}

"نورة تحلم" وانطلاقة السينما التونسية الجديدة

عبد الكريم قادري 25 نوفمبر 2019
سينما "نورة تحلم" وانطلاقة السينما التونسية الجديدة
فريق عمل فيلم "نورة تحلم"
خطفت الأفلام التونسية في السنوات الأخيرة الأضواء من سينمات عربية بما في ذلك عريقة، وأضحى حضورها الدوري في المهرجانات العالمية والعربية يُشكل مصدر إلهام لشريحة واسعة من الجمهور، نظرا للأسئلة التي تطرحها، والمواضيع التي تقف عليها، وجرعة الحرية الزائدة التي تنطلق منها، وهي مقومات أساسية ساعدت بشكل كبير في نجاحها وانتشارها وتتويجها بالعديد من الجوائز والتكريمات.

هذه الانطلاقة الملفتة التي عرفتها السينما التونسية جاءت بعد ثورة الياسمين التي عاشتها تونس عام 2011، وأنهت من خلالها فترة حكم ديكتاتوري قاده الرئيس الراحل زين العابدين بن علي بقبضة من حديد لفترة زادت عن 23 عاماً. وبعد فترة التحرر التي عرفها الشعب التونسي هذه برزت العديد من المواضيع المخبوءة، أو التي ولدت خلال المرحلة، جرّاء الصدمة التاريخية الكبرى المنبثقة منها، ومن هنا تلقّف المخرجون هذه المواضيع، مستغلين بذلك جرعة الحرية والشرط التاريخي، وتنصلوا من الماضي الفني المثقل بالمباشراتية، وأسسوا لأنفسهم توجها سينمائيا جديدا، اعتمدوا فيه على الانتصار لمبدأ الفن، والبحث في التفاصيل الصغيرة، وتلقف "الثيمات" من تونس العميقة، بعيدا عن الجاهز الذي قتل السينما التونسية، والسطحي الذي شردها، وأصبحت من خلالهما مجرد أفلام بريستيج تقدم في المناسبات بعد أن جاءت تحت الطلب، لتأتي بعدها السينما الجادة وتزيح مخلفات تلك المرحلة. وفيلم "نورة تحلم" 2019، للمخرجة هند بوجمعة، هو واحد من بين الأفلام التي بدأت تؤسس للسينما التونسية الجديدة.

ملصق فيلم "نورة تحلم" 2019، للمخرجة هند بوجمعة، واحد من بين الأفلام التي بدأت تؤسس للسينما التونسية الجديدة 


















شعرية التفاصيل الصغيرة
يستمد فيلم "نورة تحلم" جماليته من التفاصيل الصغيرة التي يتعايش معها الفرد التونسي بشكل يومي، بعد تكوينها فنيا، وهي من الأشياء التي يصعب تلقفها وتطويعها في عمل فني بسهولة، من دون السقوط في فخ الخطابية التي تقتل الفن، لكن حس المخرجة وكاتبة السيناريو هند بوجمعة السينمائي جعلها تأخذ هذه المواضيع بشوائبها، ثم تقوم بغربلتها وتصفيتها، لتعيدها للجمهور بقالب فني مغاير، يولّد لذة المُشاهدة، وفي نفس الوقت يُحافظ على الشرط الجمالي، وهذا ما فعلته من خلال قصة فيلم "نورة تحلم" الرئيسية وروافدها الثانوية، الذي أدت فيه الممثلة هند صبري دور "نورة"، حيث جسدت شخصية زوجة السجين سفيان (أدى الدور لطفي العبدلي)، الذي يقضى مدة عقوبته في السجن،  هذه المرأة هي أم لثلاثة أطفال، تعمل  في مصلحة تنظيف الملابس بأحد المستشفيات لتسدد فواتيرها وتعيل أطفالها، وبسبب عنف زوجها وبعاده عنها تقع فريسة للوحدة، لهذا تقع في حب الأسعد (حكيم بومسعودي)، الذي يصبح حب حياتها، ويجعلها تغير العديد من المفاهيم والمحطات في حياتها، حيث تباشر إجراءات الطلاق من زوجها المسجون، لكن يحدث ما هو غير متوقع، ويتعرض حلمها مع الأسعد للخطر، بعد أن تم إطلاق سراح  الزوج، ومن هنا  تزداد الأحداث تعقيداً عندما يقرر الحبيبان الهروب بعيداً، لكن القصة تتخذ منحى آخر، خاصة وأن زوجها سفيان الذي عاد إلى البيت لم يتخل عن أفعاله الإجرامية، وما يزيد الطين بلة هو اكتشافه لهذه العلاقة الغرامية، من هنا يقرر رسم خطة للانتقام منهما، والقصاص من فعلتهما.

هذه القصة البسيطة، التي يمكن أن نجد العشرات من القصص التي تشبهها، جعل نسجها بالطريقة التي اعتمدتها المخرجة هند بوجمعة طعما آخر لها، حيث اعتمدت على رواية القصة بشكل ما يعرف نقديا بـ"سينما الطريق"، حيث يتم تسليط الضوء على الشخصية الرئيسية، وبسط الأحداث على الطريق، لكن في هذا الفيلم يتحول "الطريق" إلى أحد شوارع تونس، وفضاءات الحدث تجري في الأماكن المغلقة، بيت، مستشفى، كراج، مركز شرطة، لكن قليلا ما يظهر مشهد بدون الشخصية الرئيسية نورة، ولقد قدمتها المخرجة بشكل متدرج، حيث أبانت عن المخاوف التي تعيشها وتسيطر عليها، والحلم الذي تبحث عنه وتريد تحقيقه، لتدخل بعدها في القصص الهامشية، دعما للخط العام.
بواسطة هذا النسيج المتكامل تُظهر المخرجة وكاتبة السيناريو سلبيات المجتمع، والقوانين التي تسيره، إلا أنها لا ترفقه بالإدانة، بل تضعه كما هو أمام المشاهد وتترك له الحكم، وكأنها تريد تبيان هذا الزيف فقط، تطرح الأسئلة الجوهرية وتتركها معلقة إلى حين، هذا الزيف الذي تعكسه القوانين المجحفة التي تطبق على كل من يُحكّم قلبه وتعاقبه بخمس سنوات كاملة، في حين لا تفعل شيئا أمام سطوة وعنف "سفيان" الذي أرهب عائلته وأطفاله، وجعلهم يعيشون في حالة نفسية سيئة، سواء وهو داخل السجن أو خارجه. هذا الزيف أيضا تعكسه صورة مبنى كنيسة تم تحويلها إلى مركز شرطة، وهو أيضا الذي يعكسه رجل الشرطة الذي يتعامل مع اللصوص والمجرمين ويقتطع منهم المال، وفي نفس الوقت هو من يتعامل معهم عندما يتم القبض عليهم، أي هو الخصم والحكم، هذه المعطيات هي التي قتلت حلم نورة ووأدته، وجعلت حياتها عذابا متصلا ومستمرا، حيث حرمت من حقها في أن تحب، وأن تعيش قصص الغرام التي فقدتها في زحمة الحياة، ليكون هذا الفيلم  صرخة عميقة ومرتفعة في وجه المجتمع الذكوري الذي يختبئ خلف شعارات التسامح، وتحرير المرأة، وضمان حقوقها، في حين يتم سحق هذه المرأة وكتم صوتها من خلال القوانين التي لا تساعد، وكذلك تحكيم الأعراف والعادات والتقاليد التي ظهرت في زمن غير هذا الزمن، لكنها تتحكم في مصير المرأة، التي ينظر لها من فئة واسعة على أنها عورة وجب سترها ورميها في زوايا البيت، وكأنها سرير يرمي عليه الزوج جسده حين يريد.

حلم نورة وحلم هند صبري
الممثلة التونسية هند صبري التي أدت دور نورة في هذا الفيلم، ورغم احترافها منذ سنوات في مصر، لم تتخل أبدا عن السينما التونسية التي احتضنت بدايتها وهي طفلة صغيرة، وهذا مع المخرجة التونسية مفيدة التلاتلي في فيلم "صمت القصور" 1994، وفيلم " موسم الرجال" 2000، لتتلقفها بعدها المخرجة المصرية إيناس الدغيدي في فيلم "مذكرات مراهقة" 2001، وفي نفس السنة اشتغلت مع المخرج المصري الكبير داود عبد السيد في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي"، لتتلقفها بعد هذه الأعمال العديد من الأفلام والمسلسلات والسيت كومات، وتتحول إلى نجمة درجة أولى.
وقد أدت في الكثير من هذه الأعمال العديد من الأدوار المهمة، لكن دورها في الفيلم التونسي "نورة تحلم" والذي تتحدث فيه بلهجتها الأم، وتعالج قضايا مجتمعها، يُعد الدور المهم والأبرز في كل أعمالها، فقد أخرجت فيه طاقة كبيرة وانفعالات غير مألوفة، حيث تخلت عن شخصيتها الحقيقية، ولبست شخصية نورة بشكل وصل إلى غاية التوحد معها، خاصة في طريقة مشيتها، ضحكتها، تدخين السجائر، الصوت، الغضب، النظرة الحزينة والمشعة حلما،

وكل هذه الانفعالات السلوكية والفيزيائية لم نشاهدها سابقا لدى هند صبري، ما يوحي بأنها اشتغلت بشكل كبير على هذا الدور، ودرسته جيدا. واستطاعت المخرجة هند بوجمعة أن تستخرج ما كان مختبئاً فيها، وكمثال على هذا الجهد الذي بذل طريقة طي الملابس التي تقوم بغسلها في الآلات بمكان عملها، حيث تضعها في الأكياس بطريقة سريعة، توحي بأنها محترفة في عملها وتزاوله منذ فترة، ما يوحي بأنها تدربت كثيرا على هذا العمل، حتى لا يقع أي التباس وتغريب في شخصية نورة ومهنتها، ويزيد من قيمة العمل ومهنية التمثيل والإخراج. في المقابل عكس أيضا الممثل لطفي العبدلي شخصية الزوج الطائش غير المسؤولة، ابن الشارع الذي يعمل في النشل، إذ عكس هذه الشخصية بكل موضوعية واقتدار، ولا تحس بأنه غريب عنها، وكأن المخرجة هند بوجمعة استطاعت أن تخلق تنافساً كبيراً بين الممثلين، نتج عنه هذا التمثيل المهني الكبير. ولقد جلب هذا الدور للممثلة هند صبري جائزة أحسن ممثلة بمهرجان الجونة السينمائي، بعد أن شارك الفيلم في المسابقة الرسمية للفيلم الروائي الطويل، وهذا في الدورة الثالثة (19-27 سبتمبر/ أيلول 2019). كما حصد الفيلم جائزة التانيت الذهبي بالدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية.

هند بوجمعة 



















رزانة المخرجة وتميز الفيلم
تتلمس المخرجة التونسية هند بوجمعة صاحبة الفيلم تجربتها السينمائية برزانة كبيرة، فقد سبق أن أخرجت بعض الأفلام، لكن لكل فيلم وزنه الخاص، من بينها الفيلم الوثائقي "يا من عاش" 2012 الذي فاز بجائزة أفضل إخراج بمهرجان دبي، كما شارك فيلمها الروائي القصير "وتزوج روميو جولييت" 2014، في مهرجانات عدة، وفاز بالعديد من الجوائز الدولية. وسبق أن قدمنا مراجعة نقدية له هنا، لتنتظر 5 سنوات وتدخل أول تجربة لها في الفيلم الروائي الطويل من خلال "نورة تحلم" 2019، الذي عكس توجه المخرجة الرزين، والتي لا تقدم أي عمل من دون أن تقوم بتعتيقه وتقليبه على جميع أوجهه، حتى لا تعبث بالتجربة التي بدأتها برؤيا رزينة تريد الحفاظ عليها في جميع الأعمال. 

 *ناقد سينمائي من الجزائر

 * هند صبري تتحدث عن دورها في فيلم "نورة تحلم" 2019 * 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.