}

"معاداة السامية" في الفن أو قبلة الموت

بشير البكر بشير البكر 3 ديسمبر 2023
تغطيات "معاداة السامية" في الفن أو قبلة الموت
متظاهر ضد العدوان الإسرائيلي على غزة في باريس(25/11/2023/الأناضول)

"معاداة السامية" تهمة جديدة تطارد كل من له صلة بالشأن العام. سلاح تم تجريده بعد هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، التي قامت بها حركة حماس، وفصائل أخرى، على مستوطنات غلاف غزة. ومع أن الوصفة سارية المفعول منذ زمن بعيد، يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تأخذ هذا القدر من التعميم والتعسف. أصبحت خلال أيام معدودة عقوبة ذات وقع كبير، وتحولت إلى مطرقة ثقيلة تقع على رأس كل من لم يُدنْ حماس، ويتضامن مع إسرائيل.
وتختلف العقوبة من بلد لآخر. قد تصل السجن والغرامة المالية في بلد مثل فرنسا، والتشهير، والطرد من العمل في بلدان أخرى. وفي الأحوال كافة، يكفي أن يُرمى شخص، أو مؤسسة، بهذه التهمة، حتى يصبح محكومًا عليه بأنه بات خارج التداول. ولا ينتظر الأمر محاكمة، حتى ولو شكلية، على غرار المكارثية. الحكم جاهز، وهنالك من تلقى توبيخًا علنيًا، وطرد من عمله، ومن هؤلاء صحافيون يعملون في مؤسسات إعلامية مرموقة، مثل صحيفة "نيويورك تايمز"، التي قررت إنهاء عمل الصحافية جازمين هيوز، بعد توقيعها رسالة مفتوحة تتهم إسرائيل "بالفصل العنصري والإبادة الجماعية". وهنالك فنانون عالميون جرى تهديدهم ومساومتهم على سحب تغريدات تتضامن مع غزة، مثل الفنان الصيني المنشق آي ويوي، الذي ألغت غاليري "ليسون" معرضًا له في لندن كان مقررًا افتتاحه في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بسبب تضامنه مع غزة، وتوقيعه على عريضة التضامن إلى جانب قرابة ثلاثة آلاف فنان وكاتب ومثقف بريطاني وعالمي. وضمّن الفنان موقفه من المسألة الفلسطينية في تغريدة، قال فيها "لقد تم في بعض الأحيان نقل الشعور بالذنب حول اضطهاد الشعب اليهودي، إلى العالم العربي". وبعد إلغاء ثلاثة معارض أخرى له في نيويورك وباريس وبرلين، كتب "من دون مبالغة، كشخص أو فنان، أستطيع أن أعيش من دون أن أقوم بمعرض آخر، ويمكنني أن أعيش من دون الفن كفضاء للتعبير، لكن لا أستطيع أن أعيش من دون تفكير حر وحرية تعبير. وهذا يعني نهاية الحياة". وكان أكثر صراحة حين قال إن "الجالية اليهودية لها تأثير قوي في وسائل الإعلام والمالية والثقافة في الولايات المتحدة، وأن الدعم العسكري السنوي الذي تقدمه أميركا لإسرائيل بقيمة 3 مليارات دولار يعني أن البلدين لديهما مصير مشترك".
هذه ليست المرة الأولى التي يسجل فيها هذا الفنان موقفًا يخص غزة، وسبق له أن زار القطاع عام 2016، في إطار إنجاز فيلم وثائقي عن اللاجئين السوريين، الذين تتبع انتشارهم في بلدان عدة، ولكنه ضمّن الفيلم معاناة أهل غزة أيضًا.
وفي ألمانيا، كانت قضية "دوكومنتا" هي الأكثر تعبيرًا عن إشهار تهمة "معاداة السامية" في وجه الرأي الآخر. وخضع بعض العاملين في حدثها الفني الذي يقام كل خمسة أعوام إلى اجراءات تعسفية، مثل قيم المعارض، والكاتب الهاييتي المقيم في الولايات المتحدة، أناييس دوبلان، الذي فوجئ بإلغاء متحف "فولكفانغ" في مدينة إيسن افتتاح معرضه الوشيك، بعد سنة كاملة من التحضيرات، وبعد سفر المشاركين ووصولهم إلى ألمانيا، بسبب مشاركاته على صفحته وتعليقاته على صفحات الآخرين، على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على حسابه على إنستغرام. وشارك دوبلان بريدًا إلكترونيًا من مدير المتحف، بيتر جورشلوتر، يقول فيه إن المنشورات التي "لا تعترف بالهجوم الإرهابي لحماس [هكذا] وترى في العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة إبادة جماعية" هي "غير مقبولة". وبعد ذلك بيومين، شارك الشاعر الهندي، وأحد أعضاء لجنة اختيار الأعمال الفنية لمعرض "دوكومنتا" المقبل، رانجيت هوسكوت، خطاب استقالته، قائلًا: "يُطلب مني قبول تعريف شامل، وغير مقبول لمعاداة السامية يخلط بين الشعب اليهودي ودولة إسرائيل". وهذا، في المقابل، يحرف أي تعبير عن التعاطف مع الشعب الفلسطيني، باعتباره دعمًا لحماس، وتبعته استقالة كل أعضاء اللجنة، بمن فيهم الفنانة الإسرائيلية براخا إتنغر. وكان هوسكوت قد تعرض للهجوم بسبب توقيعه على عريضة ضد حدث، يربط الصهيونية بالقومية الهندوسية في القنصلية العامة لإسرائيل في مومباي في عام 2019.





وكانت مسألة "معاداة السامية" قد أثيرت خلال معرض العام الماضي، بسبب عرض لوحة تعود للمجموعة الإندونيسية المسماة بـ"تارينغ بادي". والعمل الفني هو عبارة عن لوحة عملاقة عنوانها "عدالة الشعب/ People's Justice" يظهر فيها، ضمن رسوم وأشكال كثيرة، جندي يرتدي وشاحًا عليه نجمة داوود السداسية، وخوذة عليها عبارة "الموساد"، وهو اسم جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية. ويختبئ خلف صورة كاريكاتورية لمهرج شخصية يهودية، يستدل عليها من خلال سوالف طويلة مجدولة، ذو أنف معقوف وأسنان ذئب وفي فمه سيجار وعلى قبعته رمز النازية (SS)... وتمت تغطية اللوحة وإخفاؤها، بعد تلك الانتقادات والاتهامات، منها وزيرة الدولة للثقافة، كلاوديا روت، التي نشرت تغريدة قالت فيها "من وجهة نظري، هذه صورة معادية للسامية".
التفسير الذكي لحالة الاستنفار الألمانية ساقته الفيلسوفة الأميركية (اليهودية) جوديث بتلر، بعد أن تعرضت إلى انتقادات شديدة في ألمانيا، كونها يهودية معادية للصهيونية، وقالت في حديث مع صحيفة "دي تسايت" الألمانية "عبر الدعم غير المشروط لإسرائيل، يريد عدد من الألمان، إثبات أنهم ليسوا من معادي السامية، ولهذا يهاجمون كل شخص يطالب بالعدالة لفلسطين".
الولايات المتحدة عاشت الحالة أيضًا. ومن أبرز التطورات إقالة مجلة Artforum المرموقة رئيس تحريرها ديفيد فيلاسكو، بعد نشره بيانًا حول الحرب، وقع عليه نحو 8 آلاف من الفنانين وأمناء معارض وأعضاء في مجتمع الفن حول العالم، ومما جاء فيه: "نحن نؤيد استقلال فلسطين وتحريرها"، والدعوة لـ"وقف قتل المدنيين". وطالب البيان بـ"وضع حد لتواطؤ الهيئات الحاكمة في بلداننا، في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب". وأدى نشر البيان إلى إثارة غضب ناشري المجلة، الذين أعلنوا "هناك عملية تحريرية معيبة وراء نشر رسالة تدعم حرية الفلسطينييين". ولكن مأخذهم الأساسي على البيان، هو أنه لم يتضمن أي تضامن مع اسرائيل وإدانة لحماس، ولذلك جرت اتصالات، وحصلت ضغوط على عدد من الموقعين من أجل سحب تواقيعهم، وقد حصل مع حوالي أربعة من الموقعين. وتفاعلت هذه القضية على نطاق واسع، وتناولتها وسائل الإعلام في الولايات المتحدة، بوصفها مثالًا صريحًا على الإجراءات التي جرى العمل بها من أجل مكافحة "معاداة السامية"، غير أنها لقيت انتقادات واسعة لأسباب عديدة، منها أن البيان متوازن جدًا، وغير منحاز إلى الطرف الفلسطيني. والسبب الثاني هو أن الضغوط التي مورست على بعض الموقعين من أجل سحب تواقيعهم، تعد تدخلًا سافرًا ضد حرية التعبير، ونوعًا من المساومة، وتقديم رشاوى لشراء المواقف، أو فرض عقوبات في حال الرفض. والسبب الثاث هو أن التدخل على هذا النحو من قبل الناشرين وصالات العرض يسيء إلى الفن ورسالته الإنسانية واستقلالية الفنان، ويؤكد على أن هنالك لوبيات موالية لإسرائيل تتحكم بالثقافة العالمية، وهذا أمر له مخاطر كبيرة، ليس على مستوى الحد من حرية التعبير، وقمع الرأي الآخر، وإنما فرض رؤية أحادية في الثقافة، وإقحام السياسة على نحو قسري في الثقافة من أجل خدمة إسرائيل، وهو ما وصفه فيلاسكو في حديث لصحيفة "نيويورك تايمز"، بقوله إن المجلة تعرضت لضغوط خارجية.
هذه العينات، ليس على سبيل إحصاء الوقائع، بل لإثارة النقاش من حول إقحام هذه التهمة في ميادين الفن والثقافة والإعلام، خاصة أن ما شهدناه حتى الآن هو، عبارة عن ممهدات لما سيأتي لاحقًا، وهو أهم بكثير، عندما تتحول فيه هذه التهمة إلى قانون، لمطاردة كل من يتضامن مع فلسطين، ولا يؤيد إسرائيل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.