}

ذكراه مرّت بدون احتفالات: السيّاب غيّر وجه القصيدة العربيّة

أجندة ذكراه مرّت بدون احتفالات: السيّاب غيّر وجه القصيدة العربيّة
غيّر السياب إحساسنا باللغة
مرّت خلال الأيام الماضية الذكرى التاسعة والخمسون لوفاة بدر شاكر السيّاب، الذي يعد رائد القصيدة الحديثة، أو قصيدة التفعيلة، أو الشعر الحر، كما أطلقت عليها نازك الملائكة في كتابها "شظايا ورماد". ومع ازدياد عدد كتّاب هذه القصيدة، في زمن السياب، بدأ الشعر العروضي بالانحسار. وبعد أقل من نصف قرن، ظهرت على السطح قصيدة النثر التي اجتاحت العالم العربي. ولكن ذكرى السياب مرّت هذا العام بصمت، إلّا من كتاباتٍ لأدباء وشعراء محبّين للسيّاب، أو متأثّرين به، فكيف يرى الشعراء هذه الذكرى؟

اختصار البدايات
لا أحد لا يعرف السيّاب من مثقّفي الوطن العربي، وما هي ريادته لهذا الجنس الشعري الذي اجتاح الشعرية العربية، وذاع صيته مع زملائه الآخرين طلبة دار المعلمين العالية، مثل نازك الملائكة، وبلند الحيدري، وعبد الوهاب البياتي. لذا فالحديث عن حياة السيّاب لن يكون فيه جديد بقدر ما يكون الحديث عن الشعر ومآلاته. يوم وفاة السياب يصادف قبل يومٍ واحدٍ من يوم ولادته في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1926، حيث توفي في الرابع والعشرين من الشهر ذاته عام 1964، حيث ولد في قرَية جيكور في محافظة البصرة في جنوب العراق، وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسّطة في البصرة، ثم انتقل إلى العاصمة بغداد، حيث التحق بدار المعلمين العالية، وتخرّج فيها عام 1948، واختار لنفسه تخصّص اللغة العربيّة، وقضى سنتين في تعلم الأدب العربي. والأهم في حياته هي ميوله السياسية التي سبّبت له كثيرًا من المشاكل، وكذلك ثبات أحقيته في ريادة قصيدة التفعيلة بين زملائه الآخرين.

عبد الزهرة زكي:
انعطافة تاريخية



الشاعر عبد الزهرة زكي يقول إن السيّاب غيّر إحساسنا باللغة، كما غيّر وجداننا، حتى يمكننا القول إنه أخذ بنا إلى حيث يجب أن نكون في عصرنا وعالمنا المعاصر. وأضاف: في حياتنا الثقافية العراقية، نبالغ أحيانًا في نكران الجميل، ونتعسّف في القسوة، ونمعن بالزهد بما يحقّقه فردٌ منّا، والشعر عمل أفراد، لكن التاريخ له منطقه الآخر. ومن المنطق الآخر للتاريخ يطلّ السيّاب بثقةٍ تمتزج بشيءٍ من القلق على لحظتنا الراهنة، وهي لحظة تمضي هنا حينًا نحو الارتداد، فيما يمضي فيها الشعر طويلًا في تحرّره وتقدّمه وتغيره. ويشير زكي إلى أن ذلك ما كان له أن يتحقّق بهذه الوتيرة من دون ذلك الجهد الكثيف والعميق الذي أودعته البداية الأولى العميقة التي انطلقت من لحظة السيّاب، لحظة ديوانه "أنشودة المطر"، حتى ليمكننا التساؤل: "ما الشعر من دون هذا الكتاب، من نحن من دون صاحب الكتاب؟".
ويشير زكي إلى أن الثقافة العراقية تستعيد كلّ عامٍ ذكرى رحيل السيّاب، وبفعل تكرار هذا الاستذكار السنوي فإن يوم رحيله بات أقرب ما يكون إلى مناسبة وطنية في ثقافة العراقيين، ناهيك عن حضور الشاعر الرائد الدائم في ثقافة مختلف البلدان العربية، وفي جامعاتها ومدارسها. منوهًا إلى أنه بعد عامين ستحلّ مئوية ميلاد السيّاب، وأتوقّع أن ثقافة العرب حيثما كانوا ستقف على قدميها احتفاءً بالذكرى، وبصاحب الذكرى، حين تحين المئوية. وبالتأكيد، سنشهد كثيرًا من الفعاليات التي يستحقها بدر شاكر السيّاب منا ومن أمّته، كما حصل مع مئوية الشاعرة الرائدة نازك الملائكة.

جبّار الكوّاز:
السياب ما زال حاضرًا



ويرى الشاعر جبّار الكوّاز أن السياب ما زال حاضرًا في المشهد الإبداعي العراقي والعربي والعالمي بوصفه ثيمة كبرى استطاع تجاوز المحليّة إلى ضفاف العالمية، وأسّس بقوّة الوعي الخطوط التجديدية الأولى في الشعر العربي في عصره الجديد. وأضاف أنه كان الجسر الذهبي الذي عبر به الشعر العربي إلى ضفاف التجديد والحداثة.
وأشار الكوَّاز إلى أنه رغم الاختلافات، لكنه ظلّ شخصيةً إشكاليةً على مستوى حياته وإنجازاته الشعرية التي امتازت منها المطوّلات التي أسّست للبنية الفنية والشكلية المستجدة. وأضاف: إن ما تبقّى هو تمثاله الشهير على شط العرب، حيث يشكّل صورةً من الوفاء الشعبوي، إذ نجا من التخريب، ولم يلاق مصير التماثيل المجاورة له بقوّة تأثيره الإبداعي في وجدان الناس. ويلفت الانتباه إلى أن تمثاله صار محجًّا لجميع زائري البصرة.




ويطرح الكوّاز السؤال: ما الذي تبقّى من السياب، بعد نصبٍ مهملٍ لا يحظى بعنايةٍ الّا بعد مناشدات إعلامية مستمرة فتبدو كهبةٍ شخصيةٍ لإسكات الإعلام؟ مهرجاناتٍ بسيطةٍ لا ترتقي إلى أهميته التأسيسية شعريًا، وبعض دراسات أكاديمية تناولت شعره، ومرّت عليه مرورًا بسيطًا كإسقاط فرضٍ إبداعي وطني. ويشير إلى أن هذه المناسبة لم تجعل هناك من يفكّر بتأسيس معهدٍ أدبيّ باسمه على غرار شعراء أوروبا والشرق، أو تأسيس جامعةٍ تحمل اسمه، كما في جمهورية إيران وفردوسيها، الذي تحمل اسمه أكبر جامعاتها. ويزيد بالتساؤل: من فكّر في نشر أعماله الكاملة في طبعاتٍ شعبيةٍ نرتقي بها بذائقة الناس. ويتساءل أيضًا: ألا يستحق السيّاب أن نحتفي به بمناسبة ذكرى وفاته كذكرى وطنية عراقية؟ وطالب الكواز وزارة الثقافة بإعادة الروح إلى بيت أهله، وبعث الاهتمام بالشواخص العمرانية التي ذكرها في شعره، كـ"شناشيل بيت الجلبي"، و"منزل الأقنان"، وهي ما زالت شاخصةً متداعيةً منتظرةً الهدم من قبل المستثمرين، أو عوامل الطبيعة.

عبد علي حسن:
عصر قصيدة المدينة



يقول الناقد عبد علي حسن: إن حركة جيل قصيدة التفعيلة الريادية أحدثت انعطافة تاريخية بتحوّل النسق الشعري من بلاغة الجملة إلى بلاغة النص، ليحقّق النصّ وحدته الموضوعية والعضوية، على أيدي مجموعة من الشعراء أدركوا بأن الوقت قد حان لمحايثة المتحوّل الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية، وليبدأ عصر قصيدة المدينة، بعد هيمنة قصيدة البداوة لقرونٍ طويلةٍ تخلّلها خروج أوّلي للموشحات في العصر العباسي، وبعض محاولات الخروج على النسق العمودي، كالبند، وسواه، الذي عُدّ الخلفية التأثرية للشكل المقترح. وأضاف حسن أن النموذج السيّابي ظلّ حاضرًا وممتدًا في عدد من تجارب الشعراء العراقيين والعرب، خاصة العقد الستيني الذي عدّت تجارب شعرائه طورًا جديدًا في المشروع الحديثي للشعر العربي. وأشار حسن إلى أن هذا المشروع تمثّل النموذج السيّابي باتجاه تشكّل مشروعٍ جديدٍ وفقًا لما يفرزه الواقع العراقي والعربي من أحداثٍ، وهو أنموذج امتدّ تأثيره إلى بنية الشعر العربي عمومًا. وبذلك، فإن المشروع التحديثي الذي أسهم السيّاب بشكلٍ مائزٍ في تأثيث فواعل تجاوزه وتأثيره واستمراره يؤكّد غنى وصحّة مشروع الرواد. وذكر أن لا احتفال رسميًا بهذه الذكرى بسبب من تقدّم تفاصيل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما يتعرّض له قطًاع غزّة من انتهاكات إنسانية، وهو ما أدّى إلى انشغال المؤسّسات الثقافية بهذا الحدث وتقدّمه، فضلًا عن انشغال العرب بالصراعات الدينية والطائفية، وإفراغ الظواهر الثقافية من محتواها الوطني والإنساني.

عماد الدعمي:
الحدثُ غزة



ويقول الشاعر عماد الدعمي: السيّاب لازمني منذ كنت طالبًا في الصف الثالث المتوسّط، عندما هزّت مشاعري قصيدته "بويب"، وكانت ضمن المنهج الدراسي في مادّة الأدب. ومن ذلك الحين وهو في رأسي وأفكاري، إلى أن اشتدّ عودي، ووصل بي الأمر أن أؤلف مؤلّفًا فيه، وهو دراستي لقصيدته "حفّار القبور" بعنوان "البعد الفلسفي في قصيدة حفار القبور". وبعدها، دراستي لقصيدة "المومس العمياء"، وهي ما زالت مخطوطة للآن، معترفًا أن للسياب السطوة الكبيرة على شعره. وبيّن أن السيّاب روحٌ متمرّدةٌ تمرّدت على الشعر، وأحدثت انعطافةً كبيرةً في تاريخ الشعر العربي بعد تصدّر السياب ريادة شعر التفعيلة. وذكر الدعمي أن السيّاب برز كشاعرٍ عربيّ وعالميّ كبيرٍ لاندماجه بالثقافة الإنكليزية، وتأثّره بها تأثرًا كبيرًا، ناهيك عن ثقافته العربية التي استمّدها من الواقع العربي المؤلم، ومن الأحداث الصعبة التي عايشها، وخاصة الحروب والأزمات الحادّة. وقد انعكس ذلك على شعره، لأنه روح نقية تحاول جاهدة أن لا تعرف إلّا السلام والحب في زمن الحرب.
ولفت إلى أن عدم الاحتفاء ربما يأتي للأحداث والمجريات الصعبة التي تمرّ بها الدول العربية، والتي لها الأثر الكبير في عدم استذكاره، فالضربات الموجعة التي توجّه إلى غزة كانت سببًا قويًا في تجاهل هكذا شخصية أدبية مهمة كان لها الدور الريادي في محاولة تغيير القالب الشعري القديم، وذلك محاولة منه لتجديد الحركة الشعرية تزامنًا مع التطوّر والحداثة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.