}

جائزة البوكر الدولية: تشابك التحولات الشخصية والوطنية في ألمانيا

سناء عبد العزيز 31 مايو 2024
تغطيات جائزة البوكر الدولية: تشابك التحولات الشخصية والوطنية في ألمانيا
جيني إربينك
على الرغم من كونها واحدة من أهم كتاب ألمانيا، لم تحصل الكاتبة جيني إربينك على جائزة كبيرة من بلدها، إلى أن فازت روايتها "كايروس" بجائزة البوكر الدولية لعام 2024، في حفل أقيم في متحف تيت مودرن في لندن يوم 21 مايو/ أيار، فإذا بها تصبح أول كاتب ألماني يتوج بالجائزة المرموقة التي تُمنح لأفضل عمل روائي من جميع أنحاء العالم تمت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية ونشره في المملكة المتحدة و/ أو أيرلندا. كما أصبح مترجمها، مايكل هوفمان، أول مترجم ألماني يفوز بالجائزة. ولعل أهم ما يميز البوكر الدولية هو تسليطها الضوء على دور المترجم باعتباره شريكًا في عملية الإبداع، وحرصها على تقسيم مبلغ الجائزة (50 ألف جنيه إسترليني) مناصفة بين المؤلف ومترجمه.

ما بعد سقوط الجدار

في برلين الشرقية عام 1967، ولدت الطفلة جيني إربينك لعائلة أدبية. والدها هو الكاتب والفيزيائي جون إربينك، وأمها المترجمة دوريس كيلياس، التي نقلت إلى الألمانية أعمال نجيب محفوظ، وإبراهيم أصلان، ومحمد شكري، وغيرهم كثير من رموز الرواية العربية المعاصرة. أما جداها من جهة الأب فهما الكاتبان فريتز إيربينك، وهيدا زينر، التي كانت تكتب تحت الاسم المستعار إليزابيث فرانك. مع كل تلك الخلفية الأدبية، اهتمت جيني في بداية حياتها بالموسيقى، ثم اتجهت لاحقًا إلى الكتابة. صدر أول كتاب لها- "قصة الطفلة العجوز"- عام 1999، وهو عبارة عن نوفيللا تتبع امرأة ثلاثينية لا تجرؤ على الاعتراف بعمرها الحقيقي، بل تجوب الشوارع بدلو فارغ متظاهرة بأنها فتاة في الرابعة عشرة، باعتبارها رمزًا للمواطن الألماني الذي عجز عن تحمل المسؤولية بعد انهيار حائط برلين. في روايتها "نهاية الأيام" الفائزة بجائزة إندبندنت للرواية الأجنبية عام 2015، منحت بطلتها عددًا من الحيوات المحتملة، بعد أن دفعتها تيارات سياسية عدة متقاطعة نحو ميتات مختلفة. أما روايتها الثالثة "أشياء تختفي"، التي تحكي قصص مجموعة من اللاجئين الأفارقة في برلين، جنبًا إلى جنب مع قصة أستاذ متقاعد اهتز إحساسه بالوطن بسبب سقوط جدار برلين، فقد أدرجت في القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية لعام 2018.
كتبت إربينك أيضًا المسرحية والقصة القصيرة، وتُرجمت أعمالها إلى أكثر من 30 لغة، ما جعلها تحظى بشهرة أوسع خارج وطنها، وهذا ما شجع بعضهم على ترشيحها في الآونة الأخيرة لنيل جائزة نوبل في الآداب.
"كايروس" هي الرواية الرابعة في مسيرة إربنيك المنصبة في جوهرها على انهيار الجدار، وضياع الوطن. وترصد قصة حب مثالية وشائكة بين فتاة في التاسعة عشرة من عمرها تدعي كاثرينا، وهانز الفنان الذي يكبرها بـ 34 عامًا، وهو رجل متزوج وله ابن.




وبالرغم من صيغة المضارع المستخدمة في الخطاب، فإن الرواية تعتمد كليًا على تقنية الاسترجاع، وقدرتها على إحداث حركة في السرد، حيث تبدأ بكاثرينا وهي تتسلم صناديق أوراق حبيبها القديم عقب وفاته، وحين تشرع في فتحها، تفوح رائحة الماضي لتتشكل قصتها من بين الأوراق، فإذا بالعاشقين يلتقيان مصادفة لأول مرة في حافلة في برلين الشرقية عام 1986.

حوار بين الماضي والمستقبل

تبدو العلاقة كما لو كانت معجزة منحتها السماء لرجل وفتاة من جيلين مختلفين، فإذا بالحب يتجسد عظيمًا وقد استمد قوته من شغفهما المشترك بالفن والموسيقى، على الرغم من حقيقة أن هانز متزوج وله ابن وحياة مكتملة في الماضي، بينما كاثرين لا تزال على أعتاب المستقبل، وفي حالة نمو وتغير. لكن أكثر العلاقات تأثيرًا في مستقبل أي أنثى هي تلك التجربة الأولى التي خبرتها مع رجال ناضجين. ربما لأن معشر الناضجين يعرفون تمامًا نقاط ضعف أي مرحلة خبروها من قبل. وما يدعو إلى الذعر، حقًا، هي تلك الرغبة الشريرة داخلهم في فرض سيطرتهم على الآخر حد الإذلال. بمرور الوقت، يتحول العاشق إلى جلاد، ويعاقبها لأدنى هفوة تتفق مع طبيعة سنها وروحها المرحة، في محاولة لتدجينها وإجبارها على الخضوع. ومع تزايد قسوته لتثبيت الوضع على ما كان، تُسحق الطفلة تمامًا على يده، ويصبح القارئ متورطًا في توقها إلى الحرية.
يرى الناقد جون باورز أن إربينك "تدرك أن قصص الحب العظيمة يجب أن تدور حول أكثر من مجرد الحب ذاته، حتى والكاتبة تؤرخ قصة حب رومانسية كاثرينا وهانز بكل تفاصيلها المؤلمة، فإن علاقة حبهما تصبح أشبه برمز إلى ألمانيا الشرقية، التي بدأت على أمل مستقبل مشرق وانتهت بالاتهام والعقاب والفشل".



يتداخل الشخصي والسياسي عادة في كتابة إربينك، حيث تبدأ العلاقة بين العاشقين في الانهيار تجاوبًا لما يحدث في العالم من حولهما، من انهيار جدار برلين وزوال جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وما ترتب عليه من زعزعة كل ما كان يقينًا راسخًا، حتى عاطفة الحب القوية، فإذا بالفتاة تتقلب من موضعها، تاركة وراءها ماضيًا مسمومًا كانت تظنه ذات يوم عين الصواب، وجاءت التداعيات لتؤكد لها مدى خطأِها. كذلك البلد المصر على التمسك بالماضي بعد أن أدرك شبابه أن عليهم المضي قدمًا.
"كايروس"، إذًا، هو إله الحظ والفرص المواتية عند الإغريق، شرط أن يقتنصها الإنسان في اللحظة المناسبة، لكن اقتناص الفرصة، وتحرر كاثرينا من مدار هانز قد يحقق لها الحرية، وإن كان لا يضمن لها النجاة من تقلبات الزمن.

الحاضر الأبدي

بدأت إربينك في كتابة روايتها بعد الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين عام 1989، إيمانًا منها بأن الكتابة الجيدة تشترط مسافة كافية تضمن الاستيعاب والرؤية بوضوح، كتبت تقول "لقد مر ثلاثون عامًا منذ رحيل البلد الذي ولدت فيه، لذلك كان في إمكاني أن أجرؤ على النظر إلى الوراء، وآخذ وقتي للبحث بعناية عما عشته من دون أن أدرك ذلك حقًا". لقد أصبحت طفولة إربينك متحفًا بعد سقوط الجدار، لهذا تقول: "أحب المتاحف والمعارض، كما أحب تجميع الأشياء معًا ليعلق بعضها على بعض".




وكما تستخدم إربينك صيغة المضارع لتقيم حوارًا بين الماضي والمستقبل، تعمد إلى تحرير سردها المضيء من علامات الترقيم، وهو ما وجده مترجمها مايكل هوفمان يتناسب مع حساسيته، يقول في حوار نشرته "الغارديان" عقب فوزه بالجائزة: "على القارئ إحضار علامات ترقيمه معه... أنت تعرف ما الذي يفكر فيه شخص ما ولا يقوله، أو ما يقوله ولا يفكر فيه. إنه يبقيك على أطراف أصابعك. هنالك شيء طفولي بعض الشيء في الحاجة إلى مثل هذه العلامات".
هوفمان بدوره من أكثر الشخصيات الأدبية تأثيرًا في ألمانيا، فهو شاعر وناقد فضلًا عن كونه مترجمًا محترفًا. ترجم عشرات الكتب من الألمانية إلى الإنكليزية، بما في ذلك كتب فرانز كافكا، وهانز فالادا، وسبق أن أشادت "الغارديان" بقدرته على "إحياء سمعة المؤلف بمفرده"، واصفة إياه بأنه "المترجم الأكثر تأثيرًا في العالم من الألمانية إلى الإنكليزية".
فاز هوفمان بجائزة إندبندنت للرواية الأجنبية عام 1995، عن ترجمته لرواية والده غِرت هوفمان "مفسر الفيلم". وكان عضوًا في لجنة تحكيم جائزة البوكر الدولية لعام 2018، وهو العام نفسه الذي تم فيه إدراج إربنيك في القائمة الطويلة سابقًا، ولكنها المرة الأولى التي يتعاونان فيها معًا. لهذا لم يفته أن يتوجه إلى جيني بالشكر وهو يتسلم الجائزة على المنصة قائلًا بسعادة غامرة: "لقد كنت محظوظًا حقًا لأنه طُلب مني ترجمة هذا الكتاب... وأشكر جيني على ثقتها بي".
تقول رئيسة لجنة التحكيم، والمذيعة إليانور واتشيل، في بيان لها، إن الرواية هي "استحضار غني لعلاقة حب معذبة، وتشابك التحولات الشخصية والوطنية"، كما تشيد في بيانها على صفحة الجائزة "بالطريقة التي استخدمت بها جيني قصة شخصية كوسيلة لفحص المكائد السياسية الأوسع في ألمانيا". مضيفة أن ترجمة هوفمان "تجسد بلاغة وغرابة كتابات إربينك، وإيقاع جملها المتتابعة، واتساع مفرداتها العاطفية".
انضم إلى واتشيل في لجنة التحكيم الشاعرة ناتالي دياز، والروائي روميش غونيسيكيرا، والفنان التشكيلي ويليام كينتريدج، والكاتب والمحرر والمترجم آرون روبرتسون.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.