}

في مقاربة العلاج بالمعنى

سارة عابدين 2 أغسطس 2023

 

يميل البشر الذين يعانون لوقت طويل إلى الشعور باليأس والفشل، ويبحثون عن طريقة لتسكين آلامهم وعن قوى عظمى يلجأون إليها أيًا كان توجههم الديني والعقائدي، حيث أن الأوقات الصعبة تدفع الإنسان إلى التساؤل عن معنى حياته والهدف من وجوده والغاية من معاناته. يعتبر كتاب "إله اللا شعور- الإنسان والبحث عن المعنى النهائي" لطبيب الأعصاب النمساوي فيكتور فرانكل مفيدًا خلال تلك الأوقات وقد يجد المرء طريقة لتفكيك مشاعر الاكتئاب إذا قرأ الكتاب بتمعن. هناك الكثير من الكتب التي تعدنا بحياة أجمل أو ثروة أكبر أو أصدقاء أكثر بعد قراءتها، لكنها لا تؤثر في القارئ بالفعل بسبب سطحية محتواها ولعب كتابها على العناوين الجذابة بعيدا عن التجربة الحياتية الحقيقية، ولكن كتاب "إله اللاشعور" لفرانكل نتج عن تجربة حياتية صعبة عاشها المؤلف بعد نجاته من الهولوكوست، ثم اعتقاله في معسكر اعتقال في بولندا.

أسس فيكتور فرانكل ما يرقى إلى مدرسة من مدارس العلاج النفسي، يسميها العلاج بالمعنى "Logotherapy". وجوهر فكر فرانكل يقوم على روحانية الإنسان الموجودة في اللاوعي أو الروحانية العفوية. تعد مدرسته للعلاج النفسي المدرسة الثالثة للعلاج النفسي بعد المدرسة الأولى لسيغموند فرويد، والمدرسة الثانية لألفريد أدلر، لكنه اختلف مع فرويد الذي أسس لفكرة أن اللاوعي الإنساني هو "خزان الغرائز المكبوتة" واستسلم التحليل النفسي للموضوعية، ما تسبب من وجهة نظر فرانكل في تشييء الذات واختزال الشخصية في شيء يشبه الآلة التي هي بحاجة إلى خبير تقني لتفكيكها والذي يمثله الطبيب أو المحلل النفسي. وفقا لفرانكل فإن أفعال الإنسان هي رد فعل على المواقف الوجودية بدلًا من كونها دوافع غريزية، والحياة ومواقفها هي التي تحدد ما سيكون عليه المرء، ورغم أن رحلة الإنسان قد تنطوي على ضغوط مختلفة إلا أن استجابته لهذه الضغوط هي استجابات شخصية ومستقلة، ولا تشبه روحانية دكتور فرانكل اللاوعي الجمعي الذي وصفه يونغ.

الفلسفة واللاهوت والنفس الإنسانية

يأخذنا فرانكل في رحلة نحو فهم وجود الإله داخل الإنسان، حيث يرى أن وجود الإله بداخل الإنسان على اختلاف العقائد يساعد على النمو الروحي والتحقق الذاتي. ويرى الكاتب أن البحث عن معنى الحياة والغاية منها هو الهدف الأساسي من وجود البشر، ويتجلى هذا البحث من خلال العمل والحب وتحمّل الصعاب وتحقيق الأهداف، ويقدّم فرانكل من خلال تجاربه الشخصية وبعض القصص الواقعية مثالًا لهذا المفهوم وتوضيح طرق تطبيقه في حياتنا اليومية، من خلال الحرية والمسؤولية. يعتقد فرانكل أن الإنسان لديه القدرة على اختيار استجابته للظروف والتحديات التي يواجهها وبالتالي فهو يتحمل مسؤولية حياته واتجاهها، ويشدد على أننا يمكننا تغيير اتجاهاتنا وتفسيراتنا للأحداث، ما يؤثر في تعاطينا معها واستفادتنا منها، ويقر التحليل الوجودي لفرانكل بأن المسؤولية هي جوهر الوجود والروحانية، وكلمة روحانية في هذا الكتاب تعني كل ما هو إنساني، وما في وعي الإنسان من وجهة نظر فرانكل الوجودية ليس الدوافع الغريزية ولا دوافع الـ هو أو الـ أنا، بل دوافع الذات التي تعي هويتها وتتسق مع نفسها.

فيكتور فرانكل  (Getty)


الضمير الإنساني واللاشعور

يعتبر الضمير جزءًا متأصلًا في الإنسان لا شعوريًا وهو فهم قبل أخلاقي للمعنى يسبق أي فهم آخر ولا يرتبط بالأخلاق، وهو الاستجابة الإنسانية للرسائل الحياتية، وعند الحوار معه يدرك الإنسان ما يحظر عليه القيام به، لذا لا يمكن تفسير الضمير من الناحية النفسية وفقًا لفرانكل، حيث يراه فرانكل سمة متأصلة في تكوين الإنسان، وهو الصوت والإحساس الداخلي بما يجب أن يفعله المرء في لحظة معينة وهو الذي نكتشف من خلاله أننا ننمو ونصبح أفضل مما كنا على الرغم من أن هذه النظرة قد تنطوي على بعض المعاناة والتهميش لاحتياجاتنا الأساسية.

يرى فرانكل أن استيعاب تفردنا الشخصي والحياتي يساعدنا على تحقيق المعنى، ولا شيء يختبر قدرتنا على إيجاد المعنى في الحياة أكثر من المعاناة والمأساة، وفي هذه الظروف لا يتبقى للإنسان من معاني الحرية سوى الموقف الذي يختاره تجاه عذابه وآلامه، ويقدم الضمير كوسيلة لإيجاد ذلك المعنى المراوغ الذي يمكن أن يبدو مستحيلا وبعيدا عن اللحظات الصعبة، لكنه في النهاية هو ما يشكل خيطا فريدا يسمى "حياة الإنسان". هذا الإحساس بالاختيار ومعرفة الصواب والخطأ هو نبضات روحية أو غريزة أخلاقية ولذلك يعتبرها فرانكل مرادفًا للنضال الروحي الوجودي.

من خلال مفهوم اللاوعي الروحي توصل فرانكل أيضًا إلى نمط خاص في تفسير الأحلام يمكن أن يكون منطقيًا أكثر من القراءات الغامضة للرؤى الليلية في نظرية فرويد، حيث يرى أن الأحلام لا تتعلق بتحقيق الرغبات أو حتى الرغبات الجنسية المكبوتة، لكنه ينظر إليها كوسيلة من وسائل الكشف عن اللاوعي الروحي، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بدور الضمير في حياتنا الروحية، واعتبرها مثل فأل أو رسالة تساعدنا على التطور الروحي. وأكد فرانكل أن الوصول إلى مثل هذه المعاني العميقة يتطلب علم نفس جديدًا يبتعد عن التركيز على الدوافع والتكيف الاجتماعي وينظر إلى المعاني الروحية التي يطمح إليها البشر. ويجب أن يفهم اللاوعي الروحي على أنه جانب أسمى من الذات الإنسانية، وسمة شخصية وفريدة، وأكد أن ضمير شخص ما بالخطأ والصواب يمكن أن يتعارض مع ما يراه شخص آخر، كما أن ارتباط الضمير بالمسؤولية أمام الله، وبالتالي فهو ذو أهمية وجودية عميقة.


التدين اللاشعوري

ميّز فرانكل ثلاثة أبعاد تشكل بنية الشخص وهي الجسم والنفس والروح، يشكل الأولان معًا البنية النفسية والجسدية للفرد، أما البعد الثالث فيرتبط بالجوانب التي تتجاوز السيكوسوماتيك. ويرى أن الجسد لا دخل لنا بتشكيله، بينما ما هو نفسي يمكننا تعلمه، وما هو روحاني ينضج ويتسامى على مدار حياة الفرد، ليشكل جوهر النفس البشرية. يحدد الجسد من خلال الميراث البيولوجي، بحيث يجد الإنسان نفسه في جسد لم يختاره، ويرتبط هذا الجسد بطريقة الحياة والتعبير عن الوجود وليس بالوجود نفسه، وإحدى سمات الوجود البشري هي سموه، أي أن يتجاوز الإنسان بيئته نحو العالم الأعلى، وكلما تجاوز الإنسان نفسه بهذه الطريقة ارتفع فوق المستوى الجسدي والنفسي ودخل عالم الإنسان الحقيقي.

اعتبر فرانكل أن التدين بأي صورة يوفر للشخص ملجأ من المواقف الصعبة والمأساوية في الحياة، وعلى الرغم من أن التحليل الوجودي لفرانكل لا يمكنه الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بانتهاء الوجود البشري خاصة تلك المتعلقة بالأديان إلا أنه يوجه الشخص نحو الأسئلة الدينية لأن هدفه الأساسي يتوافق مع ما يقود الإنسان إلى الدين. بالنسبة لفرانكل لا يمكن الحديث عن الإنسان دون الحديث عن التسامي، وأي جهد لفهم الإنسان دون الرجوع إلى التسامي محكوم عليه بالفشل، لأن هناك دائمًا معنى دينيًا راسخًا في اللاوعي الشخصي وهو مرتبط بمعنى نهائي ما وراء الشعور، ويمكن أن يعيش الإنسان هذا المعنى بوعي ويمكن أن يبقى خفيًا متجاهلًا ليظهر فجأة بشكل غير متوقع في خضم أحداث معينة.

حدود التدين لدى فرانكل

يشرح فرانكل التدين اللاشعوري على أنه ميل غير واع نحو الله، وتجاهل وجود الله هو تعبير يستخدمه للإشارة إلى أن الله في بعض الأحيان يبقى في اللاوعي وتبقى علاقة الإنسان به محجوبة بالجهل بالإله، ولا يمكن من وجهة نظره اختزال الروحانية والتدين في الهوية ونتاجها فقط، لأن الإنسان غالبًا ما يكون أكثر تدينًا مما يعتقد عن نفسه، ولا يحب أن نقع في خطأ ربط التدين بالهوية. وتشير الطبيعة المتسامية للوعي إلى حرية الشخص بمعنى مزدوج "الحرية من الدوافع الغريزية" و"الحرية إلى مسار الأفعال الفردي".

تتبع تأملات فرانكل حول التدين واللاوعي سلسلة من المراحل. نقطة البداية هي الوعي والمسؤولية التي تتلخص في حقيقة أن الشخص يدرك مسؤوليته، أما المرحلة الثانية فهي الدخول إلى عالم الروحانية اللاواعية من خلال التعرف على الروحانية مع النفس، وهما ما يفعله العلاج بالمعنى حيث يجعلنا ندرك البعد الروحي داخل اللاوعي، أما المرحلة الثالثة فهي اكتشاف التدين اللاواعي كحالة غير واعية لعلاقة متسامية مع الله، علاقة داخلية متعلقة بجوهر الإله ووجوده تشير إلى معنى الإيمان المطلق والتأكيد على محدودية الروح البشرية.

إحالات:

https://www.pcicollege.ie/conceptofthespiritualunconscious

https://thelowkeymedic.com/book-review-mans-search-for-meaning-viktor-e-frankl/?v=0f177369a3b7

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.