}

ذكرى رحيل يوسف العاني: ارتبط بمفهوم الدور الاجتماعي للفنان

يُعدّ المسرح العراقي من أقدم المسارح في الوطن العربي، مثلما يُعدّ واحدًا من أرسخ المسارح التي شهدت تحوّلاتٍ كبرى على صعيد التأليف والإخراج والتمثيل ولا يزال مستمرًا في التجريب. وجميع هذه التحوّلات أتت بسبب المؤسّسين لهذا المسرح في ثلاثينيات وأربعينيات وحتى خمسينيات القرن الماضي. ويُعدّ الفنان الراحل يوسف العاني واحدًا من أهم المؤسّسين والمجدّدين في المسرح، وترك خلفه العشرات من المسرحيات سواء في التأليف والإخراج والتمثيل. وتمرّ هذه الأيام ذكرى رحيله السابعة حيث توفي في أحد مشافي العاصمة الأردنية عمان عام 2016، ولقّب بفنان الشعب.

يوسف العاني المولود عام 1927 في المحلة الشعبية (سوق حمادة) بالعاصمة بغداد، كانت أغلب مسرحياته مستوحاة من هذه البيئة وكل كتاباته حتى عناوينها شعبية. تخرّج من كلية الحقوق عام 1944، عمل بالمحاماة وبعد تخرجه الثاني من جامعة بغداد عامي 1950-1951م عمل مدرسًا معيدًا في كلية التجارة والاقتصاد. أسّس فرقة الفن الحديث مع الفنان الراحل إبراهيم جلال وعددٍ من الفنانين الشباب عام 1952 وكانت من أوائل الفرق المسرحية العراقية. اتّجه في بداياته إلى الكتابة النقدية الفنية في الصحف العراقية ثم كتب ومثّل وأعدّ للمسرح أكثر من 50 مسرحية، أشهرها: (القمرجية) و(مع الحشاشة) و(طبيب يداوي الناس) و(في مكتب محامي) وكذلك (راس الشليلة) و(فلوس الدوة) و(ست دراهم) وأيضًا (أني أمّك يا شاكر) و(النخلة والجيران) و(البيك والسائق)، مثلما مثّل وكتب سيناريو عدد من الأفلام السينمائية منها: (سعيد أفندي) و(أبو هيلة) و(وداعًا يا لبنان)، فضلًا عن الفيلم الشهير (المنعطف) وكذلك (المسألة الكبرى)، ومثّل مع المخرج المصري الراحل يوسف شاهين في فيلم (اليوم السادس) و(بابل حبيبتي) مثلما امتاز بكتابته الغزيرة للتلفزيون سواء التمثيليات أو المسلسلات وتمثيله لأشهر المسلسلات العراقية منها (عبود يغني) و(عزف على العود) وغيرها العشرات من الأفلام والمسرحيات والتمثيليات إضافة إلى العشرات من الإصدارات ما بين المسرح والسينما والذكريات منها (بين المسرح والسينما) و(أفلام العالم من أجل السلام) وغيرها. 

الأساس الصحيح

يقول الكاتب والمخرج الدكتور حسين علي هارف: يُعدّ العاني أحد أهم أعلام جيل الروّاد الذين وضعوا الأسس الصحيحة للمسرح العراقي بشكلٍ رصين. وأضاف أنه قدّم أوّل عملٍ مونودراما عراقي وعربي (جبر الخواطر) وكذلك (مجنون يتحدى القدر) واستمر في عطائه المسرحي مؤلّفًا وممثّلًا. وأشار إلى أن العاني برع كاتبًا واقعيًا انتقاديًا ساخرًا وممثّلًا شاملًا، ويعتبر فيلم (سعيد أفندي) منعطفًا مهمًّا في السينما العراقية وتحديثها. ويشير إلى أن العاني كان من أبرز المساهمين في تأسيس فرقة (المسرح الفني الحديث) التي تعد أهم فرقة مسرحية أهلية عراقية مع إبراهيم جلال وخليل شوقي وسامي عبد الحميد، وقد رفد هذه الفرقة بالعديد من النصوص المسرحية التي تصدّى لها خيرة المخرجين المسرحيين العراقيين كقاسم محمد وسامي عبد الحميد وإبراهيم جلال. ويؤكد أنه ترك بعد رحيله إرثًا مسرحيًا قيّمًا سيخّلد ذكراه ومكانته المسرحية محليًا وعربيًا من خلال العديد من النصوص المسرحية والعديد من الإصدارات والكتب ومئات المقالات والأعمدة الصحافية وبهذا خلّد اسمه بحروفٍ من ذهبٍ ليكون واحدًا من جيل المسرحيين العرب العظماء والرواد الذين أرسوا دعائم قويةٍ ورصينةٍ لمسرح عراقي وعربي يشار إليه بالبنان. ويمضي بقوله إنه بعد رحيله ومن قبله إبراهيم جلال وبدري حسون فريد ومن بعدهم سامي عبد الحميد، يكون المسرح العراقي والعربي قد خسر جيلًا ذهبيًّا لن يعوّض. ويستدرك أن هذا الجيل الذي لن يتكرّر ترك بالمقابل من ورائه أجيالًا أسهم في تكوينها ودعمها وتقديمها لتكون وريثًا شرعيًا، موضّحًا أنه ومن معه "ممّن تتلمذنا على أيديهم وتربّينا في عروضهم وتدريباتهم والاحتكاك معهم سنحيي ذكراهم عبر السير في ذات الطريق الذي سلكوه من أجل الارتقاء بمسرحنا وحماية إرثه والدفاع عن رسالته الإنسانية والوطنية التنويرية".

الأكاديمي والناقد الدكتور عامر صباح المرزوك يقول إن بداية التأليف المسرحي في العراق كانت شبيهةً بمثيلاتها في المحيط المجاور من حيث تَبَنِّي المؤلّفين المسرحيين لشكلٍ ومضمونٍ غربيّ مُحرّف عن مصدره الأساس، وصياغته بأسلوبٍ نابعٍ من طبيعة المؤسسة الحاضنة للمسرح والأهداف المستوحاة منه، ولم ينج من فخّ هذا النوع من التأليف غير القلّة النادرة من الذين توصّلوا إلى تشخيص هذا الخلل بعد ما أدركوا أن منجزهم الإبداعي لن يُحصد نجاحُه إلّا إذا لامس جرح الإنسان. وأضاف أن هذا ما وعاه العاني وضَمَّنَهُ وفق تجربته المسرحية، بعد أن تأمّل العاني مبكرًا التراث الشعبي وقرأه قراءةً ناقدةً متفحصة، ووجد فيه صورًا عوّل عليها وسعى إلى تضمينها في قسم من أعماله المسرحية. ويشير إلى أنه استلهم تجربته الذاتية أساسًا من حيث نشأ وترعرع في بيئة شعبيةٍ غنية بإيحاءاتها، وتقلّب في غمرات الحياة وغاص في أعماقها فَتَقَلَّبَتْ به وأمدّته بالدروس والصبر، وهذا ما جعله يتمسّك بقضايا الشعب والأمّة والإنسانية الخيرة، فكانت أعماله تسجيلًا للتاريخ السياسي والاجتماعي. ويرى المرزوك أنه لا يمكن لأيّ باحثٍ أن يكتب عن التطوّر الدرامي في المسرح العراقي بدون أن يتوقّف عند تجربة العاني بوصفه رجل مسرحٍ ويعد بحقٍّ كاتبًا وممثلًا ودراماتورجيًّا ومُنَظِّرًا وناقدًا، بدأها بالواقعية الاشتراكية متأثّرًا بالأدب الروسي وفق متطلّبات المرحلة التي كانت مليئةً بالتناحرات السياسية التي ميزت تجاربه في عقد الخمسينيات من القرن الماضي وما بعدها. ويمضي بقوله إن مسرحياته مهّدت لظهور أسلوبٍ جديدٍ في الكتابة المسرحية من خلال انطلاقه من الأسلوب البريشتي (الملحمي)، ويمكن ملاحظة التقطيع واللوحات والمواقف وتوظيف الأغاني الشعبية التي استلهمها من التراث العراقي مما مَكَّنه من أن يجسّد على خشبة المسرح خطابًا فكريًّا أراد له أن يصل بوساطة رسائل يبثّها النصّ من خلال ما يحمله من مضامين تنويرية، لأن العالم يتغيّر ويتطور، وهذا ما كان يميّز مسرح العاني وفق تنقّلاته مع مرور وتطوّر المذاهب والاتجاهات والتيارات الأدبية والمسرحية. وبرأيه فإن العاني تبنّى الدراما التسجيلية التي وجد فيها البريق والإشعاع الذي يمكن أن يجعلها وعاءً لأفكار مسرحياته، إضافةً إلى مواكبته للتيارات المسرحية المعاصرة كدراما العبث التي غيّرت الشكل والمضمون وطريقة التناول. ويضيف أن الجوهر في مسرح العاني هو ارتباطه بمفهوم الدور الاجتماعي للفنان، بما يجعل المعنى التاريخي/ الواقعي يتركّز في شخصياتٍ ورموزٍ إنسانية، وينشأ عند تلاقي الرمز بالواقع، وهو معنى محايث للحياة مؤكدا أن العاني اتجه إلى الفكر السياسي ووضعية الإنسان داخل مجتمع قائم على النفعية والاستغلال، فكانت مسرحياته مجابهة ثورية بين الإنسان العراقي والضغوط السياسية المتنوعة والموزعة بين الريف والمدينة. وذكر المرزوك: كان همّي الوحيد أن أوثّق تجربة العاني أكاديميا من خلال كتابتي أول أطروحة دكتوراه في الوطن العربي عن منجزه ونوقشت عام 2014 في المعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون في القاهرة ومن ثم طبعتها في كتاب بعنوان (تحولات البنية الدرامية في مسرح يوسف العاني في ضوء المتغيرات الثقافية) ضمن منشورات الهيئة العربية للمسرح عام 2015م.

وقال الناقد والصحافي عبد الجبار العتابي: برحيل الفنان يوسف العاني انطفأت شمعة أنارت الدروب لأكثر من نصف قرن، فهو الفنان الملتزم منذ بواكير حياته الفنية وكان الفن بالنسبة له موقفًا وقضية. وأضاف أن من أطلق عليه فنان الشعب كان يدرك المسيرة الفنية للعاني الذي ملأ آفاق الفن على مختلف مجالاته، لا سيما مؤلّفاته المسرحية التي تتسامى على المسرح وتضيئه بالإخراج الذي كان يترك آثارًا طيبةً في تاريخ المسرح العراقي. وتابع: أتصوّر أن رحيله ترك تصدّعًا في جدار الفن العراقي، لأن مجايليه الذين رحلوا قبله وبعده تركوا تصدّعاتٍ وأسئلةً طالما كانت الإجابة عنها صعبة جدًا، فالمؤلّفون كانوا ينظرون إلى العمالقة الراحلين على أنهم أفضل من يجسّد ما يكتبون بالشكل الذي يرسم إبداعًا حقيقيًا فضلًا عن قدرةٍ فنيةٍ على إقناع جمهور المشاهدين، بل إن غياب هؤلاء الكبار ترك الساحة الفنية من دون رقباء، فهؤلاء العمالقة كانوا يمارسون دور الرقيب ويحاورون أقرانهم من أجل تكامل العمل الفنّي، بل إنهم كانوا يمثلّون القدوة الحقيقية للشباب الذين لا يتوّرعون عن الاستفادة من النصح وتأمّل الأداء وما يكونون عليه من تواضع ومودة، منوّهًا بأن الكثير من الفنانين الشباب تحرّروا في غياب الكبار وتناسوا تلك التضحيات وصاروا يقبلون تمثيل أيّ دورٍ يناط بهم، من دون النظر إلى قيمة العمل الفني، ولهذا ففي كل عمل يعرض على الشاشات يستذكر الناس الكبار وأعمالهم الخالدة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.