}

جوزيف كونراد في "الشّريك الخفيّ": قبطان النفس البشرية

باسم سليمان 25 أغسطس 2023
يرى لويس ممفورد في كتابه "المدينة عبر العصور" أنّ اختراع المرآة ـ المرآة كما نعرفها الآن ـ في البندقية في القرن السادس عشر سمح للإنسان أن يرى صورة وجهه كما يراه الآخرون. وهذا أدّى وفق تحليله إلى الشروع في تدوين السير الذاتية. ترافق هذا الأمر بالإيذان لعصر اللوحات الشخصية/ البورتريه بالانتشار. وكما يذكر ريجيس دوبريه في كتابه "حياة الصورة وموتها" فإنّ البورتريه لم يكن مسموحًا به بداية إلّا للملوك والأبطال. وحتى هؤلاء كان مبرّر تواجدهم في اللوحة أن يكون موضوعها الرئيسي إحدى الشخصيات المقدسة الدينية. تطوّر الأمر في ما بعد ليسمَح للرجال بأن تكون لهم لوحة شخصية. وأخيرًا، حازت النساء على هذه الميزة. وللحقيقة، فإنّ كل من السير الذاتية والبورتريهات هي منصّة متقدمة عن الإرهاصات الأولى للتعبير عن الذات البشرية الفردية والمستقلّة عن مجتمعها أيًّا كانت بنيته. إنّ اكتشاف الذات ككينونة مستقلّة جاء متأخرًا حتى عصر النهضة والتنوير، لكن هذا المعطى الجديد أدّى إلى سؤال جوهري عن طبيبعة هذه الذات، وممَّ تتكون؟ وليس غريبًا أن يرى ديكارت بأنّ الذات منفصلة عن الجسد الإنساني، وتتصل به عبر الغدة الصنوبرية، حيث تم إعلاء هذه الذات عن جسدها المادي. هذا الغلو جوبه من قبل عدد من الروائيين، حيث جعلوا البحث في الذات الإنسانية مدار سرديات روائية كثيرة حايثوا فيها الذات بعيدًا عن أمثلتها. وقد عالجوا موضوعة الذات التي استفاقت على فرادتها واستقلالها وفطامها عن مجتمعها بطريق عديدة. وكان من بينها ثيمة القرين أو الشبيه، ليكتشفوا من خلال هذه الثيمة بأنّ تلك الذات منقسمة على جوهرها، متصارعة مع كليّتها وأجزائها، وأنّها هشّة أمام هذا الفطام المبكر عن المجتمع، فلم تعد الأنساق العرفية والأخلاقية التي كان يؤمّنها لها مجتمعها كافية لتبدّد غرابتها في عالم كانت تراه طوع يدها، فلم تلبث أن اكتشفت كم هي ضائعة فيه! وكم أنها لا تعلم شيئًا عن نفسها وعنه!
لقد أُدرجت ثيمة القرين في الرواية والشعر والمسرح والرسم والنحت. وقد شُغف الروائيون بها، فمن قصة إدغار آلان بو؛ وليم ويلسون، إلى "دكتور جيكل ومستر هايد"، التي كتبها ستيفنسون، فرواية "دوريان غراي" مع أوسكار وايلد، ورواية "القرين" مع دستويفسكي، ورواية "عام وفاة ريكاردو ريس" لساراماغو، التي استوحاها من فرناندو بيسوا الذي يبدّل شخصيته مع كل كتاب يؤلّفه، وكأنّه يستمد هذه الفكرة من كنيته التي تعني الشخصية، كما حلّل جيروم ستولينز في كتابه "النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية". هذه الثيمة وجد فيها الأدباء منفذًا للولوج إلى الذات الإنسانية من أجل كشف غموض هذه الذات. وقد عرّف د. شاكر عبد الحميد في كتابه "الغرابة، المفهوم وتجلياته في الأدب"، مفهوم القرين: بأنّه ظهور أو تجلّ شبحي لحالة داخلية نفسية تُحدث انقسامًا داخل الذات، وفي الوقت نفسه تُحدث التكامل الخاص بهذه الذات على الأقل أمام نفسها، من خلال الانقسام ذاته.
لم يتخلّف صاحب رواية "قلب الظلام" جوزيف كونراد عن استخدام هذه الثيمة، ففي رواياته نلقى هذه الموضوعة بحدّة، إذ عالج في روايته كيف أنّ البحث عن الوحش الخارجي كشف له عن الوحش الذي يسكن الذات، إلّا أنّ روايته "الشريك الخفي"، التي ترجمها إسكندر حبش، وصدرت عن دار ديلمون الجديدة ـ دمشق 2022 كان لها خصوصية، فالقرين هنا يصبح مصدر قوة والتحام لأجزاء الذات المتشظّية، فالرواية تسرد على لسان قبطان سفينة إنكليزي أُنيطت به مهمة قيادتها إلى الوطن، وكيف اختلق قرينًا له اسمه ليغات ليواجه المصاعب التي كان لا بدّ من خوضها، فهو جديد على قيادة السفن. وهذه السفينة لا يعرف عنها شيئًا، وبحارتها مؤتلفون، وهو الغريب بينهم، والعلاقة متوترة مع ضباطه المساعدين، وهو يعرف أن الرتب تفرض احترامًا شكليًّا فقط، لذلك كان يرى نفسه منبوذًا شبيهًا بقرينه ليغات الذي كان بحارًا مشهودًا له بالخبرة الكبيرة.
هرب ليغات من سفينته بعدما قتل أحد الضباط. ولو لم يفعل ذلك لكانت السفينة قد غرقت في عاصفة هوجاء. كان هذا الضابط عقبة كبيرة أمام ليغات، ولم يكن من حلّ إلّا بإزاحته، حتى لو كان بشنقه عبر يديه كأنّهما حبل متين.




في ليلة صافية، أمر الضابط الشاب بحارته أن يخلدوا إلى النوم، وأنّه من سيقوم بالحراسة ليلًا. لقد كان الأمر غريبًا، لكنّ البحّارة نفذوا الأمر، هكذا بقي القبطان الشاب على ظهر السفينة، وعندما لحظ أن سلم السفينة لم يُرفع جيدًا، ذهب ليتفقده، وهناك وجد ليغات الهارب متعلّقًا به بعد أن سبح كيلومترات عدة بعيدًا عن سفينته الأم سيفورا، والتي لها دلالة العدالة. هذا اللقاء الغريب بين القبطان الشاب وصنوه البحار القاتل الهارب سرعان ما أصبح أليفًا. فقد أخذه إلى قمرته التي لها شكل حرف (L) حيث خبّأه بعيدًا عن أعين بحارته. يشي شكل قمرة القبطان الشاب والحرف الأول من اسم البحّار الهارب ليغات بتطابق، فحرف اللام وفق رسمه في اللغة الإنكليزية، وخاصة قاعدته التي ينتصب فوقها خطّ مستقيم تترك مكانًا للاختباء.
إنّ هذا التشبيه الذي قدمه كونراد بين قمرة القبطان الشاب وحرف (L) يومئ بمضمرات النفس البشرية الخفية على صاحبها وعلى الآخرين. لقد قصّ ليغات قصة العاصفة التي عصفت بهم، وكيف دفعه واجبه بإنقاذ السفينة من الغرق إلى قتل البحار المتعنّت. هذه القصة وجدت تعاطفًا من قبل القبطان الشاب، وخاصة بعدما أصبح مدار التشابه بينهما، سؤالًا مطمئنًا للقبطان، بأنّه عليه أن ينقذ ليغات. لم تمض فترة طويلة حتى وصل قارب من السفينة سيفورا بحثًا عن البحار القاتل، وصعدوا إلى سفينة القبطان الشاب، الذي راوغ قبطان السفينة عبر الادعاء بقلة السمع، وكأنّه لا يريد أن يسمع صوت العدالة العمياء، التي لا تحسب حسابًا للظروف الاستثنائية التي دعت ليغات إلى أن يقتل. لم يسلّم القبطان الشاب البحار الهارب، وأصبح التفكير منصبًا كيف يؤمّن له هروبًا آمنًا، لكن خطيرًا جدًا على السفينة. وكانت الحجّة بأن يقتربوا من اليابسة حتى يلتقطوا الريح التي تهب من اليابسة. أمر القبطان بحارته وضباطه بتنفيذ خطّة الاقتراب من إحدى الجزر مع كل المخاطر المترتبة على ذلك، وخاصة أن الأمر سيتم في الليل.
لقد ملأ كونراد روايته بالرموز، فالليل الذي تبحر به السفينة كناية على ليل النفس البشرية. وأمّا ليغات البحار المقتدر، لكنْ المتمرد على القوانين، فهو جزء من نفس القبطان التي تقف حائرة أمام المسؤوليات الجديدة التي تحملها. ولم تكن السفينة مع بحارتها وضباطها وجهوزيتها إلّا تعبيرًا عن نفس القبطان.
لا ريب بأنّ ليغات، أكان شخصًا حقيقيّا أمّن له القبطان الشاب مهربًا، أم كان خيالًا اختلقه القبطان كي يحل مشاكله عبره، قد لعب دورًا حاسمًا في تثبيت القبطان الشاب في منصبه أمام ضباطه وبحارته، فبعد تلك المناورة الخطيرة من الاقتراب من البر والتي رتبت أن تنتفخ أشرعة السفينة بالرياح وتدفعها قدمًا كانت العامل الحاسم في مراسيم تنصيب القبطان الشاب الفعلية في قيادة السفينة.
كان الاقتراب من البر اللحظة المناسبة لهروب ليغات، ولقد منحه القبطان قبعته كي تحميه من شمس النهار، إلّا أنّ القبعة سقطت على رأسه، وأصبحت علامة في سواد الليل تؤشّر له كفنار كي يبتعد في اللحظة المناسبة عن البر فلا يصطدم به.
سبح ليغات إلى بر جديد ليبدأ حياة جديدة، وأقلعت سفينة القبطان تمخر عباب البحر بكلّ ثقة. لقد ألقى القبطان نظرة أخيرة من مؤخرة سفينته ليعاين قبعته البيضاء التي تطفو على سطح البحر محدّدة الموقع الذي نزل فيه ليغات إلى البحر: "لألقي نظرة خاطفة، فانية على قبعتي البيضاء التي تُركت في اليم لتحدّد الموقع الذي هبط فيه شريك قمرتي الخفي، وشريك أفكاري، كما لو كان ذات الثانية ـ لينال عقابه: رجل حرُّ وسباح أبيّ، مضى يشق طريقه نحو مستقبل جديد".
إنّ الذات البشرية التي عالج كونراد غموضها في روايته "الشريك الخفي" هي ذاته بشكل أو آخر في إحدى جوانب الرواية، فقد كان كونراد يتأفّف من نظرة النقاد الذين لم يتوجّوه سيد الرمز والكلمة الصائبة، على الرغم من كل رواياته الأخرى الناجحة. وإذا رأينا أن الرواية هي سفينة القبطان الشاب الذي استقبل ليغات، والتي ناور بها حواف اليابسة في عتمة الليل، وأثبت جدارته كقبطان، فعلى النقاد/ البحّارة والضباط أن ينصّبوه قبطانًا يمخر عباب الذات البشرية، حتى ولو أبان تلك النوازع الشريرة فيها.
هكذا كانت ثيمة القرين نافذة أطل عبرها الروائيون على النفس البشرية قبل أن يفتتح المحلّلون النفسيون طبقاتها الشعورية واللاشعورية، فكانت تلك السرود الروائية داعمًا أساسيًّا في رحلة استقلال الذات البشرية عن أرحامها السابقة، من دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، لذلك لنا أن نقول بأنّ ثيمة القرين قد لعبت دورًا مهمًا في الكشف عن الذات البشرية الحديثة.         

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.