}

"صناعة العدوّ في الإعلام": الحرب على ثقافة السكان الأصليين

نجيب مبارك 20 مايو 2024

لا شك في أن "صناعة العدو" كانت ولا تزال من بين الاستراتيجيات التي ينتهجها عدد من الأنظمة، سواء في سياساتها الداخلية، أو الخارجية، نظرًا إلى كون ذلك يتيح لها إلهاء شعوبها عن مختلف الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى تعزيز التماسك الاجتماعي بين الأفراد داخليًا، وتقوية شعورهم بالانتماء. لذلك فهذه الأنظمة تسعى بكل استماتة لتوهم خصم، يكون خارجيًا في الأغلب، ثم "شيطنته" واستعدائه قصد إضفاء الشرعية عليها، وتبرير السياسات والقرارات التي تتخذها. هذه الفكرة هي فقط واحدة من الأفكار التي يدافع عنها كتاب بالإسبانية بعنوان "صناعة العدو في الإعلام: ثقافة السكان الأصليين والحرب الإعلامية في تشيلي" (2021)، للكاتب التشيلي كارلوس ديل بايي روخاس، والصادر بالعربية مؤخرًا عن مختبر اللغة والترجمة والتواصل والثقافة التابع لكلية الآداب في الرباط، بترجمة وتقديم من الأستاذين عز الدين الطاهري، وعبد اللطيف اشن.
إن عملية صناعة الأعداء والعقلية التي تنطلق منها لم تولدا اليوم، بل إن جذورهما ضاربة في القدم، إذ كان لصناعة العدو دور كبير في كثير من الحروب، كما هي الحال مع دور المحور إبان الحرب العالمية الثانية. فقد ساهمت هذه الصناعة في تماسك الجبهة الداخلية لهذه الدول. كما أن صعود النازية قام على أساس شيطنة أدولف هتلر للعدو المتمثل في اليهود والاشتراكيين. وبناء على هذا الفهم، تم توجيه مشاعر وقوى الشعب الألماني ضد هذا العدو، فاستطاع هتلر، بذلك، أن يوحد قطاعًا واسعًا من شعبه تحت مشروعه التوسعي. وفي الوقت الراهن، تطور مفهوم العدو، وأصبح له دور اجتماعي وسياسي يؤديه في المجتمعات المعاصرة، إذ صار خيارًا سياسيًا يتم صناعته وتصويره بالطريقة التي تخدم الأهداف الاستراتيجية.
أيضًا، من أهم الأفكار التي يدافع عنها هذا الكتاب أن الصناعة الثقافية، ولا سيما وسائل الإعلام والأدب، أصبحت متخصصة في صنع العدو كطرف داخل منظومة عالمية لتفسير الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي. لقد انتشرت عملية خلق الأعداء هذه على نطاق واسع، تحديدًا بعد انطلاق عمليات العولمة، سواء الدينية (مع الاستقلالية الترابية في القرن 15)، أو الدولة الوطنية (مع تشكل الدول ابتداء من القرن الـ 19) والسوق النيوليبرالية (مع فرض النيوليبرالية في القرن الـ 20). كان الهدف من جميع هذه الحالات هو خلق أعداء من أجل تبرير مختلف الخطابات والممارسات التي ستشجع، في كل فترة، إقامة نماذج مهيمنة، والتي سيكون لها بدورها أشخاص كثيرون يعادونها، من قبيل السود، والسكان الأصليين، والمهاجرين، والطبقة العاملة، والشباب، والمتظاهرين، ومسلوبي الحرية. فمن دون أعداء، لا يمكن ممارسة الهيمنة، لأنه، ببساطة، يتعين أولًا الاهتمام بمن سوف يرزح تحت وطأة السلطة.





يشتمل الكتاب على جزأين، يرتكز الجزء الأول على "صناعة العدو"، خاصة من خلال عمليات واستراتيجيات الانتقال الحضاري والإدماج داخل الدولة والمقاولاتية في السوق. أما الجزء الثاني فيتناول أساليب "عولمة العدو"، وتحديدًا من خلال استخدام استراتيجيات معينة في الصناعة الثقافية، كالشيطنة على سبيل المثال. ويرتكز العمل عمومًا على منظور متداخل التخصصات، من أدب وعلم اجتماع وعلم التواصل والدراسات البين ــ ثقافية. رغم أنه، في بعض الأحيان، يتطرق إلى جوانب محددة في تحليله، متناولًا ذلك من منظور أشمل وأوسع. كما يحيل، في الصدد نفسه، وبشكل مستفيض، على أهم الدراسات ذات الصلة، مع إظهار مساهماتها ومحدوديتها.
ولطرح مثال عملي عن صناعة العدو، انطلق المؤلف من ملاحظة وجود سيرورة تاريخية مُمنهجة ومُمأسَسة لتقديم السكان الأصليين في الإعلام والثقافة (خصوصًا في تشيلي، وباقي دول القارة الأميركية) كأعداء للمشروع الحضاري للدولة الوطنية. إن وجهات النظر المتعددة والمُشيطِنة للعدو ما زالت سارية هيكيليًا إلى اليوم، وخاصة من خلال الصحافة؛ حيث أن شيطنة العدو ليست ممارسة خاصة بالعنصرية الثقافية حصرًا، وإنما هي جهد علمي وسياسي وتاريخي، وما إلى ذلك من الحقول. كما أنها لا تجعل الآخر يُرى مختلفًا فحسب، وإنما يُلجأ إليها بشكل خاص "عندما لا يُرى شيء"، و"عندما لا يُفهم شيء"، بل أكثر من ذلك، عندما لا يراد أن يُرى، أو يُفهم شيء.
هذه الظاهرة سوف يصفها أشيل امبيمبي بالطيف (أو الشبح) في كتابه "نقد العقل الزنجي" (2016)، باعتبار أننا لا ندرك الشيء عندما لا يُرى ولا يُفهم، أو بالأحرى عندما لا يُسعى إلى إدراكه، بالشكل الذي "جعل الأسود يُخترع للدلالة على الإقصاء". وباتباع هذا الطرح، يمكن القول إن صناعة هذا الطيف تخضع لعقلانية تحاول أن تحل "محلّ جسد ووجه رجل ما" استنادًا على مصالح النموذج الاقتصادي الرأسمالي، الذي يسعى من خلال طيف السود والسكان الأصليين والمهاجرين والآثمين والنساء، من بين آخرين، إلى الإجابة عن السؤال الذي ظل يطرح بلا انقطاع منذ القرن السابع عشر: "ما السبيل إلى تشغيل عدد كبير من اليد العاملة لمصلحة إنتاج موجه للتجارة البعيدة المدى؟"؛ لأن الواقع يُظهر أن العبيد شكلوا "القوة العاملة الأكثر حركية". وعليه، فهي عقلانية أدواتية تستغلّ طيفًا من المهمشين، أي أنه نظام تقني ــ تكنولوجي، وقانوني ــ قضائي، واقتصادي ــ سياسي، واجتماعي ــ ثقافي معقّد، تنتج عنه مجموعة من الخطابات والممارسات بهدف تبرير الهيمنة الاقتصادية والسياسية والتجريد من الأهلية الأخلاقية والاستخدام الفعال.
يرى الكاتب أن أنماط هذه الصناعة كان لها بالتأكيد تأثير مؤلم، لأنها صدمة ناتجة عن جرح في الذاكرة. وفي هذا الصدد، يسمح استخدام مفهوم "الشبح" لمعالجة كثير من الإشكاليات المرتبطة بالصراع بين الدولة القومية والمجتمع العرقي. فالعدوّ هو في الوقت نفسه حضور وطيف واستعارة صنعته السلطة القائمة في محاولة مستمرة "لتبخيس وتشكيك ومساءلة فكرة ومشروع التغيير والثورة والتحول". والشيء المثير للاهتمام في كون العدو شبحًا هو أنه لا يموت، ولا يسمح بالقضاء عليه. إن قدرة السلطة هي التي تسمح باستمرار خضوع الآخر، من خلال مختلف الاستراتيجيات. لهذا، فإن فكرة الشبح تساعد في فهم هذا الميل العنيد لإخضاع الآخر، كونه عدوًا لم يكن له أبدًا وجه واحد وهوية واحدة. وكان من الممكن دائمًا تشكيله حسب الرغبة ووضعه في السياق.
بالنسبة للأدب، يعد السكان الأصليون هم الشبح الضروري للقصص والخطابات الوطنية، التي تسعى إلى استحضار واقع خيالي، كالهوية الوطنية، بناء على سجن أشباح هذه التجربة، والتي عند حفظها مطبعيًا، تتحرّر لاحقًا من أذهان القراء، لأنها محتلة في حيوات دونية، أو طرائفية، بالقوة نفسها التي ترتقي فيها، في بعض الأحيان، إلى حيوات بطولية. إنهم أشباح لأنهم يمثلون حياة الأبطال والرعاع في الوقت نفسه. وفي هذه الحالة المزدوجة، ينتهي بهم الأمر إلى الإبادة. إن تحولات العدو ــ في أوقات وأدوار مختلفة- وفرت له حضورًا ماديًا وغير مادي، بحيث يخبرنا ظهوره واختفاؤه عن حالته وحالة من ينتجه. لأن العدو، قبل كل شيء، هو علاقة وجدل طيفي. هذه الخصائص تعني القدرة على التواجد دائمًا. العدو هو عدو موسمي وفي الوقت نفسه عدو تاريخي. إنه عدو الاستعمار والدولة القومية والسوق، وفي الوقت نفسه العدو الدائم لتاريخ البشرية. لديه القدرة على النهوض بالسلاح لمواجهة الغزو والإبادة الجماعية لدولتي تشيلي والأرجنتين (مثلًا) من دون أن يتوقف عن كونه العدو اللّدود لنموذج الدولة القومية، التي ستظهر باستمرار.
الخلاصة أن مثل هذا العدو يمكن أن يُقتل، ولا يُقتل، كذلك، لأن الشبح يظهر ويختفي فقط ليظهر مرة أخرى. لكن العدو سيكون دائمًا هناك، لأنه من إبداع من ينتجه، وبالتالي فهو لا يمثل نفسه فحسب، بل يمثل أيضًا خالقه. العدو أيضًا هو العامل غير المستقر، المستبعد من نظامي الصحة والتعليم والمحكوم عليه ببؤس نموذج المعاش، أو التقاعد. العدو هو الهامش. وإجمالًا، فالعدو هو علاقة واستجابة، وهو مقياس إرادة من يخلقه. لأن ثائر الأمس هو مفتقر اليوم، كما أن مفتقر اليوم هو ثائر الغد. وما التجريم والتصنيع إلا جهدان لإقامة علاقة، لكنهما سينتجان بدورهما رد فعل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.