}

ثمانون عامًا على ولادة أشهر "يوميات" بالحرب العالمية الثانية

عماد فؤاد عماد فؤاد 21 أغسطس 2024
تغطيات ثمانون عامًا على ولادة أشهر "يوميات" بالحرب العالمية الثانية
أنّا فرانك ويومياتها
أسطورة "أنّا فرانك" لا تزال لُغزًا

صادف يوم الرابع من آب/ أغسطس الجاري مرور 80 عامًا بالضبط على اعتقال القوات النازية للفتاة الألمانية أنّا فرانك وعائلتها في أمستردام، وهي اللحظة نفسها التي بدأت فيها أسطورة أشهر يوميات كُتبت أثناء الحرب العالمية الثانية قاطبة وحملت عنوان "المخبأ السرّي" في إصدارها الأصلي باللغة الهولندية، لتشتهر في العالم أجمع لاحقًا باسم "يوميات أنّا فرانك"، والتي تعتبر اليوم أشهر كتاب في الهولندية والأكثر مقروئية حول العالم أيضًا، وإذا كانت أنّا فرانك نفسها لم تنج من أهوال الحرب العالمية الثانية، فيومياتها الفريدة من نوعها قد فعلت.

بعد الساعة العاشرة بقليل من صباح الجمعة الموافق الرابع من آب/ أغسطس عام 1944، توقّفت سيارة عسكرية تابعة لقوات "ڤافن إس إس" Waffen-SS، الجناح العسكري للحزب النازي، أمام البيت رقم 263 في شارع برينسنخراخت في العاصمة الهولندية أمستردام، وأمر الضابط النمساوي كارل جوزيف سيلبرباور ثلاثة من أتباعه الهولنديين باقتحام المبنى عنوةً والصعود إلى العلّية لجلب "المختبئين خلف خزانة الكتب". وحتى اليوم، وبعد مرور 80 عامًا على الأحداث التي شهدها هذا التاريخ المشؤوم في حياة عائلة المراهقة الألمانية أنّا فرانك، لا يزال السؤال مطروحًا: هل تمّت الوشاية بمخبأ العائلة حتى تعرف القوات الألمانية مكانهم بهذا الشكل الواضح؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن هو الواشي؟

في هذا البيت السري، والموجود فوق أحد المخازن التجارية التابعة لشركة أوبيكتا، والتي كان أوتو فرانك والد أنّا قد حصل على امتياز لها في هولندا بعد هجرته من فرانكفورت واتخاذه من أمستردام مستقرًّا له ولعائلته عام 1933، عاش ثمانية يهود مختبئين منذ عام 1942 لمدة عامين و30 يومًا، كانت الأسرة الأولى هي أسرة أنّا وشقيقتها مارغوت مع والديهما الأب أوتو والأم إديت، وكانت الأسرة الثانية للزوجين فان بيلز وابنهما بيتر، وبعد عدة أشهر انضم إليهم يهودي ألماني آخر هو فريتز بفيفر، وللبقاء على قيد الحياة طوال هذه الفترة الطويلة من الاختباء، خوفًا من الوقوع في أيدي المحتلّ الألماني، كان عدد من العاملين بشركة الأب أوتو فرانك يجلبون المؤن والطعام بشكل سرّي طوال ما يزيد عن عامين، حتى انكشاف أمر المختبئين وترحليهم إلى معسكرات اعتقال مختلفة حيث ماتوا جميعًا، ولم ينج منهم سوى الأب أوتو فرانك، ويوميات ابنته أنّا، التي قدّر لها أن تكون تأريخًا يوميًا لأبشع حرب عرفها العالم حتى يومنا هذا.

كانت أنّا فرانك في الخامسة عشرة فقط من عمرها، حين تمّ اقتيادها مع أفراد أسرتها في البداية إلى سجنين في هولندا قبل أن يصلوا جميعًا إلى معسكر اعتقال أوشفيتز في بولندا في الثالث من أيلول/ سبتمبر 1944، وفي أواخر تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته يتمّ ترحيل أنّا وأختها مارجوت إلى معسكر اعتقال "بيرغن بيلسن" في ألمانيا بسبب إصابتهما بالتيفود، وهناك تموت الشقيقتان واحدة بعد الأخرى مستسلمتين لآلام المرض العضال، وعلى الأرجح رحلت الشقيقتان في أواخر شباط/ فبراير أو أوائل آذار/ مارس 1945، وبعد مرور ما يقرب من شهر فقط على موتهما، كان جنود الحلفاء على أبواب معسكر "بيرغن بيلسن" بعد هزيمة القوات الألمانية للحرب وتحرير هولندا، أمّا الأم إديت، والتي بقيت سجينة في معسكر أوشفيتز مع زوجها أوتو فرانك، فقد ماتت هي الأخرى من الجوع والإرهاق في السادس من كانون الثاني/ يناير 1945.

في دفتر يومياتها تقول: "من المستحيل تمامًا بالنسبة لي أن أبني كل شيء على أساس الموت والبؤس والارتباك، أرى الآن كيف يُعاد تشكيل العالم ببطء أكثر فأكثر ليصبح صحراء"...


وفقًا للضابط كارل جوزيف سيلبرباور، الذي قاد عملية اعتقال أنّا فرانك وعائلتها، والذي تعقبه صائد النازيين سيمون فيزنتال وعثر عليه في سويسرا في الستينيات، جاءت مكالمة هاتفية من شخص مجهول قام فيها بالوشاية بالعائلة ومكان مخبئهم، ولكن لم يتم تأكيد تلك المعلومة أبدًا، أو معرفة هوية الواشي، وفي الوقت الذي ذُكر فيه اسم عامل المخزن بشركة أوبتيكا، ويليام فان مارين، بوصفه "أكثر المشتبه بهم"، إلّا أن التحقيقات معه لم تسفر عن أي دليل يثبت تورّطه، كما أن تتبّع العديد من الخيوط الأخرى لدى أقارب ومعارف موظفي شركة أوتو فرانك، الذين كانوا على علم بمكان اختباء العائلة اليهودية، لم يسفر أيضًا عن أي شيء، ولولا هؤلاء الموظفين ومساعدتهم لما تمكن سكان المخبأ السري من البقاء على قيد الحياة لفترة طويلة، حيث قاموا بتزويد المختبئين بالطعام والملابس والأدوية، كما نشروا شائعات كاذبة تقول إن العائلة هربت إلى بلجيكا.

في عام 2022، صدر كتاب مثير بعنوان "خيانة أنّا فرانك" Het verraad van Anne Frank للكاتبة الكندية روزماري سوليفان، والتي خلصت "مع فريق بحث دولي" إلى أن كاتب العدل البارز حينها في أمستردام، أرنولد فان دي بيرغ، هو الذي قام بالوشاية بمكان اختباء عائلة أوتو فرانك إلى النازيين لضمان سلامة عائلته، وقد جاء في تقديم الكتاب حينها: "باستخدام تقنيات جديدة وأساليب تحقيق ثورية، يسلّط فريق دولي الضوء على السؤال الذي يحاول الكثيرون الإجابة عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: من الذي خان أنّا فرانك"؟

وعلى غرار الكتب البوليسية المشوّقة، تمّ تسويق الكتاب الجديد بجمل رنّانة على غلافه الخلفي من قبيل: "على الرغم من أن هناك أكثر من 30 مليون شخص قرأوا يوميات أنّا فرانك حول العالم، وظهرت العديد من الكتب والأفلام والمسرحيات والأعمال الوثائقية التي تناولت حياتها في المخبأ، إلا أنه لم يتضح أبدًا من الذي وشى بمكان اختبائها وعائلتها، ولماذا؟"، ثم تستطرد كلمة الغلاف فتقول: "بدقّة كبيرة، قام فريق من المحقّقين، بقيادة عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق فنسنت بانكوكي، بمراجعة عشرات الآلاف من الوثائق - بعضها غير معروف حتى الآن – والبحث في سجلات المقابلات وتحقيقات الشرطة، وقد قام فريق دولي فريد من نوعه في هولندا، يتألّف من مؤرّخين وعلماء جريمة وعلماء بيانات وخبراء في الطب الشرعي وصحافيّين وضبّاط شرطة، بتصوير دقيق للأشهر السابقة على اعتقال عائلة أنّا فرانك".

تهاوى "الاستنتاج المدوّي" الذي توصّل إليه الكتاب المثير "بمساعدة الذكاء الاصطناعي جزئيًا" و"المؤكّد بنسبة 85 بالمئة" سريعًا أمام دراسة علمية رصينة أصدرتها مجموعة من المؤرخين والخبراء التاريخيّين والمتخصصين الهولنديين للردّ على "مزاعم" الكتاب ودحض "استنتاجاته العبثية"، ما دفع دار النشر الهولندية Ambo /Anthos إلى سحب جميع نسخ الكتاب من المكتبات والاعتذار من القراء.

تبدأ أسطورة يوميات أنّا فرانك ككل الأساطير بحدث فارق: في 12 حزيران/ يونيو 1942، والذي يوافق عيد ميلاد أنّا فرانك الثالث عشر، تلقّت الفتاة المراهقة دفترًا ورقيًا أنيقًا، مغلّفًا بنسيج من القماش يحمل خطوطًا متقاطعة باللونين الأحمر والأبيض، صُنع خصيصًا كهدية لها، بدأت المراهقة على الفور في كتابة يومياتها في دفترها الجديد الأنيق، بل إنها تبدأ أول جملة فيه، والمؤرّخة في 12 حزيران/ يونيو 1942، أي يوم حصولها على الدفتر الهدية، بمخاطبة الدفتر الجديد نفسه، فتقول له: "أستطيع، وهذا ما آمل فيه، أن أعهد إليك بالكثير من الأشياء، كما لم أستطع أن أفعل مع أيٍّ كان، وأتمنّى أن تكون لي عونًا". لتضيف تحت الجملة نفسها بعد أقل من ثلاثة أشهر، وبالتحديد بتاريخ 28 أيلول/ سبتمبر 1942: "حتى الآن، وجدت فيك دعمًا كبيرًا، كما هو الشأن مع "كيتي"، التي أكاتبها بانتظام، أحب كثيرًا هذه الطريقة في كتابة يومياتي، وأنا الآن في الحقيقة أشعر بالصعوبة في انتظار لحظة العثور عليها كي أكتب".

في يومياتها، تكتب أنّا فرانك رسائل إلى صديقتها الخيالية "كيتي" عن الحياة اليومية في الملحق السري


لأكثر من عامين، واظبت أنّا على كتابة يومياتها مع أسرتها في المخبأ السرّي، كتبت بتاريخ 20 حزيران/ يونيو 1942: "بعد أيار/ مايو 1940، تباعدت الأوقات الطيّبة وقلّتْ: أولًا كانت الحرب ثم الاستسلام، ثم وصول الألمان، وهنا بدأت متاعب اليهود، كانت حرّيتنا مقيّدة بشدّة بسلسلة من الممنوعات والقوانين المعادية لليهود: طُلب منّا ارتداء نجمة صفراء وتسليم درّاجاتنا؛ مُنعنا من استخدام الترام وركوب السيارات، حتى سياراتنا الخاصة، طُلب منّا التسوق بين الساعة الثالثة والخامسة مساءً، مُنعنا من ارتياد صالونات الحلاقة والتجميل إلّا المملوكة لليهود فقط، مُنعنا من الخروج إلى الشوارع بين الساعة الثامنة مساءً والسادسة صباحًا، ومن الذهاب إلى المسارح أو دور السينما أو أي شكل آخر من أشكال الترفيه، ومن استخدام حمامات السباحة أو ملاعب التنس أو ملاعب الهوكي أو أي ملاعب رياضية أخرى، مُنعنا من ممارسة رياضة التجديف ومن المشاركة في أي نشاط رياضي في الأماكن العامة، كان اليهود ممنوعين حتى من الجلوس في حدائقهم أو حدائق أصدقائهم بعد الساعة الثامنة مساءً، أو زيارة المسيحيين في منازلهم، إلخ... لم يكن بوسعك أن تفعل أي شيء، لكن الحياة استمرت".

بالقبض على اليهود الثمانية وتوزيعهم على معسكرات الاعتقال المختلفة، ظلّ دفتر يوميات أنّا فرانك حبيس المخبأ السري، لتعثر عليه ميب جيز، السكرتيرة بالشركة، والتي كانت تساعد العائلة طوال فترة اختبائهم، احتفظت جيز بدفتر يوميات أنّا فرانك لتسلّمه إلى الأب بعد نجاته من الهولوكوست وعودته إلى أمستردام، وفي عام 1947 تنشر اليوميات لأوّل مرّة بالهولندية كما كتبتها أنّا في شكل كتاب تحت عنوان "المخبأ السري" Het Achterhuis، وسواء كان ذلك بعد أن قام الأب بحذف "عدد من المقاطع" حول "أسرار العائلة" أو "الأفكار الجنسية المبكرة" لابنته المراهقة أم لا، فقد صدر الكتاب ليتحوّل إلى أشهر كتاب باللغة الهولندية في العالم حتى يومنا هذا.

أنّا فرانك ووالدها (وسط الصورة) في أمستردام عام 1941 (Anne Frank Foundation)


في يومياتها، تكتب أنّا فرانك رسائل إلى صديقتها الخيالية "كيتي" عن الحياة اليومية في الملحق السري، والمناقشات الجدلية التي لا تنتهي مع أمها، وافتتانها بزميلها المختبئ معهم بيتر فان بيلز، تكتب الفتاة بحسّ أدبيّ واضح عن أصدقائها وأحلامها للمستقبل، وأخبار الحرب التي كنت تصلهم عبر الراديو المفتوح على الدوام، وهو ما جعل اليوميات تترك أثرها الذي يتعاظم سنة بعد أخرى على قارئها، ليس فقط لأنها شهادة تاريخية فريدة على اضطهاد اليهود، ولكن أيضًا لأنها تحمل بذور موهبة أدبية لافتة كانت أنّا الصغيرة تمتلكها، ولذلك فقد كانت تُهيئ يومياتها للنشر بعد انتهاء الحرب، ويعود تاريخ آخر تدوين لها إلى الأول من آب/ أغسطس 1944، أي قبل ثلاثة أيام فقط من اعتقالها مع أسرتها واقتيادهم إلى حيث كانت نهايتهم.

في عام 1963، تمكّن صياد النازيين الكاتب والصحافي النمساوي سيمون فيزنتال من تحديد مكان كارل جوزيف سيلبرباور، قائد قوات الأمن النازية الذي اعتقل أنّا فرانك وعائلتها، بعد أن اكتشف أنه يعيش متخفيًا في العاصمة النمساوية فيينا، ويعمل هناك كضابط للشرطة، تم إيقاف سيلبرباور عن العمل وحاصرت الصحافة منزله قبل تقديمه للمحاكمة، ومع ذلك، لم يتمكن الضابط السابق من معرفة هوية الخائن أبدًا.

وفيما حامت الشكوك في البداية حول موظف مستودع شركة أوبيكتا، ويم فان مارين، والذي كان يعمل في الطابق الأرضي أسفل مكان الاختباء، وخاصة حين نعرف أن النازيين كانوا يدفعون مكافآت مالية لكل من يبلغ "عن أي يهودي هارب أو مختبئ"، إلّا أن المحكمة برأت عامل المستودع مرتين من التهمة الموجهة إليه، وأثناء الاستجواب، اعترف فان مارين بأنه كان "يشك في شيء ما"، وهذا يعني أن هناك آخرين لاحظوا مثله المخزون الكبير من المواد الغذائية التي كانت تدخل إلى المخبأ أسبوعيًا، ما يعني أن الواشي يمكن أن يكون أي شخص آخر، أغراه ربح دخل جانبي سريع، في ظلّ ظروف الفقر التي كانت سائدة أثناء الحرب.

في يوم 15 تموز/ يوليو 1944، أي قبل شهر واحد من اكتشاف مخبئهم السري، واقتيادهم إلى نهايتهم، كتبت أنّا فرانك في دفتر يومياتها تقول: "من المستحيل تمامًا بالنسبة لي أن أبني كل شيء على أساس الموت والبؤس والارتباك، أرى الآن كيف يُعاد تشكيل العالم ببطء أكثر فأكثر ليصبح صحراء، أسمع الرعد المتدحرج والذي سيقتلنا أيضًا بصوت أعلى فأعلى، أتعاطف مع معاناة الملايين من البشر، ومع ذلك عندما أنظر إلى السماء، أعتقد أن كل هذا سيتحوّل إلى الأفضل مرة أخرى، وأن هذه القسوة أيضًا ستتوقف، وأن السلام والطمأنينة سيعودان إلى العالم".

أمنية أنّا فرانك لم تتحقّق للأسف، وذلك لأنّ فئة من بني جنسها، قررت ألّا تحلم - مثلها - بعالم أفضل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.