}

داود أولاد السيد.. صور تقتنص الذاكرة الهاربة

فريد الزاهي 25 مارس 2022
فوتوغراف داود أولاد السيد.. صور تقتنص الذاكرة الهاربة
"حائط الموت"




حين ينظر الواحد منا إلى صور داود أولاد السيد ينغمس في حنين غامر، وتتداعى في ذاكرته شظايا هاربة من الذاكرة، في زمن كانت فيه الأشياء والكائنات واللحظات تتسربل بعلاقة خاصة مع الزمن والفضاء. هي صور بالأبيض والأسود تلتقط بعين فاحصة منذ الثمانينيات، علامات ورموز كائنات وهيئات ولحظات أضحت في عداد الماضي. يقتنص الفنان هذه اللحظات أحيانًا ليثبتها في عمق الزمن. يطاردها هنا وهناك، في هوامش الصحراء أو ساحات المدن، في عوالم لا تطؤها إلا أرجل العابرين والمغامرين وأبناء التخوم. يمنحها من عينه الآلية الكثير من البساطة والعفوية والانسياب وكأنها صور حلم يقظة. أو إنه يبنيها كما في استوديو متنقل ليمنحنا دهشة تلك اللحظات التي عشناها أمام عين الكاميرا، وليجعل الشخصيات والأشياء والأمكنة تحيا لحظة الثبات الجدي أمام تلك العين المجهولة السارقة للأرواح...

وليس من الغريب أن يحذو داود أولاد السيد حذو مولاي عبد العزيز، سلطان الحداثة بالمغرب، الذي استهوته آلة الفوتوغرافيا فأتقن استعمالها، واجتذبته آلة التصوير السينمائي فمارسها منذ 1894، في وقت كانت فيه الصورة تتعرض للتحريم والاستنكار، وكانت السينما والمسرح فيه يعتبران ضلالًا وهوى شيطانيًا. وهو حين انتقل إلى السينما في التسعينيات ظلت موضوعاته ولقطاته تحمل معها من هذا الإرث الفوتوغرافي الكثير من العناصر والرسوبات، وانتقلت الصورة الثابتة إلى الحركية محمولة على هذه النظرة الإثنوغرافية التي تستهويها آثار الزمن الماضي والذاكرة الحية.

"المسرح القروي" و"المسرح الشعبي " 



فن الذاكرة بامتياز

ظل التصوير الفوتوغرافي يعيش على هامش الفن العربي لمدة طويلة، من غير أن يحظى بصفة الفن المستقل. لا لأنه محدود الممكنات الجمالية وإنما لعلاقته الوطيدة بالتسجيل والأرشيف وحفظ الذاكرة، ولطابعه التوثيقي اللصيق بقصة العائلة والوثائق الرسمية. الفوتوغرافيا ظلت حكاية مصورة لاستحضار الزمن في سيولته الجارفة. وتحولها إلى بطاقة بريدية عزّز من طابعها الاستعمالي التواصلي. وبالمغرب، توطد هذا الفن مع أعمدة الفوتوغرافيا الكولونيالية، الذين تركوا لنا إرثًا من الصور يمكن أن نعتبرها، بالرغم من منظورها الغرائبي والاستشراقي، وثائق حية عن مرحلة لم نكن قد تمكنا فيها من التصوير عموما، ومن التقنيات الحديثة للبصري بالتحديد.

مراكش التي كانت مسقط رأس داود أولاد السيد كانت قبلة للعديد من الفنانين والمصورين الأجانب الذين فتنتهم ألوانها، هي البوابة المفتوحة على الصحراء. المدينة الحمراء، كما تسمى، لم تحجب عن داود عمق الجنوب. فحين كان الشاب يحضر دكتوراه في العلوم الفيزيائية، فتنته صور أحد المعارض الفوتوغرافية بفرنسا، فبدأ بتصوير عائلته. هكذا صارت أعماله تحوز على الإعجاب، فتابع هذه الطريق، متسلحًا بعفويته وبما تركته آثار أعمال الفرنسي كارتييه بريسون عليه... كان كتاب "المغاربة" أولى ثمرات هذه التجربة، تلاه كتابان آخران. بيد أن الطابع الحكائي لأعماله سوف تستجذبه نحو السينما، التي "دخلها بالصدفة" كما يقول هو نفسه، بعد تدريب في هذا المضمار في أواخر الثمانينيات بفرنسا.

بين الفوتوغرافيا والسينما يعيش الفنان تواشجات ويرسم مسارب لا يمكن أن تخطئها العين. فأفلامه الأولى ظلت ممهورة باللقطات الفوتوغرافية التي اعتدناها لديه. كما أن موضوعاتها مستقاة من حكائية صوره الفوتوغرافية المتصلة برسوبات عالم موشك على الاندثار، بعلاقاته ومظاهره ولمساته الاجتماعية والشخصية. لكن السينما بحركيتها الزمنية تسعى ولو كانت خيالية تمامًا إلى أن تستعيد الزمن لا أن توقفه. السينما فن مضاهاة الواقع، أما الفوتوغرافيا فهي سرقة الواقع من الزمن وتعليقه في لحظة أبدية.

ومع أن أولاد السيد صار من السينمائيين الذين بصموا الساحة السينمائية إلا أن أعماله الفوتوغرافية ظلت حاضرة في الخلفية، تشير إلى تميز العالمين (السينمائي والفوتوغرافي)، وتؤكد قوة الصورة الفوتوغرافية في اختزالها للعالم إلى لقطة. خفة آلة الفوتوغرافيا وحركيتها تمكّن الفنان من ملاحقة التفاصيل في فوريتها، والاشتغال عليها وإعادة خلق المشاهد والجزئيات، والولوج للبيت والأماكن الدفينة. ربما لهذا السبب لم نستطع أبدًا نسيان الإرث الفوتوغرافي لأولاد السيد، ولم تستطع ممارسته السينمائية من إنسائنا فيه...

"الجلباب المغربي" و"نساء الجنوب المغربي" 



خلايا اليومي العتيق

صور أولاد السيد حبلى باليومي، تستنطقه في عفويته الباهرة، وكأنها تتقفى فيه آثار العتاقة في اللباس واللعب والتنقل والفرجة، التي أضحت اليوم غريبة عن عوائد المعيش الحياتي الجاري. ثمة عناصر من المرئي انقرضت أو هي آيلة للانقراض، وأخرى أضحت منظمة أو تغيرت مظاهرها فصارت حديثة. هذا المغرب العتيق، والهامشي والقروي، تستقصيه عدسة المصور بعين الإثنوغرافي اليقظة، مسائلة فيه أعماقه الحياتية المحسوسة. هكذا يبني الفنان جماليته الخاصة على الحكي. فالعين راوية للمرئي هنا والآن، في مفارقة زمنية بين الهنا والآن، لا انسجام فيها بين الحواضر والأحواز، ولا بين طفولة منذورة لشظف العيش وسعادة الأشياء الصغيرة، وشيخوخة ممهورة بأوشام الذاكرة وحضور الأصول.

لا يفتر المصور يحكي. إنه يحكي لنا بعدسته عن خياطة الجلباب التقليدية، وعن العائلة الصحراوية التي يفيض عدد أفرادها عن إطار الصورة. يحكي لنا عن الأرض الجرداء التي تخترقها طريق ضيقة فلا نرى للمدى أفقًا... عن النساء الصحراويات ونساء المدن العتيقة بلباسهن المميز الذي يغطي منهن كل شيء. ذلك اللباس الذي استهوى في بدايات القرن مصورًا آخر عاشقًا للباس المغربي العتيق، هو غايتان كليرامبو، الطبيب النفساني الشهير وأستاذ جاك لاكان... إنه يحكي عن المغنيين الشعبيين العجوزين، اللذين تنطبع على محياهما تعاسة لا تبددها أهازيجهما المطربة للآخرين... وعن لعبة الملاكمة المرتجلة في الساحات العامة التي يتبارى فيها الأطفال تحت أعين المتحلقين...

"الراقص ولعبة الحظ" و"المغنيان العجوزان" 



كذلك الحال عن "لافوار"، ذلك المعرض المتنقل الذي يحط الرحال في القرى وفي أحواز المدن، بمسرحه ومغنيه ومهرجيه، وبتلك اللعبة الخطيرة التي تسمى حائط الموت، التي يبدو فيها راكب الدراجة وهو يقودها بأقصى سرعته صاعدًا هابطًا دوّارًا وعيوننا المندهشة تراقبه، ونتهجى تلك الكتابة المخطوطة على البرج الدائري: "حائط الموت"، فتنقطع أنفاسنا ونصفق له ونهنئه بأجهر أصواتنا...  وهناك في الهواء الطلق تلك الدائرة التي نراهن على أرقامها، كي نطمع في ربح صحن أو مجموعة كؤوس. فنقتني التذكرة من ذلك الشخص الغريب المسمى "العايل". لا هو بالرجل ولا هو بالمرأة. هو فقط علامة متحولة متنقلة بين الأنوثة والذكورة. بصوته المتخنث يشهر اللعبة ويعلن عن الفائز بها أو عن الخسارة الجماعية. يطلق الموسيقى الشعبية بإيقاعاتها الصاخبة وبجسده المتسربل بالقفطان الأنثوي يرقص... إنه يرقص أفضل من امرأة ويغني بصوت يطربنا، يحمسنا، ويضمد جراح خيباتنا وخسارتنا. "العايل" كائن أشبه بالخرافي، كأنه يخرج من حكايات ألف ليلة وليلة... إنه كيان هجين يبدو كما لو أنه آت لنا بحلم الربح من كوكب آخر...

تلك هي طفولتنا في الستينيات والسبعينيات، نعيشها من جديد في صور أولاد السيد، بنكهة الزمن الماضي وبألوانه المليئة بالضوء، التي لم تأت حداثة اللون كي تغير من ملامحه. الفوتوغرافيا شهادة حية توقف الزمن كي تجعلنا نقاوم الموت: موت الأشياء والكائنات ومعه موت بصرنا، أي عماءنا الأخير. حين يقول بارت بأنه "يتصوّر بأن فعل المصور هو مباغتة شيء ما أو شخص ما، وأن الحركة هذه تكون مكتملة حين تتحقق في غفلة من الذات المصورة"، يجعل من المصور قناصًا للزمن واللحظة، ولسيلان الحياة. غير أنه حين يتحدث عن الوضعة (pose) تلك التي مارسناها في زمن الصورة الشمسية، وخلدنا بها سمْتنا وطفولتنا ودهشتنا، يجعل منها شهادة ممسرحة. فالفوتوغرافيا لحظات حية من مسرح الحياة، ومُخرجها هو المصور بعينه وعدسته وإحساسه وتأطيره.

بالرغم من الاختلاف الكبير بين أولاد السيد والمصورين الماليين الكبيرين، سيدو كايتا ومالك سيديبي، فإن أعماله الفوتوغرافية لا يمكن إلا أن تذكّرنا بهما. هكذا نجد أنفسنا أمام سؤال تاريخي يصعب علينا أن نتفاداه: ألم تكن حظوظ الصورة الفوتوغرافية الأفريقية أكبر في ولوج العالمية من السينما؟  هي كانت كذلك بالرغم من الطابع التبخيسي الذي ارتبط بها، ربما لأن السينما كانت تتطلب إمكانيات هائلة، فيما كانت الفوتوغرافيا فن الفقراء، القادر على أن يستجمع تلافيف حياتهم لقطة لقطة...  

الفوتوغرافيا لدى داود أولاد السيد مذكرات تكتب نفسها بالضوء، وعين فاحصة لا تتقن الكلام إلا بتلك اللغة. ومهما صنع الرجل من أفلام جميلة لها طعم الفوتوغرافيا والحكاية، فإنها لن تنسينا أبدا هذا العالم الذي بدأ به الفنان مشواره الفني... إنها أعمال تصنع ذاكرتنا وتوقظها من سباتها، وتزج بها في أعماق وتفاصيل اختلافية أضحت العولمة تمحوها تماما، لتحولها إلى نتف شاردة في عالم صار متشابهًا إلى حدّ الضّجر... 

   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.