}

رحيل حسن العاني: شيخ العمود الساخر

 

رحل قبل أيام الصحافي والأديب حسن العاني عن عمر ناهز الـ81 عامًا. وهو يعد واحدًا من روّاد كتابة المقالة الساخرة في العراق الذين مزجوا بين الضحك والسوداوية والجد والهزل. هذا الكاتب الستيني الذي يعد من الجيل الثاني بعد روّاد الصحافة نوري ثابت وحميد المحل وقرندل، مات بعد صراعٍ مع المرض والمعاناة، يلوك السوداوية التي كتب عنها كثيرًا وأطلق على كتاباته العمود (الإضحاكي) تاركًا على محياه ابتسامةً لم يصنعها، بل كانت ابتسامة سخريةٍ من كلّ شيء، حتى أنه تحوّل إلى ظاهرةٍ كتابية لم تقدّم الصحافة العراقية مثلها منذ سنوات التأسيس الأولى حتى اليوم، حتى أُطلق عليه بائع الضحك الحزين وكان جريئًا في كتاباته.

العاني من مواليد العاصمة بغداد عام 1943، متعدّد المواهب يكتب القصة والرواية، له مئات البرامج الإذاعية والتلفزيونية، شارك في إعداد العديد من الدورات الإذاعية والتلفزيونية في العراق، عرف في الأوساط الثقافية منذ ستينيات القرن الماضي، كما اشتهر بأعمدته الصحافية اليومية. أصدر (سيد الأشجار، مجموعة قصص 1980) و(الرجل الأسطوري، مجموعة قصص 1986) و(ليلة رأس السنة، مجموعة قصص 1993) و(الولد الكبير، مجموعة قصص 2000) وكذلك (رقصة الموت، مجموعة قصص 2004) و(ليلة الاحتفاء بالحرية، مجموعة قصص 2015) و(الولد الغبي، رواية 2016) و(وجوه وحكايات، مقالات صحافية 2019) فضلا عن (بانتظار الملك، مقالات صحافية 2020).

ونعى رئيس الجمهورية، عبد اللطيف جمال رشيد، العاني حيث قال مكتبه إن الرئيس يعزّي الأوساط الإعلامية والصحافية وأسرة الفقيد بهذا المصاب المؤلم، كما نستذكر دور المرحوم في إغناء المسيرة الصحافية والإعلامية وجهوده في التعبير عن معاناة الناس بصدق ومهنية.

وقدم رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، نعيه وتعازيه لرحيل العاني، وأصدر مكتبه بيانًا، جاء فيه إن "رئيس مجلس الوزراء يعزي الوسط الصحافي والإعلامي والثقافي العراقي، برحيل الكاتب والصحافي الرائد الأستاذ حسن العاني". وأضاف البيان: "لقد مثّل الراحل في حياته المهنية كلمةً مُضيئة في الصحافة، وطالما عبّر بأمانة عن وجدان الناس ومعاناتهم".

ونعاه أيضًا الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، الذي عدّه كاتبًا وروائيا استهواه التحقيق أكثر من العمود الصحافي، رغم منعه من الكتابة عام 1999. وذكر الاتحاد في بيانه أن العاني يعتبر من أهم المساهمين في صناعة الذاكرة الوطنية على مدى عقود من خلال عموده الصحافي الذي ناهز 50 عامًا أو أكثر، إضافة إلى نتاجاته التي رفد بها المكتبة الأدبية العراقية بعددٍ من الروايات والمجاميع القصصية. 

العاني يعد مع الكاتب الساخر داود الفرحان ثنائيًا في مجال الكتابة الساخرة لكنه كان يتميّز بكونه كاتبًا ناقدًا أيضًا، لا باحثًا عن السخرية بقصد  السخرية من الواقع بكلّ تجليّاته الحزينة التي تمرّ بالعراق. ولهذا يقول الناقد والكاتب علي حسن الفواز: يُذكّرني الراحل بالأب، فهو كثيرًا ما يتفقّد أولاده، يسأل عنهم بشغف المُحب، ومسؤولية الباحث عن الأمان. وكنت أطمئن إلى صوته وهو يهبني إحساسًا بأن هناك آباءً يشاطروننا تفاصيلنا الصغيرة.

ويقول الشاعر والصحافي رئيس تحرير جريدة "الصباح" أحمد عبد الحسين إن الراحل معلّمٌ كبيرٌ وخير المعلّمين مَنْ لم يعطِ درسًا بلسانه بل بسيرته، أو بتعبير سيّد البلاغة عليّ بن أبي طالب "وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه". وأضاف إن أجلى دروس العاني أنه أعطى عمره كلّه لمهنته، وكان شأنه شأن المخلصين للصحافة يحصد خسرانًا، أهونه خسران الوقت والجهد والأعصاب لقاء مردود ضئيل، وأشدّه على النفس خسران انشغالاتنا الأقرب للوجدان. وبين أن الراحل كان قاصًا مميّزًا أصدر ثمانية كتب قصصية، لكني أحسب أنه لو لم يكن مستغرقًا في شغفه بالصحافة لأعطى لنا نتاجًا أكثر في السرد. وذكر أنه بعد تسنمه لرئاسة تحرير جريدة "الصباح" وفي أوّل توقيع له على المكافآت لمح اسمه من بين أسماء الكتّاب، فكتب هذه الجملة: "لي الشرف أنْ أوقّع على مكافأة لك زميلي الكبير ومعلّمي". وتابع: كنت أدرك أن العاني لن يقرأ ما كتبتُ لكني أردت تذكير نفسي بأن مَنْ لا معلّم كبيرًا له لن يصبح ذا أهمية مهما بدتْ علائم نجاحه. ويمضي عبد الحسين بالقول: صورته عندي لم تخلقها اللقاءات التي كانت تحصل، بل قراءتي له ومراقبتي إيّاه من بعيد، لأنّ أمرًا ما وثيقًا كان يجمعنا، لعلّه اشتراكنا في الخسران، أنا الذي تأخذ الصحافة منّي ليل الشعر ونهاره وتعطيني بدلًا عنه أخبارًا وتقاريرَ وتحقيقات. وعن الأعمدة التي كتبها في الصحف طوال مسيرته ذكر عبد الحسين أنه ترك إرثًا كبيرًا وأن الراحل أخبره ذات مرّة أن مجموع الأعمدة التي كتبها قد يصل إلى اثني عشر ألف عمود. فقلت له إن مجرّد قراءة هذه الأعمدة لا كتابتها يحتاج إلى عمر بأكمله. 

أما الكاتب والأديب شوقي كريم فيقول إن الراحل يمتهن الكوميديا النقدية السوداء. وأضاف أنه شخصيةٌ محمّلةٌ بالحزن، لهذا ظلّت كلماته تشعر بالانهزام داخل السرد الذي كانت عينه ترنو له ليرتمي بين يدي الصحافة التي سعت لأن تمنحه اسمًا وسط جيلٍ صاخبٍ ستّيني تتحكّم به الأيديولوجيا وتعبث بأقداره ومقدّراته التجديدات الآتية تباعًا من كلّ أصقاع الأرض. ويشير إلى أن الراحل لم يتأثّر كثيرًا بتلك الموجات وظلّت قصصه وروايته مهتمة بالواقع وما يحتاجه من بناءات خالية من التجريب. ويذكر أنه حين يتعب من السرد يعود إلى العمود الصحافي الذي يقول عنه بصراحته المعهودة إنه مصدر عيشه، لذا هو يكتب هذه الأعمدة الساخرة المليئة بالفجيعة والكراهيات لا لشي سوى "أني أريد أن آكل خبًزا". ويبين كريم أنه حين تبصره وتكون قريبًا منه، عليك أن تتفحّص هذا الانشطار الغريب الذي يعيشه، فهو كائنٌ ثقيل الخطوات مبتسمٌ دوما، وكأنه يرى ما لا يراه غيره. يأخذ بتلابيب الكلمات لتكون معلمًا مهمًا من معالم العمود الصحافي لا في الصحافة العراقية، بل الصحافة العربية بعمومها الباحثة عمّا أسميه النقدية الاجتماعية والسياسية السوداء. وبحسب شوقي فإن الراحل ومنذ بداية الثمانينيات صار ظاهرةً مرغوبةً يتنقّل من ورقةٍ إعلاميةٍ إلى أخرى مثل بلبلٍ شريدٍ لا تعجبه الميول ويحاول الترفّع عن الاتّجاهات والميول. وعن غزارته في الكتابة يقول كريم إن الراحل حين يشعر بمأساة العراق يكتب ليكون قوي الحجّة، وربما هو الصحافي الوحيد الذي يتبعه المتلقّي أينما حطّ ركابه مطالبًا إيّاه أن يبصر الأمام ولا يتوقّف من نبش ما تعتقده الضمائر. ويؤكد أن الصحافة لن يتكرّر فيها اسمٌ كحسن العاني، بل ويعدّه أمرًا مستحيلًا وخارج سياقات المعرفة الإعلامية، مشيرًا إلى أنه كان يريد أن يكون ساردًا جماليًا ولكن ساحة التلقّي اعتمدته كاتبًا كوميديًا باذخ الحيرة، شديد النقد، لا يهتم لخوفٍ ولا يجيب عن سؤال الخيبة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.