}

تاريخ الرسوم الكاريكاتورية في مركز بومبيدو في باريس

سمير رمان سمير رمان 12 أغسطس 2024
تغطيات تاريخ الرسوم الكاريكاتورية في مركز بومبيدو في باريس
ملصق معرض كوميكس (1964 ــ 2024)

افتتح في مركز بومبيدو الباريسي معرض Comics (1964 ــ 2024)، ضمّ أكثر من 750 عملًا من القصص المصورة لمئة وثلاثين فنانًا من فرنسا، واليابان، وأميركا.
يحمل المعرض، الذي يرسم تاريخ الرسوم الكاريكاتورية الساخرة على مدى 60 عامًا كأسلوبٍ فنيٍّ، تسميةً أُخرى. فالمعرض بالنسبة لمديره، لوران دي بون، هو عبارة عن "رسوم كاريكاتورية في الطوابق كافة"، في إشارةٍ إلى إعلان عمال المرافق العامّة الفرنسيين في القرن الماضي "غاز في كلّ طابق"، الأمر الذي يعني أنّ المعرض مليء بغاز الفرح الذي تبثّه الثقافة المضادة(*) من الأعلى إلى الأسفل. المعروضات المؤقتة الرئيسة في الطابق السادس، وفي الخامس، نماذج مصغّرة لشخصيّاتٍ من تشكيلة الفنّ المعاصر الدائمة، وفي المكتبة معرض لمؤلّفٍ واحد، الفنان الكوميدي الإيطالي هوغو براتّا/ Hugo Pratt، وبطله الشهير، البحّار المغامر كورتو مالتيزيه/ Corto Maltese.
وبالتالي، فإنّ التصميم يقوم على ركائز عدّة، أهمّها ما يدعوه مبدعو المعرض "دعوة إلى الحبّ"، الاهتمام بالذات، روح الدعابة، تذوّق الأدب. بدءًا من الستينيات، أرادوا التحدّث عن كيفية تحوّل الكتب المصورة، من كونها تبعث المتعة في نفوس الأطفال، لتدخل حياة البالغين. ربما لا يتعلّق الأمر بتاريخ الفنّ فقط، بل في تاريخ المجتمع. في الستينيات بالتحديد، زمن أوائل البالغين الذين رفضوا بشكلٍ قاطع أن يكبروا. فبدلًا من العالم الجديد، مثل عالمنا الذي نعيش، يقرأون مجلة "هارا كيري/ Hara Kiri"، أو "الغبي والشرير"، المجلّة الأصل للمجلة الفرنسية الحالية "Charlie Hebdo". في الدول الاشتراكية، كانوا يرون لسببٍ ما أنّ مجلات الكاريكاتور الساخرة تقتل الذوق الأدبي الجادّ. ومن المثير أنّ ما يحدث في مركز بومبيدو هو عكس ذلك تمامًا، فالكوميكس، بالتحديد، هو ما جعل المعرض يستمرّ كلّ هذه العقود. من الغريب أنّ الدول الشيوعية، التي كانت تفخر برسومات الكتب التي تصدرها، لم تستطع التغاضي عن عكس بسيط للأدوار، فقد كان في الإمكان جعل الرسوم التوضيحية الموضوع الرئيس، واختصار النصّ إلى أسطرٍ قليلة تتضمن تعليقات توضيحية، وبذلك يمكن أن تتحول الحبكة إلى سيناريو فيلم.




في فرنسا، ينظر إلى القصص المصورة باعتبارها الفنّ التاسع، بعد الفنّ الثامن، التصوير الفوتوغرافي، والفنّ السابع، السينما، ولهذا لا تحتاج إلى جهدٍ كبير كي تحصل على حق التواجد في متحفٍ فنيّ. كما لم يعد أحدٌ يجادل أنّ في استطاعة مؤلفيها التحدّث ليس فقط حول باتمان وتانتان، ولكن في مقدورهم أيضًا الخوض في الأحداث الأكثر فظاعةً وتعقيدًا، على غرار الكاتب الفرنسي جاك تاردي/ Jaques Tardi الذي تحدث عن خنادق الحرب العالمية الأولى عبر نشره قصّة مصورة مناهضة للحرب، أو رسّام الكاريكاتور الفرنسي جان كابو/ Jean Cabut عن مطاردة النازيين ليهود باريس التي كانت واقعة تحت الاحتلال النازي، أو رسّام الكاريكاتور الأميركي آرت سبيغلمان/ Art Spiegelman عن معسكرات الإبادة. وعرضت في المعرض صفحات من مجموعة "ماوس" حكاية ناجٍ "للأميركي آرت سبيغلمان"، جنبًا إلى جنب مع مغامرات الكلب (سنوبي)، أو النمر الوردي.
يظهر المعرض ثلاث مدارس وطنية: الأميركية، والفرنسية، واليابانية. هنا، يتحدث الفرنسيون بالنيابة عن جميع جيرانهم باسم التقاليد الأوروبية، فأحضر كلّ واحدٍ منهم أفضل وأسوأ ما في ثقافته وشخصيته القومية، ومرّر كلّ منهم عصا السباق لزميله التالي في الدائرة. تتحول "أحذية الرقص" الأميركية ذات الكعب العالي إلى "bandes dessinees (BD)"، أي قصصٍ مصورة أوروبية شاعرية (غالبًا في فرنسا وبلجيكا)، فيؤثران سويةً على رسّامي الكاريكاتور اليابانيين. تظهر عند اليابانيين "المانغا"، التي غدت فنًّا وطنيًا قويًّا، وكذلك الرسوم التوضيحية الجميلة، التي نعرفها جيدًا من خلال كتب ميازاكي النابضة بالحياة، مثل "قلعة في السماء"، و"قبر اليراعات"، و"الأميرة مونونوكي".... قال عبقري الرسوم المتحركة اليابانية غير مرّة إنّ bandes dessinees (BD)" الأوروبية شكّلت مصدر إلهامه، وعلى نطاقٍ أوسع استلهم أيضًا من الفنّ الأوروبي عمومًا. من جانبٍ آخر، غزت المانغا العائدة من الشرق وكأنّها طفرة في الفنّ، العالم الغربي.
في حين كانت القصص المصورة حرفةً هامشية عام 1964، فإنّ الكوميكس أصبح عام 2024 صناعةً عالمية بحقّ. ويروي معرض مركز بومبيدو قصّة القصص المصورة، وكيف غزت العالم، وكسرت الحواجز، وألغت الرقابة، وكيف دفعت بأبطال الثورة المضادّة إلى خشبة المسرح الثقافي. غير أنّ المعرض يتحدث حول هذه الأمور بصوتٍ منخفضٍ نوعًا ما. وإن كان المعرض يعبّر عن احتجاجاتٍ ما، فإنّه يفعل ذلك وفق أجندة اليسارالمعتادة: رسوم ساخرة ضدّ الظلامية الإيرانية، ضدّ الإمبريالية الأميركية، ضدّ اضطهاد الفلسطينيين، ومن أجل تحرير الأقليات الجنسية.




تؤدي تكتيكات التمرد المسموح بها إلى صراع ليس حتى مع الفنانين الحاليين، بل وأيضًا مع الفنانين الكلاسيكيين الكبار الذي جعلوا من القصص المصورة فنًّا عظيمًا. من خلال إظهار اليهود كالفئران، والنازيين كالقطط، والبولنديين كالخنازير، استطاع آرت سبيغلمان الفوز بجائزة بوليتزر(**)، ولكنّه تلقى في الوقت نفسه كمًّا هائلًا من الغضب واللوم، بالتحديد من القطط (النازيين)، والفئران (اليهود)، والخنازير (البولنديين)، فحاولوا إخضاع أعماله للرقابة أكثر من مرّة. في عام 2015، سحبت كتبه من معارض الكتب في موسكو، وتمّ بشكلٍ نهائيّ إلغاء كتاب "تانتان العظيم" في هذا القرن بسبب مغامراته السابقة في الكونغو، التي نُظِر إلى محتواها باعتبارها مظهرًا من الاستعمار الجديد. بالإضافة إلى ذلك، اختفت من المعارض الرسوم الهزلية التي رسمها فنانو عصر الثورة الجنسية. ومرّةً أُخرى، أصبحت الإثارة الجنسية التي يمارسونها تربك المنافقين، الذين راحوا يستندون هذه المرّة إلى حجج ومبررات مثل الصواب السياسي. ولكننا نتذكّر جيدًا الرقابة التي خضع لها فنانو مجلة Charlie Hebdo في فرنسا.
إلى جانب الاعتراف الهامّ الجديد بفنّ القصص المصورة، الذي شكّله المعرض، تبدو القصص المعروضة، مع ذلك، وكأنّها فقدت بعضًا من جرأتها، وتراجعت روح الدعابة التي تتمتع بها عادةً، وبهت الغضب الذي كان يتفجّر فيها. في وقتٍ ما، استطاع المخرج والممثل الفرنسي Roger Vadim/ روجر فاديم أن يجعل جين فوندا، بطلة فيلمه "بارباريللا"، فتاة لقيطةً مرحة، كما تمكّن المخرج الأميركي Tim Burton/ تيم بيرتون، أيضًا، من وضع باتمان في مواجهة الجوكر والرجل البطريق. واليوم يسير على آثارهم زملاء باهتون من مؤسسة Marvel للسينما، كلّهم متشابهون لا يمكن تمييز أحدهم عن الآخر.

هوامش:
(*) الثقافة المضادة:
استخدم المصطلح للمرة الأولى عام 1970 من قبل المؤرخ وعالم الاجتماع الأميركي ثيودور روستشاك في كتابه "صناعة الثورة المضادّة". وهي حركة ثقافية ترفض القيم الثقافية والجمالية والأخلاقية السائدة في المجتمع، كما ترفض أسلوب الحياة الاستهلاكي الغربي. اشتهر من تلك الحركات: حركة الأدباء المعروفين بـ"الجيل الضائع/ Beat Generation"، وحركة الهيبيين/ Hippies، وحركة "البانكيين/ Punk.
(**) جائزة بوليتزر/ Pulitzer Prize: مجموعة من 21 جائزة تمنحها جامعة كولومبيا في نيويورك، في شهر أيار/ مايو من كل عام، للأعمال المتميزة في مجالات الخدمات العامّة، والصحافة، والآداب، والموسيقى. أسسها وموّلها رائد الصحافة الأميركية جوزيف بوليتزر عام 1917. تتوزع الجوائز على النحو التالي: 14 جائزة للأعمال الصحافية، 6 جوائز في مجال الأدب، وجائزة واحدة في الموسيقى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.