}

لاسلو كراسناهوركاي: الفوضى والخراب يؤسسان العالم

تغطيات لاسلو كراسناهوركاي: الفوضى والخراب يؤسسان العالم
لاسلو كراسناهوركاي (Getty)


يُعتبر اسم لاسلو كراسناهوركاي جديدًا بعض الشيء على القارئ العربي، رغم مكانته الأدبية الراسخة عالميًا، وأعماله كسيناريست مُحترف قدم للسينما روائع كبيرة، بالاشتراك مع مواطنه المجري بيلا تار، أبرزها "تانغو الشيطان"، عن روايته "تانغو الخراب"، و"تناغمات فيركمايستير"، عن روايته "كآبة المُقاومة".

ولد لاسلو في 5 كانون الثاني/ يناير عام 1954 في مدينة جيولا في المجر، قبل عامين من دخول القوات السوفياتية إلى بودابست. درس الحقوق واللغة المجرية وآدابها، وبعد تخرجه عمل صحافيًا وناقدًا أدبيًا لفترة قبل مُغادرته المجر عام 1987، ليُقيم في برلين الغربية لفترات طويلة. كما تنقل بين عدة دول، منها منغوليا والصين واليابان، وأميركا واليونان وإسبانيا، قبل عودته مؤخرًا للاستقرار في بلده. وقد تأثرت نشأة لاسلو بفترة الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي عصفت بأوروبا الشرقية، وفترة الحُكم الشيوعي، ثم انهيار الشيوعية، وقد تجلى هذا بشدة في كتاباته.

تُرجمت أعمال كراسناهوركاي إلى أكثر من 30 لغة، وأشاد بها النقاد في جميع أنحاء العالم. وفازت بجوائز عديدة، بما في ذلك جائزة "كوسوث"، وهي أرقى جائزة أدبية في المجر، وجائزة "مان بوكر الدولية" لعام 2015 عن أعماله، وهو أول مجري يفوز بها. وكان آخر ما حصل عليه، "جائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي" في عام 2021. في رصيد الكاتب 8 روايات طويلة، و5 روايات قصيرة، إضافة إلى مجموعتين قصصيتين، وعشرات التأملات والمقالات النقدية، و6 سيناريوهات، كان آخرها، "رجل من لندن" و"حصان تورينو" مع بيلا تار. ورغم رصيده الضخم هذا، لكن لم يُنقل منه إلى العربية غير "تانغو الخراب" (2016)، و"كآبة المُقاومة"، (2020). وصدرتا عن دار التنوير، للمُترجم الدؤوب الحارث النبهان.

أسلوب كراسناهوركاي

تتميز كتابات كراسناهوركاي بفقرات تمتد لصفحات، ذات جُمل طويلة مُتدفقة، فيما يُشبه أسلوب الفرنسي مارسيل بروست. وتوظيفه للتكرار، ولمُفرادت ولغة وتراكيب وجُمل اعتراضية مُربكة، بعض الشيء. إضافة إلى خلو جُملِهِ من علامات الترقيم التقليدية. جمله الطويلة المُتعرجة تخلق تحديًا إما أن يجذب القارئ أو يُنفِّرُهُ. رواياته ذات بنية متاهية بعض الشيء، وللعمل أكثر من قراءة. رمزية سياسية، واجتماعية، ونفسية، وطبعًا فلسفية. ما يُصَعِّبُ عملية القراءة، خاصة في ضوء الطبيعة القاسية لمُوضوعاته وشخصياته المُركبة. من هنا، فإن أعمال لاسلو ليست يسيرة القراءة. مُتطلبة لتفاعل القارئ وليس استسلامه، وللكثير من الصبر والتركيز وإعمال الفكر، للخروج بأكبر قدر من التشويق والمُتعة. وقد جرت مُقارنة أدب كرسناهوركاي وعوالمه وأسلوبه بكتاب أوروبيين آخرين مثل فرانز كافكا، وصامويل بيكيت، وتوماس بيرنهارد، وإلفريدا يلينك. كما قاربت الناقدة سوزان سونتاج بين عوالمه والروسي نيقولاي غوغول، ونفس الشيء قاله عنه الأديب الألماني البارز ف. جي زيبالد.

عالمه الفكري

في العملين الرئيسيين، "تانغو الخراب" و"كآبة المُقاومة"، نُعاين المخاض العسير لحاضر مُلتاث، جد مُتعثر وجامد في تكونه، نظرًا لارتباطه اللصيق بماض عقيم، يتعذر الفكاك منه. ومن هنا، تطرح أعمال كراسناهوركاي، دائمًا، أسئلة فلسفية عميقة تستكشف موضوعات وجودية بالأساس، تخص الماضي والحاضر والمستقبل، الاغتراب والعُنف والسُلطوية وعبثية الحياة. وذلك برؤى مُغايرة، وتعمق حقيقي في ماهية الزمن، وبحث أصيل في الحالة الإنسانية، عبر شخصيات حقيقية، مُركبة، رغم بساطتها، تتصارع في عالم مُتقلب وكئيب وبائس، يعصف بها. نُعاينها عبر رصد دقيق جدًا لتفاصيل حياتها اليومية التافهة البائسة فعلا. ورغم هذا، فشخصياته مسكونة بقلق دائم، مُتجذر بشدة في أعماقها، يُسمم حياتها. ولذا، عادة ما تلجأ إلى سلوكيات ارتكانية أو خنوعية أو إلى الغيبيات أو الانخراط في أعمال فوضوية تخريبية. ثم سُرعان ما تتعايش، مُجددًا، مع البؤس المُقيم، عوضًا عن سعيها للتحرر منه أو التمرد عليه للأبد. ومن هنا تبرز جليا جدًا، من خلال شخصياته وأحداث رواياته، ثُنائيات كثيرة، على رأسها، الفرد والقطيع.

أيضًا، لا يكاد يخلو عمل ضخم لكراسناهوركاي من فكرة أو شخصية المُخلص أو المُنقذ، وانتظار البشر له ولِقُدُومِه، أو لأي تدخل خارجي كان. ولهذا صلة جد عميقة، ليس فقط بمُعضلة الإنسان الوجودية كفرد وحيد، بل تمتد أيضًا إلى موضوع هويته، بكل أبعادها. مع التركيز، خاصة، على الهوية المجرية، وتحديدًا، بعد التحولات السياسية وتبدل الأنظمة، والاضطرابات العنيفة التي مرت بأوروبا الشرقية عامة، وببلاده خاصة. والمثير أنه رغم الغرق المحض لأعماله في المحلية، إلا أنها تتخطى بسهولة وبراعة وذكاء الحدود الثقافية، لتتحدث عن التجربة الإنسانية عامة، وتمس أعماق البشر في كل مكان.


خراب وكآبة

في الروايتين، "تانغو الخراب" و"كآبة المُقاومة"، نُعاين الخراب المُقيم، ونُذر الفوضى العارمة، والكآبة الجاثمة في كل مكان، حتى الطقس المُوحِل لكل شيء، ناهيك برائحة القمامة والروث والعفن الضاربة في الأرجاء، وانتشار القوارض والحيوانات البرية، والملابس الرثة أو البالية، واللحى المُستطالة والشوارب الكثة والوجوه الكالحة، الأجسام الضامرة، وإفراط الأغلبية في الشراب، وكأن هذه هي الحالة الطبيعية التي عليها الواقع، والإنسان المجري المُعاصر خاصة، وفقًا لرؤية وتصور الكاتب.

في العملين نرى الواقع ممسوخًا، والخراب يطغى على كل شيء، والشخصيات يسكنها العجز والقلق والخوف من المستقبل. إنها، بلا شك، فترات ما بعد انهيار الشيوعية في البلاد. يترافق هذا مع حركات تمرد، وسيادة للفوضى، وانعدام للنظام والأمن، وضياع للقيم، وتفسخ اجتماعي، وانهيار نفسي واقتصادي. من هنا، لم ينج السرد من قسوة وعنف وسوداوية رهيبة، خالية من كل بهجة. وفوق ذلك، تزخر بلحظات تدميرية صادمة. وينطبق هذا على الأبطال الرئيسيين، والشخصيات الثانوية، أيضًا. فهي عاجزة، في الأغلب، عن التفكير القويم، مسلوبة الإرادة والفعل، وعاجزة عن الحركة أيضًا، إلا في اتجاه المُشاركة في التدمير والتخريب والهدم، أو، في أفضل الأحوال، اعتزال كل شيء، والعزوف عن الحياة برُمتها. وهذا يتماشى ويتطابق وصميم عدمية عامة تلف كل شيء، وضبابية رؤية، وعبثية أو سريالية واقع، وكآبة مُستقبل.

في تُحفته "تانغو الخراب"، نُعاين بنية دائرية بالغة الإحكام، إذ تنقسم الرواية إلى اثني عشر فصلًا، على جزأين. كل جزء ستة فصول ذات عناوين وأرقام، وكل فصل في 30 صفحة، تقريبًا. أما أرقام الفصول، فذات تسلسل تصاعدي في الجزء الأول، وتنازلي في الجزء الثاني. بينما البنية فضفاضة، بعض الشيء، في "كآبة المقاومة". إذ تتكون من تمهيد في 80 صفحة، ومتن يقترب من 260 صفحة، وخاتمة في 40 صفحة، تقريبًا، من دون فصول أو فقرات أو فواصل، مع جُمل اعتراضية كثيرة مُكثفة. وفقرات مُمتدة، تتطلب اهتمامًا دقيقًا وتركيزًا بالغًا. قد تكون اللغة صعبة بعض الشيء، إلا أنها تتحدى القارئ فعلًا وتدخله في تجربة مُشبعة حقًا. وذلك على عكس سهولة اللغة والقراءة، إجمالا، في "تانغو الخراب"، التي لا يستطرد الكاتب فيها. عكس بعض الأماكن في "كآبة المُقاومة". حيث يطرح ويُناقش وجهات نظر فلسفية، وحتى علمية، قد لا تعني بعض القراء وتُستنفد صبر أغلبهم. سيما وأن التدفق السردي يتعطل، وتصير الأحداث جانبية، ويتباطأ تصاعد الحكاية. وقد تجلى هذا بشكل خاص في الخاتمة.

إن "تانغو الشيطان" ساحرة فعلًا، بلا أي مُبالغة، رغم قتامتها البالغة. عالمها جد مُفرط الغرابة، تتبدى فيه السوداوية أو حتى العدمية في أجلى صورة. رواية على قدر كبير من الغموض والتركيب والتعقيد والحيرة. رغم أن كل أحداثها وشخصياتها في غاية السهولة والوضوح والبساطة، ولا تنطوي على مناطق لبس أو إرباك أو وعورة، إلا نادرًا. فيها، نتعرف على الشخصية الرئيسة المُهيمنة على أهل القرية البسطاء، "إريمياس". هل يضطلع بدور الشيطان أم المُخلص في الرواية؟ أو هو محض استعارة رمزية سياسية، لا دينية، لزعيم أو قائد أو رئيس؟ أيًا كان، وبصرف النظر عن كنهه، فقد انتهى به الأمر على يد لاسلو كريسناهوركاي، إلى رجل عادي أو أقل. يُمكن بسهولة تقويض هالته واعتباره مُجرد مُحتال أو نصاب، دون أدنى تردد أو افتراء عليه. نتبين لاحقًا، في الفصل الأول من الجزء الثاني، الذي هو بمثابة خطبة عصماء ذات مسحة دينية، أن "إريمياس" يبيعهم رسائل أمل كاذبة قطعًا، وسيقود مصائرهم إلى نهاية غامضة، إن لم تكن فاجعة. وبغض النظر عما تُمثله شخصيته، فإننا، دون شك، لسنا بصدد نفس الحيرة إزاء شخصية صديقه وصنوه "بيترينا". ولا حتى بقية أفراد الرواية، وهم أقل من عاديين. يُمكننا أن نلتقيهم في أي مُجتمع كان. تلك الطينة العريضة السائدة، السادرة في أحلامها أو أوهامها البسيطة، القابلة للتحقق واقعيًا بمجهودات بسيطة. لكنها، أيضًا، شخصيات عاجزة، وخالية من أي إرادة تدفعها للفعل أو الانطلاق، وبالأخص نحو الحرية والتحرر.

أيضًا، وسط الحضور القوي لانتفاء أي معنى للعالم أو الحياة في القرية، نجد أفراد الرواية عبارة عن زُمرة فقدت الأمل في أي مُستقبل أو حتى مجرد الثورة على واقعهم ومُحاولة تغييره أو التفكير في نبذه. فكرة الابتعاد والذهاب إلى المدينة مُجرد حلم يراود البعض، ولا يقوى البعض الآخر على تنفيذه أو تحقيقه. وحتى، عند التدبير بليل، يفشل "فوتاكي" و"شميدت" وزوجة شميدت في خطتهم، وفي الفرار بالمال، بعد اقتسامه، لوقوف الأقدار أو الحظ العاثر لهم بالمرصاد. يتساوى معهم في هذا الوضع الإذعاني المُنحط، الشخص الأكثر علمًا ودراية ودراسة وثقافة، أي الطبيب. ورغم أنه يبغضهم، ويكن لهم كل القرف والاشمئزاز الذي يمكن أن يمحضه أدنى مخلوق لبشر، لكنه لا يقل عنهم، إن لم يفقهم، سوءًا وضحالة وعدمية واستسلامًا، وأيضًا، تجسيدًا لتفاهة الوجود البشري.

من هنا، نجد أن شخصيات "تانغو الشيطان"، غائبة، بسبب الانتظار. ليست غائبة فقط عن شيء أو حدث ما، بل أيضًا غائبة عن ذواتها، وبالطبع عن الحياة برمتها. تعيش تلك الشخصيات شبه البشرية في مُحيط لا يقل عنها تفككًا وانهيارًا وخرابًا، في شبه قرية معزولة، كانت عامرة ومزدهرة سابقًا، وكل ما فيها الآن مُتعطل أو خرب أو في سبيله للتهدم، تمامًا كأرواح الشخصيات القليلة الباقية بها. قرية أشبه جدًا بالتجمعات التعاونية الزراعية الاشتراكية، العائدة لأيام الفترة الشيوعية في أوروبا، وفي المجر تحديدًا، حيث تدور الأحداث. لكن الأمر أيضًا غير واضح بهذه البساطة، فبراعة الكاتب، التي نلمسها في فصول الرواية كلها، وحذاقته في تضفير الحبكة بخيوط عديدة، جعلتها تبدو، في أوقات كثيرة، وكأنها لا تنتمي لأي زمان أو مكان على وجه التحديد، فالأجواء تبدو أميل للحدوث في الماضي الموغل في البعد، ربما القرون الوسطى، بمسحة دينية لا تغفلها العين. لكنها، في الوقت ذاته، تضرب بجذورها أيضًا في أعماق القرن الماضي، دون تحديد زمني. وكلما ألفنا عتاقة الأحداث والأجواء والتصرفات والشخصيات وغيرها، تأتي كلمة أو صورة أو مشهد، لتذكرنا ثانية بأننا في القرن العشرين، حيث تتواجد الشرطة والتليفونات والسيارات وحتى التلفزيون.

في "كآبة المُقاومة" ننتقل من القرية إلى فضاء أرحب قليلًا. إذ يُصوِّرُ الكاتب سلسلة من الأحداث الغامضة في مدينة مجرية مجهولة، تبدأ مع وصول سيرك مُتنقل يعرض حوتًا مُحنطًا هو الأضخم في العالم، فيثير وصوله شائعات غريبة، وتسري أقاويل تزعم أن للعاملين في السيرك غايات سرية خفية. وكما ظهرت شخصية إريمياس اللافتة في "تانغو الخراب"، تبرز مع قدوم السيرك، شخصية الأمير المجهول، الحاضر الغائب. كذلك شخصية السيدة إزتر القاسية والمُتسلطة والمُدعية تخليص المدينة من موجة الدمار والخراب والفوضى التي ضربت أركانها. من ناحية أخرى، يشبه الطبيب في "تانغو الخراب" إلى حد كبير، السيدة إزتر، في "كآبة المقاومة"، الغارق في تحليلاته وبحثه المُوسيقي، بعدما أدرك فشله في إمكانية إصلاح العالم من خلال المُوسيقى. ما جعله ينسحب أمام الغباء المُحزن والجنون المُطبق للعالم والبشر. وعلى النحو الذي تتبدى به وتتجلى نهايات مأساوية مُتعددة في "تانغو الخراب"، مثل الانتحار المُفجع للطفلة "إيستي"، ونفزع لمقتل السيدة بلوف الطيبة والدة فالوشكا في "كآبة المقاومة".

بيلا تار وملصقان من أفلامه مع لاسلو كراسناهوركاي (صورة تار: Getty)


فيلمان

قالت سوزان سونتاج عن فيلم "تانغو الشيطان": "سأسعد دائمًا لو شاهدته مرة كل عام، طيلة حياتي". بعد قراءة الرواية، وإعادة مُشاهدة الفيلم، تبين الفارق الكبير أو الهوة الواسعة بين الوسيط الأدبي والسينمائي فيما يتعلق بهذا العمل، واتضحت فرادة عوالمهما الشديدة الخصوصية. ورغم إعجابي الشديد بالفيلم، وإدراكي لطبيعة التعبير في الوسيطين ومفرداتهما وأدواتهما، أميل بشدة إلى الرواية وقوتها وعمقها، والكثير من أجوائها، رغم الاعتراف بصعوبة نجاح أي سينمائي في مُضاهاتها أو نقلها البصري الأمين إلى الشاشة. وأجدني أعزو قوة الفيلم بالأساس إلى قوة الرواية، فهي التي حملت الفيلم وحلقت به وليس العكس.

الغريب أن كراسناهوركاي تخلى قليلًا عند كتابته لسيناريو الفيلم عن طريقته الدائرية في بناء الرواية، واكتفى بمُحاكاتها في الفيلم. ورغم سهولة التنفيذ، استعانة بالمُونتاج، لكن النتيجة النهائية على الشاشة، ورغم الاجتهاد، لم تكن بنفس قوة بنية الرواية. إذ أن بنية الفيلم اتخذت إلى حد كبير النمط الخطي التصاعدي. في حين حاكى الفيلم الرواية بخصوص خط سير الأحداث والوقائع، دون حياد، إلا فيما ندر. ومع ذلك، اجتهد لاسلو وتار في مُقاربة الرواية إلى حد بعيد، لدرجة مُحاكاة الفصول وعناوينها، والحفاظ على الطابع الزمني لكل فصل، وجعلها مُتساوية قدر الإمكان – تقريبًا من 40 إلى 50 دقيقة لكل منها. ما أدى لامتداد زمن الفيلم لأكثر من سبع ساعات.

الأمر نفسه تقريبًا ينطبق على بناء الشخصيات، التي حافظ عليها الفيلم تمامًا. ورغم أنها بدت شخصيات من لحم ودم حقًا، لكنها لم تكن على الشاشة بنفس العمق والقوة كما في الرواية، ولم يستطع تار سبر أغوارها بصريًا كما فعل لاسلو أدبيًا. مع الأخذ في الاعتبار أنه، في النهاية، مهما بلغت موهبة وبراعة لاسلو، لن تستطيع كلماته أن ترسم، كما الصورة، مشاهد المنازل والطرقات والحقول والخراب بالمكان. ناهيك بالمطر المُنهمر والطين والرياح وهبوب العواصف، وبرودة الطقس الصقيعية، وملابس الشخصيات الملطخة بالأوحال. باختصار، كل ما يتعلق بطبيعة المكان وشخصياته، والتي تفوق فيها تار بصريًا بامتياز، لدرجة أنك تكاد فعلا تشم رائحة الخراب في كل تفصيلة بالفيلم، حتى رائحة المطر والعطن والعفن بالبيوت، والوحل والأوساخ في المنطقة. وقبلها قذارة الأجساد، وربما حتى فساد وخراب الأنفس، التي تنسحب عليها كل الأوصاف السابقة.

أيضًا، من بين النقاط المُتفردة التي تُحسب لتار، دون شك، والتي تُعزى بالأساس لأسلوبه المُتفرد والأصيل، تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، والموسيقى التصويرية شبه الجنائزية المُميزة، والمُتكررة، على امتداد مشاهد كثيرة بالفيلم لدرجة يصعب نسيانها حقًا. كذلك، لم يكن غريبًا سيادة اللقطات المُفرطة الطول، منذ افتتاحية الفيلم التي استمرت لتسع دقائق تقريبًا، وغلب عليها الصمت والسكون. كذلك، لقطات التتبع أو التعقب المُفرطة الطول، المأخوذة من الخلف أو الأمام، والتي يستحيل فعلًا أن تمحى من الذاكرة. هذا إلى جانب جميع أنواع اللقطات الأخرى التي وظفها تار ببراعة، وفقًا لطبيعة وحاجة كل مشهد. ناهيك بتوظيفه الدائم بذكاء واحترافية للإضاءة الطبيعية، وعدم اللجوء للإضاءة الاصطناعية، إلا في مشاهد جد قليلة، مثل مشهد الحانة، وقت رقصة التانغو في مُنتصف الليل. والمثير أن الفيلم ينتهي بنهاية مُختلفة قليلًا، وإن كانت قوية عن خاتمة الرواية. خاتمة أغلقت قوسي البداية بخبرة واحترافية.

يُشير عنوان الفيلم، "تناغمات فيركمايستر" إلى العازف والمُنظر والملحن الألماني من القرن السابع عشر، أندرياس فيركمايستر الذي اكتشف التناغمات المُتنافرة التي تنشأ عند ضبط البيانو بطريقة مُتساوية، والمشهور بفرادته في أنظمة الضبط الموسيقية وغيرها. هذا الارتباط بالموسيقى، والإحالة إلى التناغمات وتنافرها، مُتأصل بعمق في الفيلم، أكثر من الرواية بالطبع. إذ برع تار في نسج وتنسيق وعزف سيمفونية من الصور والأصوات والأنغام تزامن صداها وموضوعات وجودية وفلسفية عميقة ومُثيرة، ما عزَّزَ شمولية تُحفته الفنية المُكثفة.

رغم غموض "تناغمات فيركمايستر" واقتضابه، إلا أنه يأسر الروح بجماليات التقشف الشديد التي عليها، وضبابية خيوطه القليلة، وفقر الأجواء، وكآبتها وعنفها. ويدفع إلى البحث والتأمل، الفلسفي والاجتماعي، وطبعًا، السياسي والنفسي، بمُنتهى العمق والجدية، لمُحاولة استكشاف ما حدث لأهل هذه البلدة المجرية المجهولة، بعدما وصلتهم تلك الشاحنة الغامضة، وعلى متنها ذلك الحوت الأضخم في العالم، والسيرك المُريب، وشخصية الأمير المجهولة، فانقلبت الحياة كلية، وانتاب السكان الفزع وأصيبوا برهاب جنوني، أخرج أسوأ ما فيهم، وعجَّلَ بانهيار النسيج الاجتماعي الهش أصلًا.

إن أسلوب تار المُميز واللافت دائمًا، حيث الإيقاع البطيء المُتمهل والمشاهد الطويلة التي تستغرق غالبًا أكثر من عشر دقائق والحضور البارز للموسيقى الغريبة والأجواء غير المألوفة، خلق إيقاعات تناغمية تتكامل وأجواء الفيلم التأملية. وخلق إحساسًا بالعمق والأصالة، مما يسمح للمُشاهد بالانغماس الكامل في أجواء الفيلم وعوالمه الغريبة. يُعمق من هذا حركة الكاميرا، غير المُعتادة، المُتعمدة والمحسوبة جدًا، لتوجيه المُشاهد صوب اضطراب الشخصيات وانعكاس هذا على أفعالها وحركاتهم. كذلك، التصوير السينمائي بالأبيض والأسود، المُعزز للغموض والضبابية، والمُتجانس والطبيعة الرمادية الثلجية للقطس القارس، والمُؤكد على عبثية ما نراه بالفيلم، ويزيد انفصام الأحداث عن أي واقع مقبول. في قلب الفيلم، يكمن استكشاف مدى ضياع الوجود الإنساني، وإلى أي حد بلغ الاغتراب وخيبة الأمل، وانتفى البحث عن المعنى في عالم قِوامه الفوضى، رغم الهدوء النسبي والفراغ الظاهري لشوارع البلدة والمُتناقضين وما يعتمل فيها من فوضى واضطرابات وثورة باطنية، سُرعان ما تخرج إلى السطح.

المؤكد أن "تناغمات فيركمايستر" ليس فيلمًا عاديًا للمُشاهد المُحترف، ناهيك بالعادي. طبعًا، ليس بنفس طول "تانغو الشيطان" وبنيته، لكنه من نفس النسيج. إذ تتحدى وتيرته البطيئة، وطبيعته التأملية، أغلب المُشاهدين، لكن بالنسبة للراغبين في مُعاينة هذه الإيقاعات، يُقدم الفيلم تجربة سينمائية عميقة ومُجزية، وسيمفونية سينمائية للظلام والجمال، وتُحفة تتجاوز السرد التقليدي، ورحلة ساحرة وغامضة إلى أعماق الوجود الإنساني، وتجربة مُؤرقة ومُذهلة بصريًا. ورغم أن الفيلم أكثر تكثيفًا وصرامة وتقشفًا من الرواية، ورغم غموض الأحداث وابتسار الشخصيات وخلفياتها، مُقارنة بالرواية، ذات الشخصيات العميقة المُتعددة الأبعاد في مقابل الفيلم المُتمحور بالأساس حول شخصية الشاب الطيب الحالم فالوشكا، إلا أن بنية الفيلم، مُقارنة بالرواية، أكثر إحكامًا وأجمل وأسرع وأكثر تشويقًا من حيث الإيقاع. ورغم كون الفيلم شهادة على جماليات السرد السينمائي المُغايرة، وبراعة ضبط الإيقاع، وعبقرية التصوير والأداء، إلا أن الرواية، رغم متاعبها، ذات بناء خاص مُتميز، سيما رسم الشخصيات، وأعماقها، وخلفياتها النفسية والاجتماعية، وجماليات مشاهد كثيرة حُذفت من الفيلم، أو قُدِّمَت باختزال واقتضاب، ما أفقدها الكثير من مُبرراتها وأضعف جمالياتها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.