}

انتصار الثقافة على تسلّط الدولة... سولجنيتسين مثالًا

سمير رمان سمير رمان 3 مارس 2024
تغطيات انتصار الثقافة على تسلّط الدولة... سولجنيتسين مثالًا
أدين سولجنيتسين بالخيانة، ونزعت منه الجنسية السوفياتية (Getty)
قبل خمسين عامًا، في 13 من فبراير/ شباط عام 1974، نُقِل الكاتب السوفياتي المعارض ألكسندر سولجنيتسين إلى مطار شيريميتييفو في موسكو، ووضع على متن طائرة متجهة إلى فرانكفورت في ألمانيا. بقي سولجنيتسين حتى ثمانينيات القرن الماضي العدو رقم واحد بالنسبة للنظام السوفياتي، ولم يعُد إلى بلاده إلا في بداية التسعينيات، بعد أن وافقت السلطات في موسكو على نشر جميع أعماله الرئيسية عقب انهيار الاتحاد السوفياتي.
عمّدت قصة "أحد أّيام إيفان دينيسيفيتش" سولجنيتسين باعتباره كاتبًا بارزًا، ولاقت إعجاب القراء والنقاد كتحفة فنية أدبية. حتى خروتشوف نفسه قرأها ورأى أنها قريبة من الشعب، يفهمها وتلبي تطلعاته. ومن ناحية أُخرى، نُظر إلى القصّة كأداةٍ تساهم من الناحية الفكرية في تعزيز نهج خروتشوف في سعيه إلى التخلص من عبادة شخصية ستالين، الأمر الذي جعل السلطات تولي اهتمامها بالكاتب، فانهالت عليه الدعوات لحضور لقاءات القيادة السياسية بالنخب الثقافية.
في البداية، لم يرد الكاتب الصدام مع الدولة، وراح يخطط لمستقبله الأدبي بصورةٍ براغماتية محاولًا استغلال المساحة التي تتيحها الدولة لأمثاله، ولكنّه اصطدم بمشكلةٍ تمثلت بتعدد توجهات أركان الدولة منعته من تحقيق ما كان يصبو إليه.
خلال مسيرته الأدبية، تحول سولجنيتسين شيئًا فشيئًا إلى الليبرالية، الأمر الذي تجلّى بوضوح في رواية "أرخبيل كولاغ"، التي حاول فيها تلخيص الآثار التي خلّفها التشدد البلشفي، وخلد ذكرى ملايين المواطنين الذي عانوا وسقطوا بسببه. بعد خلع خروتشوف، حاولت الدولة أن تمحو من ذاكرة ووعي الجماهير النتائج التي خلّفها ذلك التشدد، ولكنّها في الوقت نفسه بدأت تمارس بعضًا منها، ولكن بصورةٍ مخففةٍ بعض الشيء.
بشكلٍ ما، بدأ الصدام بين سولجنيتسين والدولة، التي كانت المبادرة في إثارته. في عام 1965، وأثناء تفتيش إحدى الشقق التي تعود لأحد أصدقائه، وقعت بيد عناصر (كي. جي. بي) نسخة غير معدّةٍ للنشر من مخطوطات سولجنيتسين كان أودعها عنده. أدركت أجهزة الأمن على الفور درجة إنكار سولجنيتسين للتجربة السوفياتية، فقامت الدوائر الحزبية المرتبطة بتلك الأجهزة، وكذلك اتحاد الكتاب الذي يتبع له عمليًا، بمطالبته بإعلان ندمه المطلق، الأمر الذي يعني تخليه نهائيًا عن وجهة نظره. كان سولجنيتسين مستعدًا لإبرام صفقةٍ مع السلطات، ولكنّه أدرك، بعد رفض السلطات المتكرّر نشر روايته "جناح السرطان" (التي يظهر فيها النقاشات والخلافات في مواضيع الأيديولوجيا والصراع مع المرض والصراع مع الموت، وكذلك العالم الداخلي لنزلاء القسم السرطاني)، أنّ إمكانية التوصل إلى تسوية مع السلطة قد أصبحت معدومة، فقرر نهاية عام 1977 الظهور إلى العلن بصفته معارضًا للسلطة السوفياتية، لتكون رسالته إلى المؤتمر الرابع لاتحاد الكتاب السوفيات عام 1967 أول خطوة في مواجهة الدولة. في تلك الرسالة، اتهم سولجنيتسين اتحاد الكتاب بأنّه لا يدافع عن أعضائه في مواجهة قمع أجهزة الدولة، وأنّه لا يقاوم الرقابة على النشر، بل ويساهم فيها أيضًا.
من المفهوم أنّه منذ تلك اللحظة افترقت طرق السلطة والكاتب. وسيكون الصدام بينهما مسألة وقتٍ لا أكثر. جاءت اللحظة الحاسمة بداية عام 1974 مع نشر رواية "أرخبيل كولاغ"، التي سبق لأجهزة الأمن أن صادرت مسودتها غير المعدّة للنشر بعد في لينينغراد عام 1973. بعد هذه الواقعة، بادر الكاتب إلى توجيه الضربة الأولى، عادًا أن الهجوم هو أفضل وسيلةٍ للدفاع في مواجهة السلطات. تمثّلت الضربة الأولى بإصدار تعليماته بنشر الرواية في الغرب، الأمر الذي لاقى صدىً عالميًا دفع السلطات السوفياتية إلى إصدار الأوامر باعتقاله ونفيه خارج البلاد.
بعد نفي تروتسكي عام 1927، كان نفي سولجنيتسين الأول من نوعه في تاريخ الاتحاد السوفياتي. ومن جديد، لم تجرؤ السلطات على المساس بخصمها، بل قامت بإخراجه خارج حدود سلطتها، معلنةً بذلك عجزها التام. سيكتب سولجنيتسين لاحقًا: "لو قامت السلطات بنفيي إلى سيبيريا، حيث لن يكون في مقدوري التواصل مع العالم الخارجي، لكان الأمر أكثر نجاعةً بالنسبة للسلطات". وبالفعل، لم تكرّر السلطات السوفياتية في ما بعد مثل هذا الإجراء بحقّ أيٍّ من المنشقين، أو المعارضين.




كتب سولجنيتسين في خريف عام 1973 مقالته "رسالة إلى قادة الاتحاد السوفياتي"، ينتقد فيها النظام الاجتماعي، وجّهها إلى بريجنيف شخصيًا. تفيد المعلومات الأرشيفية أنّ الرسالة وصلت مكتب بريجنيف، الذي لم يفهم شيئًا مما كتبه سولجنيتسين. وحده وزير الداخلية، شيلكوف، وجّه تقريرًا خاصًّا إلى بريجنيف يقول فيه إنّ على السلطات أن تستنتج الدروس من تعاملها مع الكتاب الطليعيين، وأن تجد طريقةً للتفاهم معهم، واقترح في النهاية: "دعونا نحارب إلى جانب سولجنيتسين وأمثاله، وليس ضدّهم". ولكن النصيحة لم تلقَ آذانًا صاغية!
أصبح معروفًا اليوم أن المكتب السياسي للحزب الشيوعي قد ناقش قضية سولجنيتسين خلال اجتماعه في يناير/ كانون الثاني عام 1974، حيث يتضح من محاضر الاجتماع أنّ القرار النهائي بترحيل الكاتب لم يتخذه المكتب السياسي، بل اتّخذ خارج المناقشات التي قال معظم المتحدثين خلالها، بمن فيهم ليونيد بريجنيف، بضرورة اتخاذ إجراءات قاسية للغاية بحقّ الكاتب المتمرد، من دون التطرق إلى ترحيله. ولكنّ محاضر الاجتماع تظهر أيضًا تلميحاتٍ أبداها على الأرجح أندروبوف، تتخوّف من إثارة مزيدٍ من الفضائح على المستوى الدولي كتلك التي أعقبت منح سولجنيتسين جائزة نوبل للأدب عام 1970.
من جانبٍ آخر، بسماحها له بمغادرة البلاد، وفرت السلطة السوفياتية لسولجنيتسين فرصةً للتطور اللاحق، وليعزز نشاطه الاجتماعي، وجعلت منه معارضًا بارزًا مشهورًا وبالغ التأثير. بالطبع، ولسنواتٍ طويلة، نظر العالم إلى سولجنيتسين كمنشق، الأمر الذي لم يؤكده الكاتب يومًا. كان وضعه فريدًا من نوعه، هو الذي رفض دعوة من البيت الأبيض للقاء مع الرئيس الأميركي، كلقاء غير شخصي، بل لقاءً جماعيًا دعي إليه كثيرون. بهذا المعنى، لم يعد قرار السلطات السوفياتية بأيّ فائدة عليها. ومن جانبٍ آخر، لم يكن ممكنًا لأحدٍ في دوائر السلطات السوفياتية تخيل درجة الاستياء التي سيبديها المجتمع الدولي في حال اعتقال سولجنيتسين وإدانته وزجّه في السجن. فالحكومة، التي تلاحق كاتبًا يتمتع بشهرةٍ عالمية وحائزٍ على جائزة نوبل، ستبدو ولا شكّ في وضعٍ سيء للغاية من وجهة نظر السياسة الخارجية. بالإضافة إلى ذلك، ستدفع هذه الخطوة، في حال اتخاذها، كثيرًا من أنصار ومؤيدي الاتحاد السوفياتي لإدانته، وهو الأمر الحاسم الذي جعل موسكو تحجم عن ملاحقة وسجن الكاتب.
أدين سولجنيتسين بالخيانة، ونزعت منه الجنسية السوفياتية، كما منع من العودة إلى البلاد. من المفهوم أنّ هذه الإجراءات غيّرت الرأي العام، وفهم جميع أولئك الكتاب، الذين تراكمت لديهم تناقضاتٍ مع السلطة، أنّ وجودهم الإبداعي والجسدي سيكون في مشكلةٍ حقيقية إن هم بقوا في الاتحاد السوفياتي. شكّل هذا الوضع بداية الموجة الثالثة من هجرة العقول المبدعة، تلك الهجرة التي امتدت من سبعينيات إلى بداية تسعينيات القرن الماضي. في تلك الفترة، حدث لغط وصخبٌ كبيران بعد خروج كتاب كبار، مثل تاركوفسكي، ولوبيموف، اللذين كانا من العمالقة على ساحة الفنّ السوفياتي الرسمي. لقد كانت تلك الفترة مرحلةً فارقة في العلاقات بين النخب المثقفة والسلطة السوفياتية.
في الخارج، تمحورت أنشطة سولجنيتسين الإبداعية والاجتماعية إلى حدّ كبير حول محاولة التغلب على التجربة السوفياتية المؤلمة، وكذلك في العمل على استعادة الكتاب الروس المكانة الاجتماعية والحرية الاجتماعية التي كانوا يتمتعون بها قبل 1917. لم يكن سولجنيتسين يدعو إلى اتباع التجربة الغربية، بل العودة إلى التجربة الروسية ما قبل الثورة، أي التغلب على ما كان يراه ظلامًا سوفياتيًا. وقد تجلّى هذا في عودة سولجنيتسين إلى نشر مجموعة صحافية اجتماعية سياسية تعمل على استعادة الفكر الفلسفي والصحافي المستقل.
في واقع الأمر، اكتسب سولجنيتسين شهرته العالمية ليس كمؤلفٍ لكتابٍ سياسي، أي رواية "أرخبيل كولاغ"، بل كمؤلّفٍ لروايتين عظيمتين: "في الدائرة الأولى"، و"جناح السرطان"، وهما روايتان روسيتان حتى النخاع، ينظر إليهما كعودةٍ إلى الأدب الروسي العظيم. منذ زمنٍ بعيد ضاعت الآمال بعودة الأدب الروسي إلى جذوره الكلاسيكية، لدرجةٍ جعلت مارك ألدانوف يقول في خمسينيات القرن الماضي: "من المستحيل أن نرى تولستوي جديد في ظلّ البلشفية، وأنّ هذه حقيقة غير قابلة للنقاش". أمّا سولجنيتسين فقد رسخ في أذهان الغربيين، على الأقل، أنّه بمثابة تولستوي آخر جديد تذهل رواياته القارئ، كما كانت حال روايات تولستوي الخالدة التي كتبت وفق تقاليد الأدب الروسي الكلاسيكي.
تحظى القضايا الوجودية التي درجت الرواية الروسية الكلاسيكية على معالجتها بشعبية هائلة في الغرب، وهو الأمر الذي عاد إليه في رواياته، وشكلت السبب الرئيس الذي أوصله إلى جائزة نوبل عام 1970 التي نالها قبل فترةٍ طويلة من صدور "الأرخبيل"...
استمرت المواجهة بين سولجنيتسين والسلطة السوفياتية لعقود، وتوجت بانتصار ساحق للكاتب في مواجهة الدولة. بعد البيريسترويكا، عاد سولجنيتسين إلى روسيا بشروطه الخاصّة، بعد أن تمّ نشر جميع أعماله.
كانت قصّة سولجنيتسين الأكثر إثارةً بين قصص انتصار الثقافة على الدولة. ولقد أثبت تاريخ الثقافة أنّها لا يمكن أن تزدهر إلا من خلال منطقها الداخلي، وليس من خلال تأثير مراكز السلطة وإملاءاتها. من وجهة نظرٍ تاريخية، قد يكون انتصار سولجنيتسين شكّل نوعًا من الانتقام لثقافة قمعت وطردت من البلاد.
واليوم، أدرجت كتب سولجنيتسين في المناهج الدراسية، وشيّدت له التماثيل، وافتتحت متاحف وشوارع حملت اسمه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.