}

مهرجان روتردام السينمائي: استكشاف تعقيدات الهوية الإنسانية وتحولاتها

سمير رمان سمير رمان 5 فبراير 2024
تغطيات مهرجان روتردام السينمائي: استكشاف تعقيدات الهوية الإنسانية وتحولاتها
فريق الفيلم الياباني "Rei" الفائز بجائزة مهرجان روتردام

افتُتح مهرجان روتردام السينمائي (هولندا) لهذا العام بعرض فيلم "يتجه جنوبًا" للمخرج جوناثان أوجفيلي، الذي يتحدث فيه عن مشاكل سنّ البلوغ. في دورة هذا العام تقدم للمهرجان حوالى ألف فيلم، اختير منها 14 للتنافس في مسابقة "النمر"، وأعلنت النتائج أمس الأحد (4 فبراير/ شباط 2024).
تقول مديرة المهرجان فانيا كالوجيرسيتش: "المهرجان هو ملاذ لأصوات متنوعة، ودليل على أن السينما قادرة على تخطي الحدود الجغرافية والتاريخية. المهرجان هو المنصّة التي تتيح للمبتدئين القيام بالخطوة الأولى في عالم السينما المعقد".
كرّست المسابقة لأعمال المخرجين المبتدئين، حيث يلحظ ذلك من خلال بعض اللقطات: في فيلم "Rei" الفائز يتمكن المخرج الياباني تاناكا توشيهيكو من اختصار زمن عرض فيلمه إلى أقلّ من ثلاث ساعات، ولذلك توجب على المشاهد أن يشاهده على مرحلتين. ومع ذلك، فإنّ الفيلم يستحق هذا العناء. يوحي النصف الأول أنّ الفيلم مغرقٌ في ثرثرة جوفاء تصدر من أفواه أناس عاديين نوعًا ما، يبرز من بينهم واحدٌ فقط، أصمّ، لا يتكلّم عمليًّا، هو المصوّر ماساتون الذي تقع في حبّه، هو بالذات، بطلة الفيلم هيكاري، وتسافر معه في ذروة فصل الشتاء إلى جزيرة هوكايدو للتمتّع بالجمال المتسامي للهضاب المكسوّة بالثلوج الناصعة البياض. وما إن يبدأ النصف الثاني من الفيلم حتى يتبيّن للمشاهد كم هو ممتع هذا الفيلم، ليس بسبب الشاعرية الرقيقة، ولكن بسبب الواقعية الأرضية. ففي ذروة العواطف التي تزيدها اشتعالًا صدمات الكهولة والشعور بالوحدة، يُسمع بوضوح صدى صوت دوستويفسكي وشكسبير: "فليأخذونا إلى السجن بسرعة. خلف القضبان سنغني مثل طيور محبوسة في قفص". هذه العقيدة المأساوية يزرعها في هيكاري، المرتبكة سلفًا، صديقها وعشيقها الذي عرفته صدفةً، الممثل والمخرج المسرحي الذي يعاني من أزمة إبداعية تعذّبه.




في الفيلم الإيراني "أنا، مريم، وأبناؤنا و26 آخرون" للمخرج فارشاد هاشمي، لم يعد المسرح من يظلّل أحداث الحياة، بل صانع السينما، الذي يقتحم مع طاقمه الفني حياة فتاة وحيدة تدعى مريم دفعها سوء الحظ كي تؤجرهم بيتها. وقد ندمت الفتاة على الفور، فلم تكد أقدام فريق الفيلم تطأ أرض البيت حتى كانوا قد انتهكوا جميع شروط عقد الإيجار. ملأوا المطبخ بالأواني القذرة، وأخرجوا من خزانة الأواني القيمة قدحًا أثريًا، وسكبوا القهوة على كتابها القديم المفضّل. لم تعد مريم تشعر أنّها في بيتها حتى في غرفة نومها، فأصبح حلمها الوحيد إنقاذ لوحةٍ نفيسة لوالدها المتوفّى مع أختها. ولكنّ وقتًا طويلًا لم ينقض حتى لم تعد البطلة ترغب أن تفارق هؤلاء الضيوف الفوضويين. حتى أنّها بدأت تسديهم نصائح فنية إبداعية: كيف عليهم أن يمثّلوا هذا المشهد أو ذاك بشكلٍ أكثر إبداعًا أمام الكاميرا. وهكذا خرجت الفتاة من وحدتها القاتلة، ولكنْ كان لديها دافعٌ خفيّ آخر تملّكها بمهارة: فالسينما في إيران تتمتّع بمكانةٍ عالية، وموضوع الفيلم الذي يصور في بيتها يذكّر بفيلم "طلاق نادر وزيمين"، الذي سبق أن نال جائزة الأوسكار.
عمليًا، صُممت جميع الأفلام المرشحة لنيل جائزة "مسابقة النمر"، تقريبًا، لتكون ترفيهية نوعًا ما، ولكنّ الأفكار لم تنفّذ كلّها بالشكل المناسب. يحاول الإسباني ألبرتو غراسيا، في فيلمه "بارّا" أن يلائم قصة البطل المضطرب الغامضة في أجواء مدينة فلورا المحتضرة في منطقة الغال. كانت تلك المدينة مشهورة في الماضي كمركز بناء السفن الحربية، ومعروفة أيضًا بكونها مسقط رأس فرانثيسكو فرانكو، ولكنّها اليوم في حالة تردٍ مزرية. تتسكّع في المدينة جوقة من المسنين يرددون أغاني جريئة في جميع أنحائها، في حين يتعاطى الشباب العاطل عن العمل الكحول. من آفات المنطقة المتداعية وجود عددٍ كبيرٍ من السيارات التي لا يعرف أحدٌ أين يجب ركنها، لتتحوّل إلى أكوامٍ من الخردة المعدنية الصدئة. ولكن ما يبدو مثيرًا للاهتمام في الرواية يبدو باهتًا على الشاشة، ولا يترك أيّ انطباع.
شارك في المسابقة عدد من الأفلام الوثائقية والتجريبية، منها الفيلم الفنلندي "موسى"، للمخرجين جيني ولاوري لوختا، وهو محاضرة سينما يلقيها فنان متنكر على صورة إيمانويل فيليكوفسكي، وتعتمد على آخر أعماله "موسى والتوحيد". وفقًا لمفهوم "التاريخ النفسي/ تاريخ البسيكولوجيا"، كان موسى مصريًا، وليس عبدًا يهوديًا، الأمر الذي غدا مناقضًا لحالة فيليكوفسكي، هو اليهودي المولود في تشيكيا، والذي أكمل حياته في لندن هربًا من النازية، والذي عاش ثلاثة أسابيع من الحرب العالمية الثانية.
ولا يقلّ هذا التشابه الموازي عن التوازي الذي رسم في فيلم "تحت شمسٍ زرقاء"، عن التشابه بين الغزو السوفياتي لأفغانستان، والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي يقطنها البدو. في أواخر الثمانينيات، يسافر المخرج الفرنسي دانييل مان إلى صحراء النقب لتصوير فيلم رامبو الثالث، ويكتب من هناك رسالة إلى الممثل سيلفستر ستالوني يحثّه فيها على مساعدة الفقراء الفلسطينيين.
لم يخلُ الفيلم الألماني "السرّ" (إخراج ليا غارتلاوب) من السياسة. فالاسم الغامض المترجم عن الهيروغليفية المصرية يعني "الزرافة"، وهو الشخصية الرئيسة في هذا الفيلم الذي يحكي عن الصراع الطويل الذي يخوضه رجلٌ جشع وخائن مع عالم الحيوان الأعزل. كما يحكي الفيلم عن المحاولات الخجولة التي يقوم بها بعض البشر للحفاظ على معجزة الطبيعة، التي تغنّى بجمالها نيكولاي غوميلوف، مذكّرًا حبيبته المكتئبة بأنّ "زرافة رائعة تتجول في بحيرة تشاد". هذه المعجزة التي يتوجب على العقلاء حمايتها وإنقاذها من غباء وجشع البشر.
من دون أن يدخل المنافسة، عرض الفيلم الروسي "رماد وديناميت" للمخرجة توما سيليفانوفا، ضمن برنامج Bright Future. تلعب سيليفانوفا دور البطلة أيضًا، وهي مخرجة تقوم برحلةٍ مع موسيقي ألماني إلى أنقاض معسكرات أشغال شاقة قديمة. روح تلك المنطقة مليئة بآثار الماضي تتردد فيها أصداء مأساةٍ تاريخية. على الأرجح، نحن أمام واحد من الأفلام التي تتحدث عن موضوع الماضي، مع تلميحٍ واضحٍ إلى الحاضر، وربما المستقبل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.