الشعوب والحضارات التي انقضى زمنها التاريخي في هذه المقولة شيئًا ما جذّابًا. يلاحظ عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون: "لا تعيش الشعوب طويلًا بعد زوال آلهتها". وبالفعل، فإن تخلي الغرب المعاصر عن المسيحية كأساسٍ لحضارته، يطرح تساؤلاتٍ حول هويّة شعوبه مستقبلًا، لأنّنا نشهد كيف يتصاعد في الغرب اتجاه قويّ يتمثّل في التخلي عن المحافظة على نوعهم البشري: تزايد العزوف عن الزواج، ورفض تأسيس الأسرة (30% من سكان ألمانيا، وفي بعض المناطق 60%)، انتشار المثلية، وتعاظم تأثير الحركات النسوية، وتزايد تلاشي الفروقات بين الذكر والأنثى. كلّ هذا قد يشير إلى سير بعض الشعوب الغربية على خطى العصور القديمة في طريق الزوال والاختفاء تدريجيًا من المشهد.
فهل ستتحقق، خلال المئة عامٍ المقبلة، أحلام بعض الشعوب، فتجد نفسها في حالة "نهاية التاريخ"، بحيث ستعرفها الأجيال اللاحقة من خلال المتاحف والكتب وحدها؟ 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.