}

المنفى في أفلام الفلسطيني مهدي فليفل

سينما المنفى في أفلام الفلسطيني مهدي فليفل
مهدي فليفل لدى نيله جائزة بمهرجان برلين (Getty, 2016)

كثيرون يصنعون الأفلام الوثائقية، لكن قليلين يُدركون طبيعتها ومُتطلباتها وجمالياتها وضروراتها، المُرتكزة في المقام الأول على تقديم الحقيقة والواقع بأقصى قدر مُمكن من الحياد والأمانة والمصداقية. والمُخرج الفلسطيني الشاب مهدي فليفل، مواليد 1979، من بين هؤلاء المُدركين لطبيعة السينما الوثائقية وأهميتها، بلا شك. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هل يستحق المُخرج الشاب وما أنجزه من أفلام، حتى الآن، أن يُكتب عنه كتاب؟ عالميًا، يُمكن تخصيص كُتيب أو كتاب أو حتى كتابة سِفر ضخم عن فيلم واحد فقط في مسيرة مُخرج، دون بقية أفلامه. لكن عربيًا، وبعيدًا عن مُعضلة نشر الكُتب السينمائية، النادرة أصلًا، تأليفًا أو ترجمة، يُعتبر الأمر جد صعب. وفي الأغلب يُعتبر من الغريب والمُستهجن أو غير المُحبذ الكتابة عن فيلم واحد أو حتى أفلام مُخرج غير معروف. ناهيك بكتاب عن مُخرج شاب، وقادم من عالم السينما الوثائقية، غير الجماهيرية أصلًا.

رغم ذلك، قد يستقيم الأمر في عالمنا العربي، لكن في حالات نادرة. مثلًا، ضمن إطار تكريمي أو احتفائي، خلال مُناسبة أو مهرجان ما. إذ، عادة، لا تصدر أغلب كتب السينما، في السنوات الأخيرة، إلا في المهرجانات. وهذا ينطبق على الكتاب الصادر حديثًا، "مهدي فليفل... سينما المنفى"، في مطبوعات "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، في 130 صفحة، للناقد أسامة عبد الفتاح. والكتاب لم يكن ليصدر، بلا شك، لولا تكريم المهرجان لفلسطين وغزة والمُقاومة، في دورته الـ25 لهذا العام 2024، مُمثلة في شخص المُخرج مهدي فليفل. وفليفل أحد أبرز شباب السينما الفلسطينية أصحاب المجهودات اللافتة، والمُستحق لصدور عمل رصين عنه، يتناول بالنقاش والتحليل والنقد أفلامه الوثائقية والروائية القصيرة المُتميزة. وهذا ما حَفَّزَ الناقد السينمائي والكاتب الصحافي أسامة عبد الفتاح، لإصدار أحدث كتبه النقدية عن مهدي فليفل.

ينقسم كتاب "مهدي فليفل... سينما المنفى" إلى قسمين رئيسيين، تندرج تحتهما مجموعة من الفصول، الطويلة أو القصيرة. القسم الأولى عبارة عن تحليل نقدي وسينمائي ونفسي وجمالي، وأحيانًا سياسي لسينما مهدي فليفل وأفلامه وعوالمه. كما يحتوي على توضيح وشرح لمشروعه الفني، ومدى أصالته، وما خلفه من رؤية وتأمل وفكر. إضافة إلى رصد مُراكمات المُخرج لفعل التصوير، وبناء الحكايات، وسرد القصص، واختيار الشخصيات، وتتبعها وتعقب حياتها. وغيرها من المُفردات أو التيمات المُميزة لعالم المُخرج، والمُشتركة في أغلب أفلامه.

في الفصل الأول يستعرض أسامة عبد الفتاح مسيرة المُخرج الخاصة. ثم يتطرق إلى مُناقشة الكلمة المفصلية الواردة في عنوان الكتاب، "المنفى"، مُحاولا الاقتراب من معناها، ومدلولاتها العامة والخاصة، في أفلام مهدي فليفل تحديدًا. وذلك، انطلاقًا مما ترتب على مأساة نفي الشعب الفلسطيني الذي لم يقترف أفراده أي إثم يستحق هذا العقاب. بداية من عام 1948، عام "النكبة"، وليس انتهاء بالتهجير في مُختلف المنافي الطوعية أو القسرية. من هنا، يُركز الناقد على نفي البشر بمفهومه الواسع، وما يترتب عليه من هموم ومُعاناة وتعقيدات، وغيرها الكثير، على مُختلف المستويات. وهذا كله، على حد تعبيره، بعيدًا عن المعنى السياسي المُباشر والمعروف لكلمة نفي ومنفى. إذ ينصب الاهتمام على آثار المنفى على الأفراد، ومُجريات حياتهم العادية. ومن هنا، يُعَوِّلُ الناقد كثيرًا على تأويل المنفى، ومدى مرونة الكلمة في استيعاب الكثير من الإحالات الذاتية جدًا أو العامة.

الكتاب لم يكن ليصدر لولا تكريم المهرجان لفلسطين وغزة والمُقاومة، في دورته الـ25 لهذا العام، مُمثلة في شخص المُخرج مهدي فليفل


بعد هذا، يرصد الناقد في الفصل الثاني، "خصائص وملامح"، سمات مفصلية وجوهرية للغاية في أفلام مهدي فليفل. مثلا، حضور المُخرج في الأفلام، سواء الجسدي أو الصوتي. وكذلك، التفاعل مع أبطاله. ما أتاح له بناء علاقات خاصة مع الشخصيات، خَوَّلَت له مُتابعتها وتتبعها على مدى سنوات ومراحل عمرية ومكانية مُختلفة. أيضًا، أن للقضية الفلسطينية حضورها، غير المُباشرة، من خلال عودة المُخرج المُتكررة إلى "النكبة"، (وحتى إطلاق "نكبة" على شركته للإنتاج السينمائي)، فهي السبب الرئيسي للشتات الفلسطيني الذي عانى منه وأسرته وعائلته الذين تفرقوا في مُخيم "عين الحلوة"، في لبنان، بعدما هُجِّروا، وغيرهم، من قريتهم "صفورية". ومن هنا، أيضًا، كان الحضور المُتكرر للبحث أو التفتيش عن الهوية والأصول، ومُحاولة العودة إلى الجذور، ومعنى ودلالة كلمة "وطن".

ويُلاحظ المُؤلف أنه انطلاقًا من عالم القضية الفلسطينية، تتعدد طرق التناول وأساليب الطرح والمُعالجة. مثلًا، فيما يخص الزعيم الفلسطييني التاريخي ياسر عرفات (1929 – 2004)، وموقف المُخرج منه ومن اتفاقية أوسلو. وبخلاف شخصية عرفات، يحضر وبقوة ليس القادة أو الساسة أو المُناضلين أو الأبطال الخارقين أو حتى العاديين، على حد قول المُؤلف، بل نموذج "البطل الضد"، المأزوم والمقهور، الذي لا يملك حلًا، لا لأزمته الشخصية ولا لأقرب الناس من حوله، ولا للقضية عامة.

ورغم الطبيعة المُتنوعة لأفلام مهدي، المُمعِنة في رصدها لشخصيات مهزومة ومُنسحبة ومُحطمة، إلا أنها، وصانِعها، أيضًا، وفقًا لأسامة عبد الفتاح "لا تُلقي الاتهامات جزافًا، ولا تُقيم مُحاكمات تُدين أحدًا بشكل قاطع مثل غيرها، بل تبدو، رغم كل شيء، ورغم حتى الحديث المُتكرر عن الموت، مُحبة للحياة ومُصِرة على مواصلتها". أما آخر المُلاحظات التي يرصدها في هذا الفصل، فتتوقف عند عدم اكتراث المُخرج كثيرًا بالجماليات البصرية التقليدية، كما هي الحال لدى الغير. وإن اختلف الأمر قليلا في الأفلام الروائية القصيرة، مُقارنة بالوثائقية.

يتوقف الفصل الثالث عند "الفيلم الأساس"، وفقًا للعنوان. ويُقصد به الوثائقي الطويل "عالم ليس لنا" (2012). والسبب أنه مفتاح تلقي أفلام المُخرج اللاحقة، و"يشهد تقديم أساسيات عالمه السينمائي، والقضايا التي تشغله، ومُوضوعاته المُفضلة، بل يشهد تقديم عدد من الشخصيات الرئيسية التي يتابعها في أفلامه التالية للوقوف على تطوراتها وتحويلاتها". ثم يتناول الناقد بالشرح مُفردات وجماليات وأهمية الفيلم الذي تدور أحداثه في مُخيم "عين الحلوة". وهو بمثابة "الوطن" أو "الجنة" بالنسبة للمُخرج، ومسقط رأسه، وبه الأهل والأصدقاء، و"بيته"، رغم إقامته واغترابه في بلاد كثيرة، وحصوله على جنسية بلجيكية. ومن بين ما يُؤسس له الفيلم، كما يرى الناقد، "حب مهدي للسينما، وتعلقه بها، وبداية حكايته معها... وكيف وقع في غرامها عندما كان في السابعة من عُمره".

وانطلاقًا من الطفولة في "عين الحلوة"، و"عالم ليس لنا"، يرصد الناقد تحت عنوان "الهجرة والعودة والواقع"، رُباعية المُخرج، كما أطلق عليها. إذ يضع الروائي الطويل "عالم ليس لنا"، على نفس المُستوى مع الأفلام القصيرة، "زينوس" (2014)، و"رجل عائد" (2016)، و"3 مخارج منطقية" (2020) لتُشَكِّلَ رباعية. وذلك لأسباب عديدة، ليس فقط بسبب وحدة الموضوع أو البطل، أو المكان أو المصير، والانطلاق من المُخيم والرجوع إليه، بل أيضًا لأسباب وجماليات وفنيات ومُشتركات أخرى يرصدها في هذا الفصل. أما الفصل الخامس، فيتوقف فيه أسامة عبد الفتاح أمام الفيلمين القصيرين، "عشرون سلامًا للسلام" (2014) و"وقَّعتُ على العَريضة" (2018)، بالشرح والتحليل. والأهم أنه يضعهما تحت عنوان "مواقف شخصية". وذلك لأنهما، على حد ذكره "... يجريان بعيدًا عن المُخيم، لكنهما يُصبان في بحر القضية الفلسطينية، ويعكسان ما يُمكن اعتباره موقفًا شخصيًا لمهدي فليفل من تلك القضية".

قبل ختام القسم الأول، يتوقف الناقد عند فيلم "رجل غارق" (2017)، في فصل بمفرده، بعنوان "الغرق الحقيقي". وذلك لأنه الفيلم الروائي القصير الوحيد للمُخرج في مسيرته الاحترافية، بعيدًا عن بدايته كهاو. يرصد الناقد جماليات الروائي القصير، وطبيعة اشتغال المخرج، بعيدًا عن عالمه الوثائقي، لكن دون أن يعرض لنا مُقارنة بين أساليب أو طرق أو فنيات الاشتغال. وإن كان واضحًا لنا أن العوالم، وتقريبًا الشخصيات، هي ذاتها.

يُكَرِّسُ أسامة عبد الفتاح القسم الثاني لمجموعة من الملاحق المُهمة، تُشكِّلُ إضافة أو تكلمة لما نقص في القسم الأول. مثلا، يبدو أن الناقد لم يستطع إجراء أي حوار شخصي مع المُخرج لأسباب مجهولة، ولكنه لم يتركنا دون أن نسمع صوت مهدي فليفل، وذلك من خلال تضمينه لحوارين، في أول فصل بقسم الملاحق، تحت عنوان "حواران مع مهدي فليفل". إضافة إلى إفساح الناقد المجال أمام رؤى وآراء وانطباعات مُختلفة، بأقلام كتاب ونقاد آخرين، تناولت سينما وأفلام مهدي فليفل، وقد أعاد نشرها تحت عنوان "آراء وشهادات". أيضًا، وهذا من الأمور اللافتة والذكية، والمُفيدة جدًا في "الفصل الثالث"، وتصبُ في قلب الكتاب إجمالا، والقسم الأول وسينما المُخرج بصفة خاصة، تضمين المُؤلف لشرح تفصيلي للطبيعة الجغرافية والديموغرافية والتاريخية والسياسية، وغيرها من التفاصيل المُهمة عن "مُخيم عين الحلوة". كذلك، في الفصل الرابع، وتحت عنوان "اتفاقية أوسلو"، أورد أهم النصوص أو البنود التي وردت في اتفاقية أوسلو. وذلك، قبل أن يختتم الكتاب بمحطات في حياة مهدي فليفل، ثم فيلموجرافيا المُخرج، والجوائز التي حصل عليها، والمهرجانات التي شارك فيها بأفلامه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.