}

هل يحذو الإيراني ماني حقيقي حذو هيتشكوك في التشويق؟

سمير رمان سمير رمان 1 يناير 2024
تغطيات هل يحذو الإيراني ماني حقيقي حذو هيتشكوك في التشويق؟
ماني حقيقي في مهرجان برلين الـ 66 (19/2/2016/Getty)

تعرض دور السينما هذه الأيام فيلم "التفريق/ Subtraction"، الذي يعدُّ من أهمّ وأكثر أفلام المخرج الإيراني ماني حقيقي تناقضًا.
المشكلة الرئيسة في أفلام حقيقي في السنوات الأخيرة تكمن في أن المشاهد يستطيع بعد مرور دقائق الفيلم الأولى أن يفهم ما سيحدث بعد ذلك. منذ البداية، تبدو نبرة الفيلم واضحة، وكذلك الحال مع أسرار الأبطال، إن كان هنالك من أسرار بالفعل، فهي ترتسم على وجوه شخصيات الفيلم. وبالمختصر، فإنّ سينما ماني حقيقي أصبحت أسلوبًا سينمائيًا في حدّ ذاتها، وسمتها الرئيسة هي قدرة المشاهد على التنبؤ بما سيجري لاحقًا.
لكنْ، وعلى الرغم من هذه الخلفية الباهتة، يذهل المخرج حقيقي المشاهدين في كلّ واحدٍ من أفلامه. ففي أفلامه يستحيل التنبؤ بالكيفية التي ستتحطم من خلالها المؤامرات، لأنّ نبرة الفيلم تتغيّر باستمرار، ويبقى الشيء الوحيد الواضح سلفًا أنّ المؤامرات ستتحطم. في الوقت نفسه، لا ينكسر منطق النصّ، ولا ينحني أبدًا: فالأحداث الأكثر روعةً ترتبط ببعضها بعضًا بشكلٍ لا تشوبه شائبة.
فيلم "التنين قادم" (2016) هو عبارة عن حكاية خرافية تروى على لسان الحيوانات حول قوى العالم السفلي: حيث كانت المعتقدات والطقوس القديمة السائدة في إيران متشابكة مع الحقائق على الأرض، تلك الحقائق التي تتمثّل في قمع الشاه أبناء الشعب الإيراني. أمّا في فيلم "الخنزير/ The Pig" (2018)، فنشهد سخريةً غاضبة تستهدف السينما الوطنية وصنّاعها، حيث يستهدف الفيلم بسخريةٍ لاذعة مثقفي العاصمة طهران برمّتها، وهم الذين استقروا مرتاحين يلعبون "دور ضحايا النظام". أمّا فيلم "التفريق"، فيبدأ بأسلوب التأليف السينمائي الإيراني. بالطبع، المخرج حقيقي خريج هذه السينما، وملتزم بها حتى النخاع، وتقوم علاقته بها على ثنائية الحبّ والكراهية: وعندما يرغب المرء يمكنه اعتبار فيلم "التفريق" صدًى لفيلم "مندوب المبيعات/ Saleman" للمخرج الإيراني الآخر أصغر فرهادي، الذي يدور حول دراما عائلية ترافقت بجريمةٍ غامضة.
لسببٍ ما، يميل المخرجون الإيرانيون عمومًا إلى تصوير حواراتٍ طويلة تجريها شخصيات أفلامهم داخل السيارات. لذلك تذكرنا بداية فيلم "التفريق" بأفلام محسن مخملباف، أو جعفر بناهي.

لقطة من فيلم "التفريق" للمخرج الإيراني ماني حقيقي 


في طهران، التي تتعرض لأمطارٍ غزيرة متواصلة، وعندما تقول إحدى بطلات الفيلم معبّرةً عن استيائها: "نعيش كما لو كنّا في غسالة"، فإنّ عشاق السينما الإيرانية يشعرون وكأنّهم في وطنهم. ازدحامٌ مروريّ لا نهاية له، علقت فيه سيارة المدرسة. تشغل المدربة فرزانة (الممثلة تيرانه عليدوستي) نفسها بتلميع أظافرها بطريقةٍ سريعةٍ اعتادتها، بينما تتحدث تلميذتها الصغيرة في هذه الأثناء عن أمورٍ تافهة.





على خلفية هذا المشهد الحياتي، يظهر شيءٌ غريب، صوّرَ بطريقةٍ لا يتبينها المشاهد جيدًا في المشهد العام: شخصٌ ما يركض، شخص آخر يتعرض للضرب. لكن لا تبدو هذه اللمحة عشوائية، ففي هذه اللحظة بالذات تتوقف فرزانة عن الاستماع إلى تلميذتها، بعد أن رأت زوجها الميكانيكي جلال (الممثل نافيد محمد زاده) في الشارع يدخل منزلًا برفقة امرأة غريبة! تستغرب الزوجة فرزانة الأمر، لأنّه قال بأنّه مسافرٌ إلى مدينة بندر عبّاس في مهمة تتعلق بالعمل، ولا يفترض به أن يكون هنا في طهران. ثورة غيرة هائلة تنهش صدر الزوجة، فتبدأ مطاردة حثيثة لتقصي الأمر.
تعرف المرأة الإيرانية كيف تدافع عن نفسها. وها هي فرزانة تواجه زوجها بشراسة. يدور حوار وجهًا لوجه بين الوالد والزوج جلال، الذي بدا وكأنّه لا يفهم ما الذي يجري، فيصرخ غاضبًا: لقد كنت في مهمة عمل بالفعل، وها هي الوثائق التي تؤكد ذلك. على الرغم من لهجة الانتقام التي تصدر عن الشاشة الفضية، فإنّ القصّة تبدو دراما يومية معتادة من الحياة الإيرانية. تعرض الزوجة على طبيبٍ نفساني، فيقرر أنّ فرزانة تعاني من الهلوسة. ولكن يتضح لاحقًا أنّها لم تكن البتة تهلوس، فيقرر زوجها جلال تقصي الأمر بنفسه. يذهب إلى البيت، الذي ادّعت الزوجة أنّها رأته يدخله، فيفاجأ بامرأة تدعى بيتا (الممثلة تيرانة عليدوستي، أيضًا) تفتح الباب. عندما وقعت عينا جلال على المرأة، وقف مذهولًا. إنّها صورة طبق الأصل عن زوجته! وعندما يقارن جلال وبيتا الصور العائلية، يتضح أن زوج بيتا، محسن (الممثل محمد زاده) يشبه جلال وكأنّهما توأمان. يقبع محسن في السجن، بعد أن أبرح رئيسه ضربًا في ثورة غضبٍ عارمة متسببًا له بإعاقة. بيتا زوجة محسن ممرضة سابقة تركت العمل بعد أوّل طفلٍ أنجبته.
مع كلّ مشهدٍ من مشاهد الفيلم، يشعر المشاهدون، وحتى أبطال الفيلم، بصعوبةٍ أكبر فأكبر لفهم ما يجري: فبفضل مهارة ماني حقيقي يشعر المشاهد أنّ الممثل قد تقمّص بالفعل إحدى شخصيات الفيلم. يدفعنا موضوع ازدواجية الشخصيات إلى الاعتقاد بأنّه قد يكون من الأنسب أن نطلق على فيلم "التفريق" مصطلح "رهاب المرتفعات"، أو "الدُوار"، وهو العنوان الذي سمّى به ألفريد هيتشكوك رائعته (1958)، الذي كان من أقوى أفلام الجريمة التي تناولت موضوع الازدواجية الخيالية. ولكنّ الفارق يكمن في أنّ الازدواجية عند المخرج الإيراني هي ازدواجية حقيقية تمامًا.
تتطور دراما الغموض في الفيلم إلى ما يشبه مسرحية هزلية من مسرح فودفيل/ vaudeville(*)، يلتقي فيها الشبيهان وجهًا لوجه. ليتحوّل الفيلم سريعًا إلى كوميديا سوداء، عندما يتبادل الرجال أماكنهم في أوضاعٍ محفوفةٍ بأضرارٍ جسيمة تلحق بأجسادهم، وكذلك في حياتهم. ثمّ نجد أنفسنا أمام فيلم رعب، عندما تبلغ درجة عدم الفهم، التي يشعر بها أبطال الفيلم بخصوص وضعهم الوجودي "ألسنا مستنسخون حقًّا؟" درجة الإقياء دمًا. وأخيرًا، يتطور الفيلم إلى تراجيديا حبٍّ عالية.
لقد نجح ماني في إخراج فيلم مشوّق جمع في بوتقة واحدة أساليب سينمائية متعددة، ربما يجعله المخرج الوحيد في السينما المعاصرة القادر على القيام بمثل هذا الانفلات في الأسلوب في فيلمٍ واحد.

هامش:
ــ مسرح فودفيل/ vaudeville: قدّم مسرحيات هزلية ترافقها أغانٍ ورقصات، بالإضافة إلى فنّ الدراما. كان لعقود أكثر أنواع التسلية في أميركا. أول مسرحٍ حمل هذه التسمية كان في باريس عام 1792.
ــ من أفلام ماني حقيقي: "عدنان" (2003)؛ "رجل في العمل" (2006)؛ "هامون بازها" (2007)؛ "كنعان" (2007)؛ "التنين قادم" (2016)؛ "الخنزير" (2018)، و"التفريق" (2022).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.