}

في معنى إعلان تيميشوارا الرومانية عاصمة للثقافة الأوروبية

سمير رمان سمير رمان 16 يوليه 2023
تغطيات في معنى إعلان تيميشوارا الرومانية عاصمة للثقافة الأوروبية
أطفال أمام مسرح تيميشوارا القومي/رمز ثورة 1989 (Getty)
على بعد 500 كم من العاصمة الرومانية بوخارست، وعلى ضفاف نهر بيغا في الجزء الغربي من رومانيا، تقبع مدينة تيميشوارا/ Temesvhwar، عاصمة مقاطعة (تيميش). هي مدينة صغيرة يقطنها أكثر بقليل من 300 ألف نسمة، عرفت في العالم كلّه بـ"فيينا الصغيرة"، لما تحتويه من معالم تاريخية أثرية، ومراكز ثقافية، وحدائق خلابة، ولكثرة العروض الموسيقية المنتظمة على أرضها. كما تشتهر بجسورها الأربعة عشر عبر نهر بيغا. ومن المثير للدهشة أنّ تيميشوارا كانت أول مدينة أوروبية عرفت مصابيح الشوارع الكهربائية عام 1884. أما عن تاريخها الأحدث، فمنها انطلقت شرارة الثورة على نظام نيكولاي تشاوشيسكو الاستبدادي، وهي اليوم تعمل بكلّ قوتها لتكون عاصمةً للثقافة الأوروبية.
قبل هذا، أسس ممثلون عن الثقافة والسياسة ورجال الأعمال عام 2011 جمعية رفعت شعار: تيميشوارا عاصمة الثقافة الأوروبية. كان الهدف من إنشاء الجمعية تهيئة الظروف المناسبة والكافية في المدينة لتؤهلها لتلبية معايير الاتحاد الأوروبي المطلوبة للحصول على لقب عاصمة الثقافة الأوروبية. ولذلك، انتخب السيد إيوان هولندر رئيسًا فخريًا للجمعية، وفي كانون الأول/ ديسمبر من عام 2012 تم الإعلان رسميًا عن ترشيح المدينة للحصول على اللقب عام 2021.
شملت استعدادات سلطات تيميشوارا منذ عام 2012 إعادة تأهيل وسط المدينة التاريخي، لتحصل المدينة عام 2016 رسميًا على العقد المؤهل إلى لقب عاصمة للثقافة الأوروبية عام 2021، جنبًا إلى جانب مع مدينة نوفي ساد الصربية، ومدينة إليوسيس اليونانية، إلا أنّ أعوام جائحة كورونا أفضت إلى تأجيل الموعد حتى عام 2023.
يعرف وسط المدينة أيضًا بـ"فيينا الصغيرة" بسبب ارتباط المدينة الطويل تاريخيًا بالنمسا والمجر، ونتيجة لتأثير الهندسة المعمارية من العهد الإمبراطوري، فأصبحت المدينة الصغيرة تذكر فعلًا بفيينا القديمة. ينتشر في ساحات وشوارع المدينة قرابة 15 ألف مبنى تاريخي تزدان بألوان شونيرون الصفراء، وغيرها من الألوان الزاهية، كما لا تزال كثيرٌ من الشوارع التي تمرّ بالمدينة القديمة ترصف بالحصى والحجارة. قلعة تيميشوارا بُنيت في الثلث الأول من القرن الثامن عشر على أطلال حصنٍ عثماني (لا تزال بعضٌ من آثاره قائمة حتى اليوم)، تطوقه جدرانٌ متينة تدعمها تسعة أبراج حصينة تنتشر على طول الجدار، بقي منها سليمًا حتى اليوم حصن ماريا تيريزا، إلى جانب بعض أطلال من الجدران. تنظم الجمعية بانتظام حفلات موسيقية في الكنيس اليهودي القابع وسط المدينة، والذي لم يعد يستخدم للعبادة. وفي المدينة عدد من الأماكن المقدسة تستحق جميعها المشاهدة، وتعود إلى طوائف دينية أُخرى. ويمتد عبر نهر بيغا أربعة عشر جسرًا، أجملها جسر Podul Decebal. هذا بالإضافة إلى معالم تاريخية أخرى تشتهر بها المدينة، أهمها حمامات نبتون الشعبية.




إلى جانب البرنامج الضخم الذي يضم إقامة معارض وتنظيم حفلات موسيقية ومداخلاتٍ فنية في الأماكن العامة، وفي إطار البرنامج المسرحي، عرضت للمرة الأولى مسرحية "المنفى" للمخرجين الليتوانيين المعروفين أوسكاراس كورشونوفاس، وماريوس إيفاشكيافيتشيوس. تشكل المسرحية كرنفالًا لطباعٍ بشرية شديدة التنوع، كما تصوّر دراما قاسية عن الترحال والنفي والإبعاد في زمننا المعاصر.
تضم المدينة اليوم كثيرًا من الشواهد والمعالم التي تجعل المواطنين يشعرون أنّهم يعيشون فعلًا في "العاصمة الثقافية". لعلّ أبرز هذه المعالم برجٌ ينتصب في ساحة النصر/ Piata viictoriei في الساحة المركزية في المدينة، مكوّن من ستة طوابق من هياكل معدنية خفيفة تبطنها نباتاتٌ خضراء طبيعية. على الرغم من أنّ الساحة مشهورةٌ جدًا في تيميشوارا، إلا أنّها تشكل محطة مرور للعابرين، يجتازونها وهم في طريقهم إلى اتجاهات مختلفة. ابتكر القائمون على المشروع البرج كي يجعل الناس يتوقفون لإلقاء نظرة، وليتملكهم شعور أنّهم محاطون بالطبيعة، ولكي يروا عند صعودهم إلى الطابق السادس منظر المدينة العام من نقطةٍ غير عادية. وحتى من دون تسلق البرج، فإنّ إطار الخضرة الذي يتمتع به المكان يترك انطباعًا قويًا لدى مشاهده: فالساحة محاطة بأبنية رائعة بنيت في غالبيتها بأسلوبٍ مودرن من منظور بداية القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي، عندما كانت المدينة تحت حكم الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية. بعضٌ من هذه المباني خضع بالفعل لأعمال الترميم، في حين بقي بعض آخر كما كان حاله في عهد تشاوشيسكو. يبدو أنّ الموازنة المخصصة لـ"المدينة الثقافية" تساعد، يومًا بعد يومٍ، في انتقال أحياء أكثر من المدينة من الفئة الثانية إلى الأولى.

لخصت مسرحية "المنفى" إلى حدٍّ كبير الموجة الجديدة في الدراما الأوروبية مطلع القرن العشرين

في تاريخ المدينة السابق، كانت تيميشوارا مجرية ببعض التلاوين الألمانية، لتصبح طيلة قرن ونصف القرن عثمانية، ثم لقرنين من الزمان أصبحت نمساوية، ونمساوية مجرية، كما أنّها كانت واقعة لفتراتٍ في نطاق المصالح الصربية. ولا عجب أنّ هذه المدينة الرومانية أصبحت تمثل منذ أكثر من قرنٍ كامل وسيلةً واضحة لـ"خلط اللغات". لنأخذ، على سبيل المثال، مسرح تيميشوارا القومي، الذي شيّد البرج الأخضر بالقرب منه، حيث نجد أوبرا الدراما الرومانية، كما يعرض مسرحان قوميان آخران ـ الهنغاري والألماني ـ عروضهما في الوقت نفسه. يتمتع كلا المسرحين بقدراتٍ تنافسية رائعة، وهو أمرٌ نادر الحدوث فعلًا. علاوةً على ذلك، يعد المسرح هذا رمزًا لثورة عام 1989، فمن تيميشوارا بالذات بدأت أولى أعمال التمرد ضد نظام تشاوشيسكو، وتحوّل المسرح لأيامٍ مقرًا لـ"هيئة أركان المعارضة"، ومن شرفته المطلة على الساحة، استمعت الجماهير إلى بيان الجبهة الديمقراطية الرومانية.
وعدا كونه رمزًا للتغييرات الثورية، يعد بناء المسرح الوطني رمزًا للتراث الثقافي، كونه يشكّل نوعًا من علامات الاستفهام الضخمة حول التراث، وكيفية استخدامه. ويعود الفضل في بناء المسرح في نهاية القرن التاسع عشر إلى اثنين من أشهر معماريي المسارح في التاريخ، هما فيينا فرديناند فيلنر، وهيرمان هيلمر، اللذان صمما عشرات أبنية المسارح في أوروبا الوسطى. من ناحيةٍ، وضع هذان العملاقان شريعة دولية في بناء المسارح من حيث: الفخامة، الجمالية، وراحة مبنى المسارح، ومن جهةٍ أُخرى "زرعا قنبلةً" على مسار إبداعهما المستقبلي: فأصبح عدم استخدامهما نوعًا من الغباء، كما أصبح من المستحيل إعادة بناء إبداعاتهما، وذلك على الرغم من أنّ هذه الآثار المعمارية لم تعد تلبي متطلبات الفهم الحديث لمساحة المسرح. وكجزءٍ من نشاطات "العاصمة الثقافية"، أقيم في المسرح الوطني في تيميشوارا معرضٌ عن تراث هيلمر وفيلنر، الذي ليس فقط يثير الانبهار بأعمال الفنانين، على غرار عشرات المسارح التي بناها المعماريان في رومانيا، النمسا، هنغاريا، وكرواتيا، بقدر ما يدعو هذا المعرض إلى إخضاع تلك الأعمال للنقد والمراجعة.




بمعنى ما، أصبحت مسرحية "المنفى" لماريوس إيفاشكيفيتش أيضًا "إرثًا"، وإن كان إرثًا حديثًا، إذ غدت واحدة من ألمع النصوص المسرحية في بداية القرن الواحد والعشرين، ولخصت إلى حدٍّ كبير الموجة الجديدة في الدراما الأوروبية مطلع القرن. لقد أصبحت قصة بقاء المهاجرين الليتوانيين، الذين انتهى بهم المطاف في لندن، قصدًا، أو عن طريق الصدفة، قصة جميع المنفيين والمهجّرين في نضالهم للتغلب على اليأس، وقصةً عن محاولات وطرق النجاة وإنقاذ النفس. لقد قام أوسكاراس كورشونوفاس بإخراج مسرحية إيفاشكيافيتشيوس أكثر من مرّة،
بما في ذلك على المسرح الوطني الليتواني، والآن يساهم السياق الجديد في نجاح عودتها مرةً أُخرى.
يعرف كورشونوفاس جيدًا التعامل مع الفنانين، وفي إمكانه وهو في الرابعة والخمسين من عمره ضخّ شحنات من الطاقة الحيوية في أيّ مسرح. وفي المسرحيات متعددة الشخصيات، يجد في الدراما المعاصرة القاسية رحلةً في الحياة. في الوقت نفسه، ربما يشير الإخراج الجديد لمسرحية "المنفى" إلى أجزاء سريعة متلاحقة من التاريخ الحديث تدور خلال فترة عقدٍ كامل، وهي الفترة التي كانت المسرحية قد كتبت أثناءها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.