}

التفكير القصصي: العلم الجديد للذكاء السردي

لطفية الدليمي 26 سبتمبر 2023
تغطيات التفكير القصصي: العلم الجديد للذكاء السردي
أنغوس فليتشر
هل يمكن أن نتصوّر كائنًا بشريًا غير حكّاء؟ كيف سيكون شكل هذا الكائن؟ ربما سيبدو كائنًا غريبًا قادمًا من كوكب آخر. ليس صعبًا أن نحدس من غير مشقة ذهنية كبيرة أنّ فعالية الحكي اقترنت عضويًا مع نشوء اللغة وتطوّرها. لولا الحكي لكانت اللغة صناعة رمزية مستعصية على التداول اللحظي.

كلنا حكّاؤون بالضرورة، وغالبيتنا نمارسُ فعالية سردية، وقلّة قليلة منّا تشتغل في حقل الكتابة الأدبية (القصصية والروائية أكثرها شيوعًا). نميل جميعنا لترتيب خبراتنا وحكيها للآخرين في سياق قصصي، وهذه الخصيصة القصصية (أو الإخبار القصصي Storytelling) تبدو مَعْلَمًا تطوّريًا لدى الكائن البشري إقترن مع تطوّر اللغة وتعقيد دلالاتها الرمزية.

كلّما قرأتُ رواية جديدة في خضمّ هذا القصف الروائي المزدحم أتساءل وأعيدُ تساؤلي القديم: لماذا يعشق الكائن البشري فنون السرد وألوان الكتابة القصصية والروائية؟ وما يزيدُ تساؤلي غرابة هو أنّ فريقًا متزايدًا من العلماء على إختلاف مشاربهم المعرفية بات يلجأ أكثر فأكثر إلى فنون الكتابة الروائية؟ ماذا يبتغي هؤلاء؟ هل يسعون إلى المال ظنًّا منهم أنّ المبيعات الكبيرة من الرواية ستأتي لهم بمال وفير ليس بقدرتهم الوصول إليه عبر مهنتهم الأكاديمية أو البحثية الخالصة؟ وقائع الحال تفنّدُ هذا الأمر: ليس كلّ من كتب رواية صار مليونيرًا. قلّة قليلة جدًا اجتنت أموالًا وفيرة من كتابة الرواية. ثمّ أنّ هؤلاء العلماء لم يبدأوا كتابة الرواية في أوّل شروعهم بعملهم العلمي؛ بل كتبوها بعد ذيوع أسمائهم ونشرهم لكتب في ميدان تخصصاتهم حقّقت لهم عوائد مالية كبرى. انتهيتُ إلى قناعة مفادها أنّ الكتابة الروائية هي نمطٌ من أنماط التفكير الذي يثري الفعاليات البحثية ويدعمها ويشيعها بين أوسع حلقات الجمهور القارئ. إذا كان دي. إج. لورنس وصف الرواية بأنها (كتاب الحياة المشر) فإنها في عصرنا هذا صارت (بوّابة من بوّابات التفكير البشري الحاذق والدقيق والباعث على الدهشة والمتعة).

نعيشُ الآن في عصرٍ أصبحت فيه الحقول المعرفية المتخصّصة أقرب إلى حفريات تنتمي لماضٍ مندثر؛ وقد ترسّخت هذه الخصيصة المميزة لعصرنا بعد تعاظم أهمية دراسة الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية في صيغة نسقية شاملة. لم يكن الأدب (الذي يمثل السرد هيكله الجوهري) بعيدًا عن هذه المقاربة المعرفية؛ فقد طالته تغييرات بنيوية كبيرة في الجوانب التالية على الأقلّ: ما هي طبيعة الفعالية السردية التي تتشارك بها كلّ الكائنات البشرية؟ كيف تعمل اللغة كوسيط سردي في تمرير الخبرات البشرية بين البشر؟ وما العلاقة بين التخييل البشري والإبداع الأدبي؟ قد تبدو هذه الأسئلة مثل كثير سواها من الأسئلة التقليدية؛ لكنّ الأمر سيختلف إذا ما درسنا هذه الأسئلة في سياق نسقي يجمع بين الإجابات المتوقّعة بعد إخضاعها للكشوفات غير المسبوقة في علم النفس الإدراكي Cognitive Psychology وعلوم البيولوجيا العصبية الدماغية BRAIN NEUROSCIENCE  وكثير من الجبهات العلمية المتقدّمة.

البروفيسور أنغوس فليتشر Angus Fletcher، أستاذ علم السرد والقصة في جامعة ولاية أوهايو، أحد روّاد هذه المقاربة غير المسبوقة حول الأدب، وهو عادة ما يقدّمُ في مؤلفاته ومشروعه السردي في جامعة ولاية أوهايو رؤية جديدة فيما يخصُّ الفعالية السردية وقيمتها المؤثرة في إعادة صياغة العقل البشري بما يجعله قادرًا على الارتقاء في تناول الموضوعات العلمية في سياق عملية تخادمية يغتذي فيها الأدب من الكشوفات العلمية ويعيد ضخّ المؤثرات المستجدّة في الفعالية السردية بما يعزز الارتقاء بالعلم في نمطٍ من التغذية الاسترجاعية الإيجابية. يصفُ فليتشر الفعالية السردية بأنها نمطٌ من الميكانيزم العقلي الناشئ عن عملية تطور بيولوجي، وهذه هي نقطة الشروع في كلّ مشروعه البحثي.   

البروفيسور فليتشر معروفٌ برؤاه غير التقليدية في الأدب والممارسة السردية، ولعلّ معاينة عناوين بعض مؤلفاته تكشف لنا طبيعة هذه الرؤى:

- أعمال مدهشة: المكتشفات الخمسة والعشرون الأكثر تأثيرًا في تأريخ الأدب: Wonderworks: The 25 Most Powerful Inventions in the History of Literature , 2021

-الخيال التوبولوجي: كرات، حافات، وجُزُر:  The Topological Imagination: Spheres, Edges, and Islands, 2016

- الزمان، المكان، والحركة في عصر شكسبير: Time, Space, and Motion in the Age of Shakespeare, 2009

-  الاستعارة: نظرية النمط الرمزي: Allegory :A Theory of Symbolic Mode, 2012

أحدثُ كتب فليتشر كتاب عنوانه (التفكير القصصي: العلم الجديد للذكاء السردي Storythinking: The New Science of Narrative Intelligence). الكتاب  ظهر حديثًا قبل بضعة شهور (2023) وهو من إصدارات جامعة كولومبيا الأميركية.

من مؤلفات أنغوس فليتشر 


يقدّمُ المؤلف تلخيصًا حاذقًا لفكرته عن (التفكير القصصي) في مقدّمة الكتاب. يتساءل في الجملة الافتتاحية للمقدمة عن القصة: ما هي؟ القناعة السائدة بفعل تواتر الخبرة والتعليم الأكاديمي أنّ القصة (وكلّ فن سردي آخر) هي واسطة لنقل الافكار وليس لإنتاجها؛ ولمّا كانت القصة لا تنتج أفكارًا فهي بالنتيجة لا تساهم في تعظيم مناسيب الذكاء البشري. يمكن بالتأكيد للقصة أن تخترع حكايات تخييلية تقاربُ حدود الفانتازيا الجامحة؛ لكنّ الفانتازيا طبقًا للتفكير التقليدي السائد ليست مادة تعظّم الذكاء البشري (الحقيقي). الذكاء الحقيقي شيء تختصُّ به القدرة على التفكير بكيفية نقدية بعيدًا عن الحكايات التخييلية والجموح الفانتازي. هذا ما اعتادت المدارس تعليمه. التعليم المدرسي بشأن الفن القصصي والروائي يقوم على دعامتين: الأولى أنّ هذا الفن لا علاقة له بالتفكير الحقيقي، والثانية أنّ الشكل الفعّال للقصة هو القيمة الاخبارية لها بعيدًا عن أية فعالية نقدية أو مساءلة فلسفية أو تفكّر بحثي. يكفي القصة والرواية أن تكون مصدرًا مزوّدًا للمتعة والدهشة فحسب.

تنطوي كلّ فعالية سردية على فعاليتين: التخييل Fiction، والبلاغة Rhetoric.  يكتب المؤلف في التقديم: "لطالما حذّرني معلّميّ بأنّ الرواية (التخييل) Fiction شيء خطِر لأنّ الرواية هي الاسم الآخر للكذب. البلاغة أسوأ من التخييل لأنها كذبةٌ تسعى ما استطاعت لأن تكون مُشَرْعنة ومُسوّغة. برغم هذا أفاد معلّميّ بأنّ التخييل والبلاغة يمكن أن يكونا ذا تأثير طيّب؛ فقد تعلّمنا رواية ما الطيبة والكياسة. قد تعلّمنا الرواية والقصة أي شيء باستثناء التفكير الحقيقي على النحو الذي يفعله العلم : هذا ما سعى المعلّمون والأوساط الأدبية التقليدية لتكريسه..... ".  

اندهش المؤلف لقدرة الحكي القصصي على جذب القارئ وإيقاعه في مصيدة الغواية الأدبية؛ فانطلق لبحث أصول ودوافع هذه الغواية. درس فليتشر علم النفس الإدراكي لأربع سنوات أواخر تسعينيات القرن الماضي في جامعة ميشيغان، ونال تدريبًا معمّقًا في أحد مختبرات الفسلجة العصبية في ولاية ميشيغان، ثمّ إنطلق لإكمال متطلّبات شهادة الدكتوراه في الأدب بجامعة ييل، ثمّ أتبع هذه الدراسات بدراسات إضافية لما بعد الدكتوراه في جامعة ستانفورد حيث كان لقاؤه الأوّل مع النظرية السردية Narrative Theory.

يؤكّد المؤلف في فصول الكتاب العشرة على هذه الخصيصة: القصة أداةٌ للتفكير البشري. ربما ستساعدنا مطالعة عناوين هذه الفصول في تحسّس هواجس المؤلّف ومناطق اشتغالاته البحثية: القصة، القصة والتفكير، أصل القصّة، لماذا تعلّمُ مدارسُنا المنطق بدلًا من القصة؟، حدود المنطق، الآلية الدماغية للتفكير القصصي، الارتقاء بالتفكير القصصي، التفكير القصصي من أجل التطوّر الشخصي، التفكير القصصي والتطوّر الاجتماعي، كيف تجيب القصة على معنى الحياة؟

يختم المؤلف كتابه بمجموعة أسئلة (إفتراضية) وإجابات لها، وقبل هذه الأسئلة/ الأجوبة قدّم خلاصات ثلاثًا مركّزة ومختصرة أجمل فيها فكرة الكتاب ورؤيته للتفكير القصصي:

1. اجتهد الفلاسفة تاريخيًا في إختزال كلّ أشكال الذكاء إلى ذكاء رمزي بكلّ ألوانه السائدة: الاستقراء، الاستنتاج، التأويل (التفسير)، التفكير النقدي، الرياضيات، الإحصاء، صناعة القرار القائم على بيانات، نظرية الاختيار العقلاني... وصولًا إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي (الحاسوبي).

2.  الدماغ البشري لا يكتفي بأشكال التفكير الرمزي المعزّز للذكاء القائم على البنى المنطقية؛ بل يتعامل مع شكل آخر من الذكاء المخالف للذكاء المنطقي. ذاك هو الذكاء السردي. الذكاء السردي يعمل على الارتقاء بالتفكير المخالف للوقائع الحقيقية (بمعنى يعزّز القدرة التخييلية) وكلّ القدرات الأخرى التي ترفع مناسيب الإبداع والقدرة على التكيّف والمقدرة على اتخاذ قرارات بناءً على بيانات محدودة في بيئات تفتقر إلى اليقينيات المعلوماتية والخبرات المسبقة.

3.  الذكاء السردي هو ماكنة تشحذ العلوم التطبيقية: الطب، الهندسة، عالم الأعمال، الابتكار التقني، فضلًا عن قدرتها على تعزيز قدرات المجالدة النفسية ومكافحة الوهن الذهني.

ينتهي المؤلف بخلاصة ثمينة رائعة بشأن قيمة الفن القصصي والروائي (الأدب بعامّة) في حياتنا عندما يصرّحُ في أحد حواراته:

"ما أراه محفورًا في طبيعتنا التطوّرية هو حاجتنا إلى المعنى، ورغبتنا الممضّة في سرد حكايات كاملة ذات بدايات ونهايات. عندما نحلُّ في هذا العالم فإننا لا ننفكّ نفكّرُ (إلى أين ستمضي حكاية وجودنا هذا؟) لأنّ إضفاءنا قيمة على يومنا الحاضر يستوجبُ أن نكون قادرين على رؤية الغد والتفكّر في المستقبل.

"نحنُ مسكونون بالطريقة ذاتها مع السؤال الوجودي (من أين جاء هذا كله؟). الحيوانات الأخرى ليست مسكونة بهذا التساؤل الجوهري؛ لكنّ البشر لا يستطيعون إزاحته جانبًا عن عقولهم. (ما كان أصلنا؟)، و(من أين إنبثق الكون؟): هذه أسئلة محفورة هيكليًا في أدمغتنا. الأدب كان منذ البدء الطريقة الأكثر فاعلية وتأثيرًا في الإجابة على هذه الاسئلة عبر الإبحار في قارب الزمن في الماضي والمستقبل وبكيفية تتوسّلُ مقاربات تخييلية. الأدب وسيلة مؤثرة للغاية في خلق حسّ الدهشة فينا – ذلك الحسّ الأكثر أساسية وقيمة جوهرية بين كلّ التجارب الروحية التي يمكن أن يختبرها الكائن البشري.

"نحنُ في مسيس الحاجة للدهشة في أيامنا هذه، وهذا هو السبب الذي يجعل أغلبنا لا يرى في الشعر قيمة براغماتية (عملية) في كلّ مرّة يقرأ فيها شعرًا. نميل دومًا إلى اعتبار الشعر قيمة تتعالى على الانشغالات البراغماتية؛ لكنّ أدمغتنا قادرةٌ فقط على الاستجابة الطيبة مع التجارب الروحية العصبية (أي التي تثيرُ حسّ الدهشة فينا، وتتناغم مع الحياة البشرية ولا تتعالى على الاعتبارات البراغماتية)، ومن أجل هذا نحنُ في حاجة عظمى إلى الأدب. تحتاجُ أدمغتنا إلى الأدب بمثل حاجة أجسادنا إلى الطعام، والأدبُ هو ما يوفّرُ لأدمغتنا الدافعية الأساسية لفهم العالم في طريقة تفاعلية متبادلة التأثير مع العلم".

أتمنّى أن يجد كتاب البروفيسور فليتشر هذا طريقه للترجمة السريعة إلى العربية. أظنّ أنّ هذه الترجمة ستوفّرُ لنا رؤية مستجدّة لطبيعة الفن القصصي غير تلك التي تكلّست في الدوائر الأكاديمية وطبقات الإنتلجنسيا الأدبية الكلاسيكية التي تتسيّدُ المشهد الأدبي العربي.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.