}

ذكرى أغوتا كريستوف: في قسوة افتقاد المرء لغته الأم

تغطيات ذكرى أغوتا كريستوف: في قسوة افتقاد المرء لغته الأم
أعمال أغوتا كريستوف أُدرِجَت في خانة "أدب الحرب"
تشير الصور المتداولة للأديبة المجرية الاستثنائية أغوتا كريستوف إلى سيدة عادية جدًا، قصيرة الشعر، شاحبة البشرة، نحيلة قليلًا، ذات ملامح جدية وصارمة وحزينة. يبدو عليها الاقتصاد في الكلام، والكتمان، وجمود الوجه والمشاعر، ومفارقة الفرح والابتسام لوجهها. عاشت أغوتا من دون حاجة مُلحة للكتابة بغزارة، أو استفاضة، حتى سيرتها المنشورة جاءت في أقل من خمسين صفحة! في أدب أغوتا ليس ثمة ما هو زائد على الحاجة، إنها فعلًا ملكة الاختزال والتكثيف والتقشف.
ولدت أغوتا كريستوف في 30 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1935، في قرية فقيرة للغاية، بلا مياه أو كهرباء، تدعى تشيكفاند، لوالدين مُتعلمين ومُثقفين. أورثاها حب القراءة والاطلاع. تعلمت أغوتا القراءة سريعًا وهي في الرابعة من عمرها. كان والدها، المعلم الوحيد في القرية، الذي يُدرِّس الرياضيات والفيزياء، أحد ضحايا الحرب العالمية الثانية والاحتلال الروسي، إذ تم سجنه، وانقطعت أخباره عن عائلته المكونة من زوجته والأبناء، أغوتا وشقيقاها، يانو الذي كان يكبرها بعام واحد، وتيلا الذي كان يصغرها بثلاثة أعوام.
المُثير أن أعمال أغوتا كريستوف أُدرِجَت في خانة أدب الحرب، أو الأدب النضالي أو الثوري. وصُنفت بين الروائيين الطليعيين المُنشقين عن الأنظمة الشيوعية السوفياتية في شروق ووسط أوروبا، مثل الفيلسوف الروماني إميل ميشيل سيوران، والتشيكيان إيفان كليمان، وميلان كونديرا، وغيرهم ممن كتبوا بالفرنسية، أو غيرها. إلا أن الأمر في ما يتعلق بأغوتا كريستوف كان غير ذلك بالمرة. لم تكتب أغوتا روايات حرب على النحو المُتعارف عليه أبدًا في تاريخ الرواية. ولا اختارت أن تكون من الطليعيين، أو المتمردين ضد النازية ثم الشيوعية، وغيرهما. لم تترك بلدها بإرادتها، ولا استبدلت لغتها بالفرنسية عن اختيار وتصميم. الأمور مُغايرة كثيرًا جدًا في ما يتعلق بأمر أغوتا كريستوف. ولذا، لا تستقيم التصنيفات الكثيرة المُلصقة بها.

الهجرة والمنفى
كان الانتقال والارتحال والهجرة قدر الكاتبة منذ طفولتها المبكرة. وذلك لأسباب عديدة على رأسها الحرب والفقر وملاحقة السلطات. في البداية، انتقلت عائلتها إلى بلدة حدودية تدعى كوزبرج. هناك، لم تستطع والدتها إعالتها وشقيقيها نظرًا لضيق ذات اليد، وظروف الحرب القاسية، ما اضطرها إلى وضعها في مدرسة داخلية تشبه الثكنة، وتجمع بين الدير والميتم، في ظل جوع دائم وبرد متواصل ينهش جسد أغوتا ابنة التاسعة. خلال سنوات انفصالها عن أسرتها لم يكن لديها من وسيلة لتحمل ألم الفراق سوى القراءة. ولكونها العزاء الوحيد، أدمنت أغوتا القراءة. تكتب في سيرتها المُوجزة والمُكثفة "الأُميّة": "الأمر أشبه بالمرض. أقرأ كل ما تقع عليه يداي، أو عيناي: جرائد، كتب مدرسية، ملصقات، قصاصات، وأوراق ملقاة في الطريق، وصفات مطبخ، وكتب أطفال. كل شيء مطبوع". كذلك، راحت أغوتا تُدوِّن مذكراتها الخاصة، لكن بحروف سرية اخترعتها بنفسها، حفاظًا على خصوصيتها.
في سن التاسعة عشرة تقريبًا، ورغم أنه لم يراودها أدنى أمل في أن تصبح كاتبة، بدأت أغوتا تكتب الشعر، ونشرت بعض قصائدها في مجلات أدبية مجرية. إلا أن مسيرتها الأدبية بلغتها الأم لن يكتب لها الاكتمال أبدًا. إذ بعد زيجة سريعة، فرت أغوتا إلى النمسا قسرًا، وهي في الحادية والعشرين من عمرها، خوفًا من بطش وسجن السلطات السوفياتية. وذلك بعد قمع الثورة المجرية عام 1956، ومُطاردة النشطاء، واعتقال المنخرطين في الأعمال المناهضة، وكان من بينهم زوجها الأول، مُعلم التاريخ. اضطرت أغوتا إلى ترك كل شيء خلفها، ومن دون تصريح رسمي بمغادرة البلاد، هربت. وُضِعَت قافلة المهاجرين الصغيرة، من بينها أغوتا وزوجها وطفلتها، في محبس مُسيّج. أطلقت عليه في مذكراتها "حديقة حيوانات". إذ كان الناس يأتون للفُرجة عليهم من وراء الأسيجة. بعد ذلك، عبرت الحدود مرة ثانية إلى أحد مراكز إيواء اللاجئين في لوزان، في سويسرا. بألم بالغ، تتذكر الكاتبة تركها في المجر لدفتر مذكراتها المكتوب بحروف سرية، وقصائدها الأولى. أيضًا، هجرها لشقيقيها ووالديها من دون أن تعلمهم برحيلها، أو تودعهم.
كانت حياة المنفى والفقر والبؤس والهجرة غير الشرعية غير محتملة أبدًا بالنسبة لأغوتا. خاصة وأن أربع نساء كن معها في رحلة الهجرة قضين انتحارًا لعدم قدرتهن على التأقلم والظروف الجديدة. في دورها، كانت أغوتا راغبة في الهجرة إلى أميركا لتعيش وتربي ابنتها هناك، إلا أنها علقت في سويسرا حتى رحيلها عن عالمنا في 27 يوليو/ تموز 2011. في مدينة نيو شاتل، بدأت أغوتا من الصفر حرفيًا. اضطرت إلى تعلم لغة جديدة، واعتناق نمط حياة مغاير، وامتهان عمل مختلف. إذ عملت أغوتا لخمس سنوات مُضنية في مصنع ساعات متواضع. في ظل ظروف عمل قاسية نهارًا، واعتناء بالمنزل وتربية الطفلة مساءً. سنوات خمس أشعرتها فعلًا أنها أُميّة، أو جاهلة، لا تعرف التحدث أو القراءة أو الكتابة بالفرنسية. الهروب، ومركز الإيواء، ومعاناة مخيمات اللجوء، ومصنع الساعات، وأيام العمل الكئيبة المملة، والأماسي الصامتة، والأحاسيس القاسية بالغربة والوحدة والفقد، وصعوبات اللغة، محطات مُختلفة سردتها أغوتا بعبارات سريعة وقصيرة وموجعة، تلخيصًا لحياتها، في سيرتها "الأُميّة".

اللغة والأسلوب
رغم الوحدة والعزلة المُطبقين حول أغوتا، لكن لم يكن هنالك ما هو أقسى من افتقاد المرء لغته الأم، خاصة لو كان يعشق القراءة والكتابة. ناهيك عن أن اللغة الوحيدة التي تتقنها تجد نفسك، بعد أن تجاوزت العشرين، مضطرًا للتخلي عنها، واعتناق لغة جديدة. أمُية أغوتا لم يكن من سبيل لمحوها إلا بتعلم الفرنسية. أمر جد شاق، ومهمة شبه مُستحيلة، خاصة أنها عانت من قبل مع اللغة الألمانية، لغة المحتل النمساوي لبلدها. وبعد ذلك، مع اللغة الروسية المفروضة قسرًا في المدارس لطمس هوية وتاريخ وثقافة المجر. رغم تلك المُعضلة، المكونة لجانب كبير جدًا من شخصية وأدب أغوتا، إلا أنها نجحت في النهاية، وبجدارة، في تعلم اللغة. بل وتطويعها، قدر الإمكان، لكتابة أدب جد رفيع ومتميز وفارق. خطوة قادتها في النهاية إلى أن تصبح كاتبة مرموقة بالفرنسية، تحقق رواياتها مبيعات عالية، وتترجم إلى أهم لغات العالم.
مع ذلك، ورغم التحدث والكتابة بالفرنسية لأكثر من ثلاثين سنة، تعترف أنها لم تعرف اللغة حق المعرفة. ولم تتقنها كالفرنسيين. ولم تستطع التحدث بها من دون أخطاء. وأنها كانت دائمة الاستعانة بالمعاجم. يبدو هذا جليًا في الفيديوهات القليلة للقاءات معها، على شبكة الإنترنت، واللكنة الواضحة في نطق اللغة الفرنسية. لذا، أطلقت عليها لغة العدو. تمامًا، كالألمانية والروسية، اللتين كانتا مُجبرة على تعلمهما. الأهم والأخطر في رأيها قولها "إن هذه اللغة تقتل لغتي الأم". وقد ذكرت هذا صراحة في "الأُميّة": "لم أختر هذه اللغة، فرضتها عليَّ الصُدفة... مُكرهة أنا على الكتابة بالفرنسية. إنها تحدٍ. تحدٍ تخوضه امرأة أُميّة، قتلت لغتها الأم عبر لجوئها للغة جديدة".




من ناحية أخرى، يمكن القول إن اللغة الأخرى، الفرنسية، كانت سببًا في الأسلوب المُتميز جدًا الذي عُرفت به أغوتا كريستوف، حيث المفردات السردية الحادة والقاطعة والدقيقة، والجمل التلغرافية القصيرة، المكثفة، المُختزلة المشحونة برشاقة وسرعة، وبوصف بصري سينمائي للأحداث والأماكن والشخصيات. كانت أغوتا تلجأ لأبسط الكلمات، وأقصر الجمل، لتُعبر من خلالها عن أفكارها وهواجسها ومتاعبها ومشاعرها. لم تحد في أغلب أعمالها تقريبًا عن وحدة الأسلوب السردي هذا. من هنا، يبرز الصوت الفريد لأعمال كريستوف المكتوبة بأسلوب لافت وفريد عن المكتوب في الأدب الأوروبي الحديث.
ربما يكون عدم التمكن التام من اللغة هو ما جعل كتابتها مُقتضبة، وحادة، ودقيقة، بلا زوائد، أو إغراق في الوصف والتفاصيل والعواطف، والإمعان أكثر في نقل حقائق ووقائع وأحداث ببرود وصلابة وحيادية، وندرة في اللجوء إلى تبرير أو تفسير الدوافع، أو السلوكيات، أو التصرفات، واقتصاد هائل أيضًا في بناء الجُملة، أو حتى الفقرة، تقريبًا ما من فقرات كثيرة مُطولة في أعمالها، ناهيك بالوصف المُسهب لأي شيء، ما من حشو في الوصف، أو حوارات مسرحية مُطولة من دون طائل. إجمالًا، الكثافة التعبيرية، والاقتصاد اللغوي حد التقشف، والشخصيات القليلة، والأماكن والأحداث والعوالم المحدودة، والزمن السردي القصير المكثف، والابتعاد عن المباشرة والافتعال من الآليات والأدوات المؤثرة جدًا والملحوظة بشدة في بنية عوالم أغوتا كريستوف الروائية.
لا أحد يقرأ روايات أو قصص أغوتا كريستوف من دون أن تصدمه جملها المُقتضبة، ومفرداتها الصارمة، وقسوة شخصياتها. بمنتهى البرود، وباحترافية فنية، وبإقناع صادق تقتل أغوتا الجميع بدم بارد، من دون أدنى شفقة، الأب أو الأم أو الجدة أو الزوج أو الحبيب. يسري الدم بهدوء وسهولة وبساطة، كأن ما يحدث غاية في العادية، في حين أنه صفعة قوية لا يفيق منها القارئ ويتجاوزها سريعًا إلا بعد صفحات. وعندئذ، تُباغته بلطمة أخرى، غير متوقعة، غاية في القوة والقسوة والسرعة. وبينما تصفعك وتلطمك أغوتا تُجبرك، أيضًا، وسط الصدمة والذهول والاندهاش، على متابعة القراءة والإنصات إلى شخصياتها، وملاحقة مصائرهم بتشويق وانفعال واستمتاع، من دون أن تترك لك الوقت لتتحسس آلام الصفعة، أو تفكر فيها.
الغريب أيضًا في أدبها أنه رغم تأثير الحرب المُباشر على كيانها وحياتها حتى رحيلها، وحتى على شخصيات ومصائر أبطالها، إلا أنها تجنبت الخوض في أية تفاصيل مباشرة مرتبطة بالحرب. الأمر نفسه في ما يتعلق بالسياسة، رغم معاصرتها لملاحقات واعتقالات وإعدامات، وتفجر ثورة وقمعها، ناهية بقسوة وتسلط وبطش أنظمة استبدادية مختلفة.



مسيرة أدبية
حالت اللغة الفرنسية دون نشر أغوتا لأي نصوص أو أعمال لسنوات طويلة. ومع ذلك، لم تهن عزيمتها، ولم تيأس أبدًا. بعد منتصف الثمانينيات، أرسلت أغوتا، وهي في الخمسين تقريبًا، مخطوطتها الأولى "الدفتر الكبير"، لدور النشر الكبرى في باريس. رفض دار "غاليمار" لنشر المخطوطة لم يفتّ في عضدها. كانت مؤمنة بنفسها وما كتبته. وبالفعل، قامت دار "سوي" (Seuil) المشهورة بنشره، بعدما تلقت رسالة من صاحبها يؤكد فيها إنه لم يقرأ أدبًا رفيعًا بهذا الزخم منذ سنوات. عام 1986، نشرت رواية "الدفتر الكبير"، ولاقت نجاحًا كبيرًا ومباشرًا، وحازت على أكثر من جائزة، وترجمت لأكثر من أربعين لغة. وكانت الدافع أو الحافز لأن تتبعها بروايتين، "البرهان" (1988)، و"الكذبة الثالثة" (1991)، لتشكل الروايات معًا ثلاثيتها الشهيرة التي تعد واحدة من أشهر الثلاثيات المكتوبة في الأدب الحديث المكتوب بالفرنسية، رغم أنها ليست مُرقمة، ولا مُقسّمة إلى أجزاء، وما من رواية تُوحي أن جزءًا سيُتبع بآخر. أيضًا، ما من إشارة إلى أن "الكذبة الثالثة" خاتمة لثلاثية، إذ لكل رواية كيانها الروائي المُنفصل عن الآخر، والمتصل أيضًا، عبر وحدة موضوع وشخصيات وأسلوب.
خلال مسيرتها، نشرت أغوتا كريستوف رواية صغيرة بعنوان "أمس" (1995)، ومجموعة نصوص متنوعة بعنوان "سيّان" (2005). إضافة إلى عدد من المسرحيات والنصوص الإذاعية. كذلك، سيرتها الذاتية الموجزة "الأُميّة" (2004). وأخيرًا، مجموعة "أينك يا ماتياس" (2006). عانت أغوتا كريستوف من مشكلة في ساقها جعلتها حبيسة منزلها لفترات طويلة. وفي سنواتها الأخيرة، لم تكتب أو تنشر أي جديد، وتوفيت في صمت تام في منزلها السويسري في 27 يوليو/ تموز 2011. المُثير أنه رغم أن أغلب أعمال أغوتا كريستوف مُترجمة إلى العربية منذ سنوات بعيدة، بفضل اللبناني الراحل بسام حجار، والمغربي المجتهد محمد آيت حنا، إلا أن أعمالها ليست معروفة ولا مُنتشرة بالقدر اللائق، بل ولم تحظ أغوتا أبدًا بالاهتمام المُستحق في الوطن العربي. والغريب أن الأمر ذاته، تقريبًا، ينسحب على أوروبا، رغم موهبتها وفرادة أدبها.

الثلاثية
تدور أغلب الأحداث في بلدة مجرية ريفية، ومدينة صغيرة مجاورة لها، مدينة "ك". لم تُبقِ الحرب إلا على محض هياكل عظمية أو بقايا بشر تعساء أشقياء، ممزقين ومنقطعين ومشردين. أناس ضربتهم التعاسة وسكنهم الشقاء وأضناهم الإنهاك البدني والروحي بعمق، لدرجة استحال معها أي أمل في نجاة أو خلاص، حتى على المستوى الأُسري، أو العاطفي. من الصفحة الأولى، تُمسك بك أغوتا، تُربِكك بشكل كبير، بينما تستدرجك بمنتهى القوة والإثارة والقسوة إلى عوالم التوأم لوكاس وكلاوس.




في "الدفتر الكبير"، نتعرف على لوكاس الذي أتت به أمه، وشقيقه التوأم كلاوس، لتودعهما منزل أمها، ثم تغادر. تتسم تصرفات الجدة الشمطاء، المشكوك في تسميمها لزوجها، بالكراهية والغلظة والقسوة مع الطفلين. يتأقلم التوأم والبيئة الجديدة. يشاركان الجدة العمل والصيد وكل الأعمال القذرة. أقلها انتحال شخصيات الأصم، أو الأعمى، أو المتسول. بجانب تقديم العروض البهلوانية، وغيرها في الساحات والحانات. فضلًا عن مواصلة الدراسة والقراءة المُعجمية، لاكتساب مزيد من الكلمات والمُصطلحات، ولغات جديدة. يتفتح وعيهما على الدمار والخراب من حولهما أثناء الحرب. وقبل كل شيء، انهيار الأخلاق عامة. الأم والجدة والأب والجارة، وصديقتهما فم الخطم، والضابط الأجنبي. الجميع، من دون استثناء، مُدان أو مُلوث، إنها أخلاق الحرب، المُدمرة للأشخاص قبل البيوت والبنايات، والماحية لكل طفولة والقاتلة لأي براءة. بعد مُدة، عادت الأم حاملة طفلة رضيعة أنجبتها، أمام منزل الجدة سقطت قذيفة، فمزقت جسدي الأم ورضيعتها. لاحقًا، يقوم لوكاس بإخراج الهيكلين العظميين لأمه والرضيعة، ويُعلّقهما بجوار سريره. فجأة، في نهاية الحرب يأتي والده، وبصحبة شقيقه التوأم يحاولان اجتياز الحدود. يُقتل الأب، وينجو الأخ. لينتهي هذا الجزء نهاية صادمة ومُحيرة ومُربكة جدًا.
بعد أيام أو أسابيع، في "البرهان"، يحمل الحرّاس جثة الأب الممزقة يضعونها أمام منزل الجدة. ينكر لوكاس معرفته بوالده، صاحب الجثة المُمزقة، ويواصل حياته بشكل طبيعي للغاية. يرى لوكاس صبية في الثامنة عشرة تحاول إغراق رضيعها في النهر، خلف منزل الجدة، فيأتي بهما الى المنزل. الصبية، ياسمين الجميلة، تروي للوكاس أنها يتيمة، توفيت أمها ساعة ولادتها. وحين عاد والدها من الحرب تزوج خالتها التي ربتها. لم يكن يحب خالتها. لم يكن يحبُّ سواها. أنجبت ابنها منه، وأسمته على اسمه. بخلاف ياسمين، نتعرف على شخصيات لكل منها قصة عجيبة. نتعرف على شخصية الكاهن المُدانة، رغم كل شيء. أيضًا، ماتياس الابن المشوّه لياسمين. فيكتور صاحب المكتبة الذي يبيعها للوكاس ليتفرغ للكتابة عند أخته التي تُسمم حياته، ما يدفعه إلى قتلها، في النهاية. كلارا، مسؤولة الكتب، التي تعيش تحت وطأة إعدام زوجها، ويعشقها كلاوس رغم فارق السن. شخصيات وأحداث ومواقف تدين الحكم الاشتراكي والحرب والاحتلال، والسلوك البشري، والإنسانية عامة، لكنها إدانات تلميحية، فنية جدًا، تتجنب أي خطابية، أو مُباشرة، أو افتعال.
مع نهاية "البرهان"، وفي "الكذبة الثالثة"، يعود كلاوس ليجد أن شقيقه لم يطق انتحار ماتياس ابن ياسمين الذي رباه، وقد اختفى. هل يعود كلاوس إلى البلدة نفسها؟ ينضح هذا الجزء بالغربة والاغتراب والانفصام، والذكريات والتذكر، واختلاط الماضي بالحاضر وبالأحلام وبالتخيلات. وأيضًا، بالبحث عن الماضي، ووجوه البشر والأسماء والحنين إلى الأماكن، ولِمَا كان. يحضر السجن والحبس والحدود والسفر والترحيل ومرض كلاوس الخطير للغاية. يتغير الأسلوب قليلًا، حيث تكثر الحوارات السريعة الرشيقة. يقل الوصف بعض الشيء، والجمل الطويلة، والفقرات. يزداد الغموض والتداخل الزمكاني. الأحداث المُسرودة تقع فحسب. تحدث من دون تبرير أو تفسير، ضمن سياق لاهث، لوقائع تتتابع وتتلاحق من دون ملل. قد لا نفهم بعضها على الإطلاق. مثلًا، لماذا يحتفظ لوكاس بهيكلين عظميين في بيته أحدهما لجدته، ثم يضيف لاحقًا الهيكل الخاص بالطفل ماتياس؟ ظاهريًا قد يبدو سلوكًا مَرَضيًا، لكن في الوقت نفسه يمكن تفسيره كنوع غريب أو شاذ من الارتباط، ورغبة في الاحتفاظ بمن نحب، حتى وإن وصل الحب حد الرعب.
في الثلاثية إجمالًا، وفي "الكذبة الثالثة" تحديدًا، بعد كل فقرة أو مقطع، يستحيل تمامًا توقع ما سيحدث، إلى درجة أن الثلاثية تنتهي من دون يقين تام بوجود توأم فعلًا. هل للشقيقين من وجود أصلًا، أو كانا شخصًا واحدًا، والآخر مجرد خيال اخترعه أحدهما؟ هل قتل التوأم أباهما فعلًا ليعبرا الحدود؟ هل عبر أحدهما وترك الآخر عمدًا لينتظره حتى يعود ويخبره بما وجده على الجانب الآخر؟ هل مات أو عاد يبحث عن شقيقه حقًا؟ هل التقيا في النهاية فعلًا قبل انتحار كلاوس تحت عجلات القطار؟ أو أن هذا كله محض خيال، أو أوهام، أو حتى كوابيس لذهن مريض كان نزيلًا لمستشفى أو لملجأ أثناء أو بعد الحرب؟ ففي ظل الحرب لا وجود للمنطق أو العقل أو المشاعر الطبيعية أو التصرفات المُتزنة، أو لبشر أسوياء. من هنا، نعاين كل هذا الجنون والاضطهاد والقسوة والقتل، وأيضًا السادية والأوديبية. وهي تجليات مرضية للحرب، والاحتلال، والقمع والاستبداد الأيديولوجي والسياسي، وحتى الديني.
لا تختلف الأجواء الباردة والمُوحشة لرواية "أمس" كثيرًا جدًا عن أجواء وشخصيات ومواقف وأحداث الثلاثية. وإن كان لـ"أمس" فرادتها وتميزها وقوتها وسحرها الخاص. فيها، نُعاين الفراق والغربة والاغتراب في حياة المُهاجرين عبر قصة الحب المُستحيلة بين طوبياس، عامل مصنع الساعات الفقير المُهاجر، ولينا حبيبة طفولته وابنة بلده المُغتربة، وقبل كل شيء، ابنة والده. في المجموعة القصصية "سيّان"، ونصوص "أينك يا ماتياس؟" نلاحظ الأسلوب التعبيري البسيط اللافت، واللغة السردية الإيحائية. ناهيك عن المفارقات السوداوية الواضحة، المُضحكة أحيانًا. إضافة إلى البنية الغرائبية لبعض النصوص، ذات الشخصيات الكافكاوية، التي تستدعي أحداثها كثيرًا من وقائع أدب العبث، أو اللامعقول.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.