}

"هيب هوب" غزّة: صيحةٌ طالعةٌ من أعماق نفقٍ طويل

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 11 نوفمبر 2023
موسيقى "هيب هوب" غزّة: صيحةٌ طالعةٌ من أعماق نفقٍ طويل
لا ندري من بقي على قيد الحياة ومن استشهد
من خان يونس ومخيّمها، من مدينة غزّة، من أزقّة باقي مخيمات اللجوء في حي الشاطئ، والنصيرات، والمغازي، وجباليا، والبريج، ودير البلح، ورفح، هرب فلسطينيون غزيّون كُثُر نحو أنواع الفنون جميعها، رائين فيها انعتاقًا ممكنًا، تحرّرًّا، ولوْ مجازيًّا، من قضبانِ القفص الذي حُشِروا داخله. هُم، في مجملهم، وعلى اختلاف الفنون التي رأوا أنفسهم داخل تجلياتها، أرادوا أن يقولوا لا للحرب، نعم للسّلام. لكن رسالتهم لم تصل إلى العدوّ الرابض حولهم مثل شبح موتٍ مُقيم؛ العدو المدجّج بِالغباء وَبالعماء وَبالخرافة، الذي لم ينفكّ يرى في كل غزّيٍّ مشروع (إرهابيّ) ينبغي سحْله قبل أن يكبر ويشتدّ عوده، وربما هذا ما يفسّر (وطبعًا لا يبرّر) العدد المُفزع من الأطفال الشهداء منذ انطلاق ملحمة طوفان الأقصى (زهاء ستة آلاف طفل شهيد ومفقود ومثلهم من الأطفال الجرحى)، فوّت على عشّاق الفن في غزّة فرصة أن يجترحوا مساحةً ممكنةً للجنوحِ نحو السّلم البديل من الرصاص.
ولأن فنون الهيب هوب/ Hip Hop، التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي في أحياء السود النيويوركيّة، وعلى اختلاف أنواع الغناء والموسيقى وأشكال التعبير الأُخرى (الغرافيتي/ Graffiti، الكلام الغاضب المقفّى، حركات الأيدي الاحتجاجيّة التعبيريّة، إصدار الأصوات beatbox، وغير ذلك من تمظهرات الهيب هوب المُندرجة تحت عنوانها)، ترتبط بشكلٍ وثيقٍ بدافعيةِ الرفض، وتعبّر، أساسًا، عن تطلّعات شباب الشوارع والأنفاق وممرّات المِترو، فقد وجد كثير من شباب غزّة ممّن قرروا تجريب طريق الفن بوصفه نضالًا ومنصّة اختلاف، ضالّتهم في هذا الفن الصاخب الغاضب الطالع من فوضى الموسيقى وتقنياتِ الأصوات وضفافِ الصيحات.

صرخات اللاجدوى
يسير الشاب محمد الفرّا (19 عامًا)، بنظارته الشمسية السوداء، وبدلته الرياضية السوداء، يذرع شوارع خان يونس، يلتحق بهِ صديقه نادر أبو عايش (20 عامًا)، بألوان سترته الفاقعة، وحذائه الرياضيّ، يحلمان أن يواصلا السير حتى بحر غزّة، لكن مجمّع غوش قطيف الاستيطانيّ الاستعماريّ (وكان مشيهما وأمنياتهما قبل عام 2005) يقف لهما بالمرصاد، تسرق مستوطناته الـ21 منهما بحرهما وبرّهما وسماءهما.




جرّبا إلقاء الحجارة على دبابات الاحتلال، جرّبا كل أشكال الاحتجاج والمظاهرات، وحين تعِبا قرّرا أن يكونا رواد الهيب الهوب الفلسطيني في غزّة. أسّسا فرقة Palestinian Rappers (P R)، وبدءا بتأليف الأغاني التي تصوّر معاناتهما ومعاناة شعبهما مع جيش الاحتلال. "نناضل بموسيقانا" يقول الفرّا، ويضيف: "بعض أصدقائنا قُتِلوا رميًا بالرصاص".
بات الهيب هوب خيارهما وطريقة تعبيرهما عن واقع الحال المحيط بهما. شدهما للثقافة التي يمثّلها، انبثاقه من الشارع، وانسجامه مع أنّات القاع، وسخريته من سلطويّة النُّخب القاطنة في الأبراج العاجية.
بِإيقاعات ثقيلة من إنتاج ذاتيٍّ تتزاوج مع نماذج مألوفة من الموسيقى العربية الكلاسيكية، يمزج الفرا وأبو عايش الراب المعروف في الغرب مع الرّنين الشرقيّ.
في تلك الأثناء، ومنذ عام 2002، كانت اعتمالات هيب هوب آخر تخرج من شرنقتها في شوارع مخيم النصيرات جنوب غربي مدينة غزة، بمبادرةٍ من مدرّب الرقص أحمد الغريز الحاصل على شهادة في دراسات ما بعد الصدمة. الغريز بدأ بشكلٍ فرديٍّ إلى أن قرّر في عام 2004 تأسيس فرقة حملت اسم "كامبس بريكرز" وبما يشبه الترجمة الحرفية لِعبارة: مخيّمات كاسري العوائق.
في شارع وسط مخيم النصيرات، يؤدي أطفال ومراهقون حركات رقص "الهيب هوب"، أو التي تُعرف بـ"بريك دانس"، لعلّها تساعدهم بالتخلص من توتّر حربٍ وراء حرب، وتخفّف من الصدمات القاسية التي يتعرضون لها. أنواع رقص عديدة: "توب روك"، و"داون روك"، كجزء من البرنامج التدريبيّ الذي اعتمده الغريز.
في سياق وصفه أحوال تلامذته يقول الغريز: "بعض الأطفال يأتون وهم يعانون من إرهاق (بتلاقيهم ذبْلانين نعسانين) هؤلاء لديهم صدمات أكيد ولم ينالوا حاجتهم من النوم العميق. لاحظتُ أن أطفالًا آخرين يقومون بتجريح (إيذاء) أنفسهم، بعضهم انطوائيون، ولا رغبة لديهم بممارسة الرياضات، أو أي نشاط بدنيّ، أو اجتماعيّ. مع ممارسة "الهيب هوب" يتحقق لديهم استقرار ذهنيٌّ، ما يمكن أن يساعد في خلق جيلٍ واعٍ".

قفزٌ فوق دبابات الاحتلال

الغريز يوضح أن الفقر، وجدار الفصل العنصري، وحقوق المرأة، وويلات الحروب، وانقطاع التيار الكهربائي، من المواضيع التي تتناولها أغاني فرقتهم ساعين نحو تحقيق العالمية، وتسليط الضوء على معاناة أهل غزّة.
الغريز يكشف أن الفكرة قوبلت، بداية، بالرفض من أهالي المخيم، ولكن، وبعد أن أظهر لهم كيف يمكن أن يساهم هذا النوع من الرقص في التخفيف من الآثار النفسية التي يعاني منها أطفالهم، وكيف بإمكانه أن يبعدهم عن المشاكل المحيطة بهم، تقبّلوا انضمام أولادهم للفرقة.
الراقصة الطفلة جَنا الشافعي، وهي إحدى المتدربات في مدرسة الغريز، تقول: "نفسيتنا تغيّرت مع البريك دانس، نِفسنا نكون مثل باقي البنات الفلسطينيات، وبنات العالم. إحنا بنكيّف لمّا بْنيجي بنلعب مع صديقاتنا، وبنروّح عن نفسيّتنا".
كثير من فرق هيب هوب غزّة قدمت عروضًا في أوروبا؛ في أيرلندا الشمالية وبلجيكا وفرنسا وغيرها، وفي دول أخرى في قارات أُخرى، وكانوا يعودون، في كل مرّة، محمّلين بآمال جديدة، وطاقة متجدّدة.
ما حوّل محاولات الفرّا و(أبو عايش)، والغريز، وفرق هيب هوب غزيّة أُخرى مثل: RFM، و"غازسيتا/ Gazista"، وفرقة الشاب مهند صمّامة، وغيرها، إلى صرخات لاجدوى، ليس الأهالي في نهاية المطاف، فالفلسطينيّ يعشق، بطبعه، الفن والجمال ومختلف تجليات الحياة، إنها دبّابة الاحتلال، ظلّت تجثم فوق صدر غزّة، تخنق كل أنفاس البقاء في القطاع، إلى أن قادت شبابه في محافظاته جميعها، قسرًا، نحو اللغة الوحيدة التي يفهمها الصهيوني المكبّل بأسوأ عناوين التاريخ: لغة القوة المجهّزة بالسلاح، المعبّأة بمختلف مفردات المقاومة.

روح البدايات
من قاع الوجع صعدت تجربة مغني الهيب هوب والشاعر الأميركي صاحب الأصول الأفريقية توباك شاكور (1971-1996)، معلنًا تمرّده على الرأسمالية العاتية، والعنصرية المُمنهجة، وعلى تاريخ أسودٍ من الاستعباد والتطهير العرقيّ. صوت توباك شاكور (واسمه الحقيقي كروك ليسان باريش)، المدوّي بالغضب والرفض، معلنًا الثورة الكبرى، وصل صداه، رغم الحصار والتضييق والجرائم الصهيونية، إلى أطفال غزّة، فالتقطوه رغم اختلاف الثقافة، واستهجان الأهل، وضيق الحال، وسرعان ما تحوّل فنٌّ جاء من خلف أعالي البحار، قليل الموسيقى، عديم الطرب الذي يتميّز به الغناء العربيّ الشرقيّ، إلى صيحة إنسانية تعرّي العدوان وأعوان العدوان، وتضع العالم أمام مسؤولياته، فكل ما يطلبه فتيان غزّة وفتياتها مساحة ممكنة للحياة، لتفريغ طاقتهم السلبية، لملء الشوارع بالرقص المعبّر، وتزيين حيطان أزقّتهم الضيقة برسومات الأحلام المقصوفة بأعتى أسلحة العصر المتواطئ مع الجريمة، ومع مقترفيها من حرّاس الثّكنة المدججة بِعتاد الموت.

هيب هوب غزة: صيحة النفق الطويل

هيب هوب غزّة يختلف عن أي هيب هوب آخر؛ هيب هوب رَكْضُ الأمِّ بطفلها، لا تريده أن يستشهد قبل الأوان. هيب هوب دوران الطفلة حول نفسها لا تفهم ما يجري؛ تقول كنت نائمة فاعذروني إن لم أستطع سرد تفاصيل الأشلاء. هيب هوب أبٍ يأسف أن أولاده ماتوا على جوع بطونهم. هيب هوب الطبيب الذي أسرع لإجراء عملية الإنقاذ ليوسف الحلو الأبيضانيّ صاحب الشَّعر (الكيرلي)، فإذا به يوسفه هو نفسه، ابنه الذي تركه في ما اعتقد أنه مكان آمن. هيب هوب سيارة الإسعاف تحتار بين وظيفتيْن: سرعة الوصول إلى المستشفى علّها تبقي على أنفاس بعض من تحملهم داخلها من جرحى الإصابات الخطيرة، ووظيفة محاولة الفرار من طائرة نفّاثة تلاحقها لا يعرف سائقها ولا جرحاها لماذا. هيب هوب مراسل صحافيّ يأتيه خبر استشهاد زوجته وابنه وابنته وحفيده على الهواء مباشرة، فيؤمّ عليهم صلاة الجنازة، ثم يعود إلى هواء مهمّته بتغطية أخبار القتل اليوميّ والتدمير التدرجيّ، وهو يهمس لنا ولهم ولكلّ العالم: "معلش". هيب هوب شاب ممن كان يمكن أن يكون رسامًا، أو مهندس عمارة، أو مؤديَ راب (رابَر)، فإذا به، أمام كل هذا العدوان، يصبح مقاتلًا يذود عن أرضه وأهله ومعتقداته وكرامته، وحين يحسن التسديد ويتمكّن من إحراق الدبّابة الغازية يهتف فرحًا: "ولّعت". هيب هوب (أبو عبيدة) يقول للأنظمة العربية نحن لا نريد منكم فزعة عسكرية (لا سمح الله) فتصبح هذه العبارة (ترِند) رويّها أجمل من أي إيقاع. هيب هوب شاب آخر وُلِد مقاومًا بالفطرة، يشعل جرّافة عاتيةً، بعد أن صعد فوقها، بقدّاحة ثمنها عشرة قروش. هيب هوب تحوُّلُ الصفرِ إلى معنى من كثرة ما سمع الناس الناطق صاحب العيون السود يكرر جملة: "والتحم المقاومون معها (الدبّابة، أو الجرّافة، أو ناقلة الجند) من نقطة الصفر".
فأي هيب هوب أوضح من نصلِ هيب هوب غزة الطالع من أعماق النفق الطويل الذي يصبو إلى نور فلسطين في نهاية مساراته الدامية؟  




فنانو هيب هوب غزّة يحاولون أن يُسمِعوا العالم الأصمّ صوت الحقيقة، صوت القذيفة ما بين الدقيقة والدقيقة، يريدون برقصات (البريك دانس)، وكلمات الراب، وإيقاعات (البيت بوكس)، وجداريات الغرافيتي، و(التوب روك)، و(الداون روك)، وتناغمات (الإم سيس)، وتنسيق الأغاني (الدي جي)، أن يُخبروا العالم أن أهل غزّة ليسوا أرقامًا، بل هم بشر ينتمون إلى هذا الجنس البائد من كائنات الكرة الأرضية.
كثيرٌ منهم جرّبوا السجن، ذاقوا عضّات الفقر، عاشوا فائض بطالة كاد يعصف بموجبات وجودهم، لكنهم، ورغم كل هذا وذاك، أصرّوا على أن يتعرّف العالم على الوجه الحقيقي للإنسان الفلسطينيّ، الذي يحب الحياة، ويظل يسعى لأجمل ما فيها، متطلّعًا نحو أكثر تجلياتها رقيًّا وإبداعًا وعناوينَ سلامٍ حقيقيٍّ؛ عادلٍ ودائمٍ وشامل.
لا نعرف، على وجه الدقة، كم من فناني هيب هوب غزة، قضى شهيدًا، وكم منهم تحت الأنقاض، ولا نعرف إن كان منهم اليوم مجروحين بأجسادهم، على اعتبار أن جروح أرواحهم انغرست عميقًا في اللحظة التي اكتشفوا فيها أن حرب وجودهم لا بد منها مهما سالت غزيرةً عزيزةً دماؤهم، وانهارت عمارة عيشهم على رؤوس مظلوميّتهم، حيث رقصةٌ بريئةٌ خفيفةُ الظِّل لم تعد تجدي، ولم تعد ممكنة قبل تطهير شوارع مسرّاتهم من بُؤَرِ الجنازير المعادية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.