}

تجليات شغف السينما في الأفلام.. المُخرج داخل كاميرته!

عبد الكريم قادري 27 يوليه 2020
سينما تجليات شغف السينما في الأفلام.. المُخرج داخل كاميرته!
ملصقات الأفلام: الحقيقة لهيروكازو و"هيوغو" لسكورسيزي و"إد وود" لبرتون
تتعدد أشكال عمليات إظهار الحب والتعلّق بالشيء، فلكل فرد رغبة داخلية تضغط عليه لإظهار مشاعره للآخر، وكأنّ العاطفة لا تساوي شيئا حين تبقى في مساحتها الضيقة، لذا يجتهد حتى يخرجها من دائرته إلى فضاء أكثر اتساعا، بمعنى أن الفرح لا يساوي شيئا عندما لا نتقاسمه مع الغير، وكذلك الحب والحزن والنجاح وحتى الفشل. وهذا ما يفعله الفنّان التشكيلي الذي يحب الرسم، فنراه يجسد هذا الحب بالريشة والألوان في لوحاته، مثل ما قام به الرسام الإسباني بيردل بوريل في لوحته "الهروب من الإطار"، ومع أن المعنى يجسد التحرر من العادات والتقاليد، غير أنه جسّد حب الرسام لهذا الفن من خلال رمزية "الإطار". وكذلك أظهر المطربون ولعهم بالموسيقى، ونظم الشعراء قصائد يمدحون فيها الشعر ويظهرون فيها مدى تعلقهم به، حتى أن بعض الروائيين جعلوا من بعض شخصياتهم كتاب رواية في كتبهم. ولأن كل فنان يجد نفسه وبطريقة ما مرغما على تجسيد حبه لفنه، فلن يكون هذا التجسيد إلا من خلال الفن نفسه، وكذلك فعل المخرجون في السينما، حيث عكس الكثير منهم حبهم لها في أفلامهم، وجسدوا هذا التعلّق بطرق مختلفة، فأحيانا نجدهم يحققون فيلما داخل فيلم، أو نرى بأن البطل هو مخرج سينمائي، ومرات أخرى نقف على أن قصة الفيلم الرئيسية تسرد مسيرة مخرج سينمائي، أو تستنطق مساره وتجاربه.

ومن بين أبرز هذه الأعمال وأجملها فيلم "إد وود" 1994 للمخرج تيم برتون، والذي يروي فيه قصة المخرج الأميركي إد وود الذي جسد شخصيته الممثل جوني ديف. ويعتبر إد من بين أكثر المخرجين فشلا في تاريخ هوليوود، نظرا لعدم نجاح العديد من الأفلام السينمائية التي قام بإخراجها. واستطاع تيم برتون من خلال الكوميديا السوداء أن يعكس عثرات هذا المخرج، ولاقى الفيلم نجاحا كبيرا، خاصة وأنه شارك في المسابقة الرسمية في مهرجان "كان" السينمائي، وأكثر من هذا حصد أوسكارين.
كما انعكس هذا التعلق والحب في أحد أفلام المخرج الكبير مارتن سكورسيزي من خلال فيلم "هيوغو" 2011، الذي أعاد به الاعتبار إلى المخرج الفرنسي جورج ميلييس (1861-1938) الذي يعود له الفضل في اكتشاف العديد من الأساليب السردية والتقنية في السينما، ليكون الفيلم بمثابة اعتراف له بالجميل وبالتأثير الذي أحدثه على أجيال من المخرجين.


كما قدّم المخرج المثير للجدل كونتين تارانتينو رفقة زميله روبرت رودريجز سنة 2007 فيلما بعنوان "جراند هاوس" عكسا فيه جنونهما وتعلقهما بهذا الفن، ويبدو أن تارانتينو لم يكتف بهذا الفيلم، بل تعداه إلى عمل أكثر جمالا، وهو فيلم "حدث ذات مرة في هوليوود" 2019، الذي استعان فيه بنخبة من النجوم، من بينهم ليوناردو دي كابريو، وبراد بيت، وآل باتشينو، ومارجوت روبي، وغيرهم من الممثلين، حيث نقل أجواء الإنتاج والإخراج والصناعة السينمائية التي كانت تحدث في استوديوهات هوليوود، عن طريق قصة يروي من خلالها مسار ممثل (أدى الدور دي كابريو) بدأت تذهب عنه الأضواء والشهرة، لذا بدأ يعيش حياة صعبة جدا، يرافقه  الدوبلير (براد بيت) الذي يساعده في المشاهد الخطرة. ويسافر الفيلم بالمشاهد إلى عوالم هوليوود في عصرها الذهبي، في الفترة الزمنية لنهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وهو الوقت الذي تألقت فيه صناعة الأفلام. واستطاع كونتين أن يجسد حبه الحقيقي لهذا الفن في هذا العمل الذي حصد من خلاله العديد من الجوائز العالمية، أهمها أوسكار لأفضل ممثل مساعد والذي ذهب لبراد بيت، وأوسكار لأفضل تصميم.
كما صدرت في 2019 أفلام عالمية أخرى احتفى مخرجوها بالسينما، من بينها الفيلمان الفرنسيان "الحقيقة" الذي أخرجه الياباني ايدا كوريه هيروكازو، و"جلد الأيل" لكونتان دوبيو.






ويروي الأول، حسب ما جاء في ملخصه، قصة ابيان، وهي "ممثلة فرنسية معروفة، لديها حشد من المعجبين والرجال المُحبين لها. بعد نشر مذكراتها، تعود ابنتها من نيويورك إلى باريس برفقة زوجها، وطفلها الصغير، وسرعان ما يتحول اللقاء إلى مواجهة، لتظهر الحقائق، وتُصفى الحسابات، ويتم الاعتراف بالمشاعر الكامنة". وجمع الفيلم الممثلتين الفرنسيتين المعروفتين كاترين دونوف وجولييت بينوش. أما الفيلم الثاني فيعكس قصة جورج البالغ من العمر 44 عامًا، وهو مخرج فاشل مهووس ومريض، يملك معطفا مصنوعا من جلد الأيل. ويؤدي به هذا الهوس إلى رحلة عجيبة، يواجه فيها خطر ضياع مدخرات عمره، ويسلك فيها سلوكًا إجراميًا، كما يرتكب الجرائم. ولاعتقاده أنه يمتلك خطة مُحكمة، يذهب إلى حلول متطرفة جدًا، من أجل أن يكون الشخص الوحيد الذي يرتدي معطفاً، مهما كان ثمن ذلك.
كما صدر في نفس السنة فيلم وثائقي مهم جدا بعنوان "محصّن" من إخراج ماكفارلين أورسولا، يحكي حسب ملخصه "عن كواليس الصعود القوي والسقوط المدوي لمُنتِج الأفلام هارفي واينستين، ويوضح كيف استحوذ على السلطة، واستغلها على مدار عقود. ويحكي موظفوه القُدامى، وزملاؤه في الجامعة، والمراسلون الصحافيون، عن رؤيته الفريدة، وتميزه، وكيف انعكس ذلك في سلوكه وممارساته القاسية للاحتفاظ بسلطته، وقت تهديد الفضيحة له بالإقصاء. وبينما يستمر التحقيق الجنائي ضده، يتتبع الفيلم الطريقة، والضرر الغاشم الناتج عن اعتداءاته، وعلى ضوئها يتساءل ما إذا كان هناك تغيير جوهري بخصوص نظام العدالة، وخاصة في مجال صناعة الأفلام أم لا". ومن الجميل أن يكون عرض الأفلام الثلاثة المذكورة في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي 2019، أي في نفس سنة الصدور. ويجب التذكير بأن هناك مئات الأفلام الكلاسيكية التي تغطي فترات زمنية مختلفة، تجسد حب المخرج للسينما بطرق مختلفة، من بينها الفيلم الوثائقي الروسي الخالد "رجل مع كاميرا سينمائية" والذي صدر سنة 1929، وأخرجه المجدد والمنظر ديزغا فورتوف.



الأفلام العربية.. بضع خطوات لا تكفي
المخرج العربي احتفى هو الآخر بالسينما، رغم أن هذا الاحتفاء كان محدودا، ويعود هذا بدرجة كبيرة إلى أن السينما العربية ورغم تلقّفها لهذا الفن باكرا، لم تملك صناعة حقيقية تؤهلها للاحتكام إلى شبّاك التذاكر، ما عدا مصر رغم ضعف الإنتاج السنوي ومحدوديته، لتكون معادلة قلة الإنتاج مؤثرة في هذا الأمر. لكن هناك محطات محترمة، أهمها على الإطلاق تجارب يوسف شاهين، إذ نجد أن صورة السينما التي يعكسها المخرج/ السيناريست/ المصور/ الممثل وغيرها من روافد الفيلم تظهر أو تختبئ في معظم أفلامه، لكنها تنعكس في علامات سيميولوجية معينة، خاصة الأفلام التي عكست سيرته الذاتية. وقد ظهرت بشكل جلي وأبانت عن هذه الفتنة بشكل واضح في فيلم "اسكندريه ليه" 1978، الذي أنتجه بالشراكة مع الجزائر، وهو من بين أول الأعمال التي تجسد السيرة الذاتية ليوسف شاهين، وانعكست صورة السينما في هذا الفيلم من خلال إحدى قصصه المتعددة، والتي جسدها الطفل يحيى المحب لعوالم التمثيل والسينما، والذي يسعى للسفر إلى أميركا لدراسة السينما هناك، ويعكس الطفل يحيى في الفيلم طفولة يوسف شاهين وحلمه بالسينما.
هناك أيضا فيلم مصري كوميدي بعنوان "رشة جريئة" 2001، للمخرج سعيد حامد، يروي وبطريقة طريفة أحلام الشباب من أجل الولوج إلى عوالم السينما عن طريق التمثيل، وحسب ملخص الفيلم فإنه يروي قصة "سلماوي وميما اللذين يحلمان بالالتحاق بمعهد التمثيل لكنهما يصطدمان بامتحانات القبول التعجيزية، ويحاولان الدخول إلى عالم التمثيل عن طريق أي باب آخر، ومع كل محاولة يلازمهما سوء الحظ الذي يقودهما عدة مرات إلى قسم البوليس، وبرغم المتاعب يصران على استكمال المشوار وتحقيق حلمهما بأي ثمن".
كما كانت السينما حاضرة بقوة في الفيلم الجزائري "صوت الملائكة" 2018 للمخرج كمال يعيش، حيث كان خالد البطل الرئيسي في الفيلم (تمثيل نضال الملوحي) مخرجا سينمائيا، إذ تبدأ درامية القصة من خلال تعرض هذا المخرج إلى سرقة هاتفه بينما كان يقود سيارته، لكن المخرج تعاطف مع الشاب وجعله يعمل في فريق الفيلم الذي يقوم بإخراجه. ونقل الفيلم تفاصيل الصناعة السينمائية، وأكثر من هذا شرح نفسية المخرج وتفاصيل حياته الخاصة والضغوط النفسية والمادية التي يعيشها.

  لقطة من فيلم "إد وود" 


















ولا بُد من القول إن سنة 2019 لم تكن سنة الاحتفاء بثيمة السينما في العديد من الأفلام العالمية فقط، بل تعدّتها إلى الأفلام العربية، وأكثر من هذا فإن اثنين من الأفلام الثلاثة التي سأذكرها هما من السودان، وهما الفيلم الوثائقي السوداني "حديث عن الأشجار" لصهيب قسم الباري، وينقل فيه أحلام وكوابيس "أربعة أصدقاء سودانيين قدامى، من صناع الأفلام المثاليين، والإنسانيين للغاية، بعد غياب دام سنوات بسبب بُعد المسافات والمنفى، من أجل تحقيق حلم حياتهم- جعل السينما من جديد واقعًا في السودان، يصممون مجددًا على إحياء علاقتهم بالشاشة الكبيرة، عبر تأهيلهم دارًا قديمة للعرض في الهواء الطلق. وهو وثائقي عن الشغف بالسينما، والأمل في استعادة حب بلد لها". ونال الفيلم العديد من الجوائز العالمية، من بينها نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي، وجائزتا الجمهور وأفضل فيلم وثائقي في قسم بانوراما، في دورة مهرجان برلين السينمائي الأخيرة.
والفيلم السوداني الثاني هو روائي بعنوان "ستموت في العشرين" للمخرج الشاب أمجد أبو العلاء، وتدور أحداثه في قرية سودانية، حيث "يولد الطفل مُزمل، بعد أعوام من الانتظار، ملعونًا بنبوءة الدرويش التي تفيد بموته عند بلوغه سن العشرين. يَكبر مُزمل، وسط نظرات الشفقة، التي تجعله يشعر بأنه ميت بالفعل، إلى حين ظهور المصور السينمائي سليمان في حياته. يبدأ مُزمل برؤية العالم بشكل مغاير، بعد ما شاهده من تسجيلات عبر جهاز عرض الأفلام السينمائية القديم الخاص بسليمان. لكن وبعد العديد من الانكسارات التي طالته ومنها افتقاده لأبيه، يبلغ مُزمل عيد ميلاده العشرين، ويواجه حيرته بين اختيار الموت وبين ركوبه الحافلة التي تنقله إلى عالم يتلهف لمعرفته". وقد نال الفيلم إعجاب النقاد والجمهور عبر العديد من المهرجانات العالمية، ونال العديد من الجوائز المهمة من بينها أسد المستقبل من مهرجان فينيسيا، ونجمة الجونة الذهبية كأحسن فيلم روائي في الدورة الثالثة التي عقدت من 19 إلى 27 أيلول/ سبتمبر 2019.

كما أن هناك فيلما وثائقيا - أقول إنه وثائقي بتحفظ- للمخرج الجزائري المقيم في فرنسا حميد بن عمرة بعنوان "زمن الحياة" 2019، لعب فيه دور البطولة كل من الممثلة ستيفاني بن عمرة، والمخرج السوري محمد ملص، والناقد السينمائي الأردني عدنان مدانات، ووجوه فنية أخرى، وقد انتصر الفيلم بدرجة كبيرة ومحورية لجمالية السينما وإنسانيتها، وكأن الكاميرا هي البطل الرئيسي في الفيلم، وكّأن المخرج حميد بن عمرة يقدم في هذا الفيلم بيان احتفاء بالفن السابع وصنّاعه.

ملصق فيلم "زمن الحياة" 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.