}

هشام مطر يفوز بـ"جائزة أورويل" للخيال السياسي: المنفى والصداقة

سناء عبد العزيز 4 يوليه 2024
تغطيات هشام مطر يفوز بـ"جائزة أورويل" للخيال السياسي: المنفى والصداقة
(Getty)

 

فاز الروائي الليبي الأنغلوفوني هشام مطر بـ"جائزة أورويل" هذا العام عن روايته الثالثة "أصدقائي" الصادرة عن دار "راندوم هاوس للنشر" أول العام. وهي إحدى الجوائز التي تمنحها مؤسسة أورويل المستقلة لروائي تمكّن من "تحويل الكتابة السياسية إلى فن" على نهج أورويل المعروف بمحاولاته الدائبة في كشف مخاطر التضليل والشمولية كما اتضح في "مزرعة الحيوان" و"1984".

تأسست الجائزة عام 1993، على يد المُنظِّر السياسي البريطاني السير برنارد كريك الذي استفاد من عائدات كتابه السيري عن أورويل، وعلى مدار ربع قرن تقريبًا، قامت بتكريم الكتابة الواقعية والخيالية معًا، إلى أن أطلقت المؤسسة في عام 2019، جائزة جديدة تخص الرواية السياسية وحدها، ليصل مجمل التكريمات التي تمنحها مؤسسة أورويل للكتابة السياسية إلى خمسة جوائز هي: الكتب الواقعية، الرواية، الصحافة، والتغطيات الإعلامية، فضلًا عن جائزة أورويل للشباب، من أجل "دعم وإلهام جيل جديد من الكتاب الشباب الملتزمين بالسياسة".

خدعة الزمن الروائي

منذ فجر التاريخ، برهنت الحكاية على أنها فن زماني بلا منازع، كما أثبت الخيال قدرته على تحويل مجرى الزمن المندفع دائمًا وأبدًا إلى الأمام دون أن يحيد عن مساره، ليجبره تارة لأن يعود للوراء أو ينطلق بخفة نحو المستقبل، وذلك عن طريق تقنيتي الاستباق والاسترجاع وما ينجم عنهما من حركة ومرونة في سرد الأحداث. 

تبدأ "أصدقائي" من لحظة قريبة في حاضر الزمن، تحديدًا عام 2016، حين يلمح الراوي صديقًا قديمًا له في محطة القطار وهو على وشك مغادرة لندن، فإذا بالطريق الذي يقطعه مشيًا من المحطة إلى شقته غرب البلاد، يتحول إلى مسرح لأحداث شخصية وتاريخية وقعت في الماضي، ومن ثم يغرق البطل في تيار استعادي يبلغ مداه 35 عامًا، فيما تتقلص سعته إلى حوالي ساعتين حتى يصل إلى بيته.

نبتت فكرة رواية عن الصداقة في ذهن مطر منذ سنوات "ببطء غير عادي". كما يذكر في حوار معه: "عندما كنت في باريس أكتب ‘بلد الرجال‘، كتبت على ظهر ظرف فكرة بسيطة جدًا من سطرين لكتاب عن ثلاثة أصدقاء ذكور ينتهي بهم الأمر في أماكن مختلفة. بدأت أفكر في الأمر أكثر في عامي 2011 و2012 أثناء إحاطتي بأصدقاء شاركوا بشكل كبير في الربيع العربي، ليس فقط في ليبيا ولكن في مصر وتونس. لقد كان من المثير للاهتمام بالنسبة لي أن أرى أن الطريقة التي نتصرف بها في مثل هذه المواقف قد لا تتعلق بالقناعة السياسية بقدر ما تتعلق بالمزاج الشخصي. أردت استكشاف تلك الفكرة في رواية ولكني كنت بحاجة إلى الوقت والمسافة [العاطفية] [من تلك الأحداث]؛ في ذلك الوقت لم أكن لأتمكن من كتابة مشهد مثل ذلك الذي ورد في الكتاب عن مقتل القذافي".

إن أول ذكرى تشق طريقها إلى وعي خالد، بطل الرواية، هي المرة الأولى التي تعرّف فيها على صديقه حسام في بنغازي، وهو لم يزل في سن المراهقة، وإن لم يكن وجهًا لوجه. فقد عرف أفكاره وطريقته في السرد من خلال قصة سياسية استمع إليها برفقة أبيه في بنغازي عبر إذاعة "بي بي سي"، حين خرج المذيع عن مسار البرنامج على غير توقع، وراح يقرؤها في تحدٍّ سافر. وما جعل لهذه الواقعة امتدادًا في وعي خالد، هو خبر مقتل المذيع في ظروف غامضة بعد شهر من فعلته عبر الأثير.


العمر لحظة

يطرح مطر في روايته المنسوجة من قصص ثلاثة ليبين منفيين في لندن، فكرة المصادفة، والغموض الذي يكتنفها بعد فترة حين تتضح معالمها بمرور الزمن، كأن لهذا المرور غير المرئي طبيعة كاشفة، دائمًا ما يتصف بها الزمن، مع الأخذ في الاعتبار، مدى مبالغته في التخفي. وهكذا تتشابك حياة الثلاثة (خالد، حسام، ومصطفى) في بلد أجنبي اضطروا للفرار إليه أو البقاء فيه (كما في حالة خالد) وعاشوا مرارة النفي والحنين إلى أرض الوطن. يقدّم مطر شخصياته "في لوحات تاريخية، وبالتالي يمنح تلك الأحداث العامة فورية التجربة الشخصية"، كما كتبت لوسي هيوز هاليت في مراجعة "الغارديان" البريطانية للرواية. ويعتبر خالد أصغر أبطاله سنًا، وأقلهم رغبة في تبني دور الثائر منذ البداية. غير أن الصدفة لعبت دورها كي تجرّه إلى المشهد الحالي وتضعه في بوتقة واحدة مع المنفيين في لندن.

كان خالد ضحية ممارسات أب يشتغل بالسياسة في بلاد مثل ليبيا، كتب عليها أن تعاني الأمرّين أثناء حكم معمر القذافي، وقدّر للصبي أن يجرّب الحياة تحت وطأة الخوف في كنف أب مطارد، أو معتقل لسنوات في سجون بلاده. ومع حرصه على تجنيب ابنه نفس المصير، أرسله إلى لندن ليكمل دراسته باسم مستعار، ولم يفته توصيته: أن كل ما يحتاجه لتبديد الغربة، هو صديق أو صديقين لا أكثر.  

يبدو أن فكرة تعديل المسار لا تستجيب دائمًا لرغباتنا القوية. فما إن وصل خالد واستقر في منفاه، حتى اصطدم بموقف سيفرض عليه البقاء الدائم في سجن المنفى دون أن ينبس ببنت شفة. هنا يلتحم الواقع بالخيال، فيضطر خالد العائد من محطة قطار "سانت بانكراس" في لندن إلى المرور على السفارة الليبية، ليستقرئ المشهد الذي سيقلب حياته رأسًا على عقب. 

لم يكن خالد في سن مناسبة ولا ظروف تسمح بأي إزعاجات في بلد جديد، لقد أراد والده إبعاده ليتجنب مستقبلًا مظلمًا في بلد القذافي، ولكنه في غفلة من الزمن استجاب لدعوة صديقين لمشاهدة مظاهرة تعارض النظام أمام السفارة الليبية في لندن عام 1984. وهناك انشقت الأرض عن شياطين يؤيدون القذافي، لتسنح الفرصة للمسؤولين بإطلاق النيران الحية من نوافذ وأسطح السفارة في ساحة سانت جيمس، وهو ما تسبّب في قطع العلاقات الدبلوماسية بين بريطانيا وليبيا، وترتّب على ذلك ترحيل قسري للمسؤولين الذين تسبّبوا في مقتل 11 متظاهرًا وشرطية بريطانية على أرضهم.  

في حوار سابق يقول خالد عن تلك الحادثة: "أتذكر أنني سمعت أحدهم ينادي على والدته. وبعد خمس سنوات، أثناء دراستي في لندن، أصبحت صديقًا للرجل نفسه، ولم أكن أعرف لفترة طويلة أنه كان هناك. وفي وقت لاحق، عندما فكرت في كتابة رواية درامية كبيرة عن أمر خاص وحميم مثل الصداقة، تساءلت: ألن يكون من المثير أن أجعلهم يمرون بهذا الحدث الذي أثّر فيَّ كثيرًا؟".

ضريبة المرور بالحدث

كان خالد من بين المصابين الذين نقلوا إلى المستشفى، وقضوا هناك أسابيع للتشافي على حساب دراستهم في جامعة إدنبرة، ما جعل الربط بين الحادث وغيابهم عن الدراسة يلفت أنظار جواسيس القذافي ويحمل إشعارًا قويًا بإدراجهم على القائمة السوداء مثل والده، وفي الوقت نفسه، كان الخوف يمنعه من البوح لوالديه عبر الهاتف ليبرّر غيابه في الإجازات، لأن خطوط الهاتف، هي الأخرى، تحت المراقبة.

يصرّح مطر في كل حواراته أن مشهد السفارة تحديدًا لم يتمكن من نسيانه مطلقًا؛ إن محنة خالد وصديقيه هي أصعب اختبار يجابهه معظم شباب الوطن العربي ومناطق كثيرة في مختلف العالم، نتيجة لاستشراء الأنظمة في غيّها، وغياب الرأي عن الأغلبية وقلة المناوئين. وهو ما ركّزت عليه أعمال مطر في مجملها. روايته "في بلد الرجال" التي وصلت إلى قائمة البوكر القصيرة، تدور حول صبي لم ينعم ببيت آمن في ظل وتيرة القلق الآخذة في التصاعد بين أفراد أسرته من دون أن يفهم سرها الدفين. إن مثل هذا الخوف الذي تربّينا في دهاليزه المظلمة، يتحول بمرور الأيام إلى قوقعة صلبة تغلّف أيامنا وليالينا. ربما لم يفهم مطر أو خالد، غموض اللحظات المورطة إلا بعد أن تورط هو نفسه بالفعل. لهذا اختار أن يجازف في روايته "العودة" بالرجوع إلى أرض الوطن للبحث عن أبيه المختطف في سجون النظام والتخلص من شبح الوطن الذي استفحل في الغربة. حازت الرواية على جائزة بوليتزر للسيرة الذاتية في عام 2017، كما استطاعت أن تشفي كاتبها من فكرة البحث عن الأب، بنزع القدسية المكتسبة من الحنين إليه وإلى أرض الوطن.

تنتهي الرواية التي يتم تجميعها عبر طريق العودة، بفكرة اختلاف مصائر الشخصيات التي سبق أن تشابكت كنتيجة طبيعية لاختلاف وتطور وجهات النظر، حسام يغادر إلى بلد آخر أجنبي مفضّلًا الغربة، بينما مصطفى ينضم إلى الميليشيات في ليبيا ليواصل النضال، أما خالد الذي استغرق أكثر من ساعتين من المشي في هذا الاسترجاع المترجرج على محور الزمن، ينتهي به المطاف إلى عتبة باب بيته حيث تزوج وأنجب أطفالًا وحقق إنجازات لطالما حلم بها، وبهذا التخلي عن فكرة الرجوع إلى الوطن، أو البحث عن وطن بديل، يكون قد تحرّر فعليًا من مخاوفه الدفينة والتَأَم أخيرًا مع نفسه.

تقول الكاتبة ألكسندرا هاريس، التي ترأست لجنة تحكيم الرواية السياسية هذا العام: "كان رد مطر على تلك الطلقات النارية عبارة عن تأمل غني ومستمر في المنفى والصداقة والحب والمسافة، إنه يتعمّق في كل صفحة بمراكمة طبقات من الذكريات والتجربة".

انضم إلى هاريس في لجنة جائزة التحكيم كل من الروائييْن سيمون أوكوتي وروس رايسين، إلى جانب الأكاديمية لارا تشوكسي. ومن ضمن الفائزين السابقين بجائزة الخيال السياسي، علي سميث وكولسون وايتهيد وكلير كيجان.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.