}

تحت ذات السماء في مائة عام

فارس الذهبي 26 مارس 2023

لا شيء في فيلم (تحت سماء دمشق) يثير الحنين إلى تلك البلاد كما يوحي اسم الفيلم، فمن حيث المبدأ تعالت أصوات من السوريين في محاولة كشف كُنه الفيلم الذي يستعير تاريخيًا اسم ثاني فيلم سوري تم تصويره في تاريخ السينما السورية وكان من إخراج إسماعيل أنزور، فهذه الاستعادة الكلاسيكية التي تدخل السينما السورية مجددًا عبر هذه البوابة، لا تمت بِصلة أبدًا إلى تلك النوستالجيا التي عششت في ثنايا عقول عشاق السينما السورية. فإن كانت صورة دمشق في الفيلم الروائي الصامت (تحت سماء دمشق) الذي تم تصوير مشاهده في عام 1932 في كل من دمشق وريفها، في الربوة وقاسيون والزبداني، قصر الأمير الجزائري وأسواق دمشق القديمة، ناصعة وتثير الحنين للزمن الجميل، فإن ذلك يبدو وقد أصبح ضربًا من الأحلام القاسية، فإن كان الأجداد يعملون على إنتاج أفلام روائية تخييلية درامية من أجل الشروع في بناء صناعة سينمائية سورية، فإن الأحفاد يعملون على بناء أفلام توثيقية في محاولة لقراءة التاريخ وحركة المجتمع ونقدها وربما تفكيكها أو إعادة تشكيلها لتصبح حكاية عالمية أو بيان احتجاج عالي الصوت.

في محاولة لقراءة بنيوية لفيلم (تحت سماء دمشق) الذي انطلقت عروضه العالمية الأولى في مهرجان برلين السينمائي الدولي هذا العام، للثلاثي الإخراجي هبة خالد وطلال ديركي وعلي وجيه، تبدو صورة المدينة ذاتها في الفيلم الجديد الذي وقف خلفه إسم كبير في عالم الوثائقي في العالم وهو طلال ديركي، تبدو مأساوية وكابوسية حتى النخاع، ليشكل جزءًا ثالثًا من قراءته للواقع السوري المتشظي منذ عام 2011، بعد " العودة إلى حمص" و "عن الآباء والأبناء" بمشاركة مخرجين سيتصديان للوثائقي الروائي الطويل لأول مرة هما هبة خالد وعلي وجيه.

يمكن لهواة الدراسات والأبحاث إجراء مقارنة بنيوية حول صورة البلاد السورية عمومًا والتي تشكل دمشق النموذج عنها هاهنا من خلال عنوان الفيلم (تحت سماء دمشق) الذي أنتج مرتين في فترة تقارب المائة عام، مقارنة تكاد تعكس الفارق الذي جرى في هذه البلاد من خلال العدسة السينمائية، حصل فيه ما حصل على البلاد برجالها ونسائها وعلى كل شيء بما فيها السينما ذاتها.

ففي حين تبدو دمشق وسورية من خلفها في الفيلم القديم منفتحة زاهية، نساء جميلات تشربن الويسكي، وتصارعن من أجل الحب والرغبة، كما حال المقاربات الفنية للأعمال الفنية الميلودرامية العالمية كلها في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ورجال يقرأون الجرائد في القطار، صراعات غرامية تم تصويرها في قصر الأمير سعيد الجزائري الباهر في دمر قرب النهر وأشجار الحور.

تبدو النسخة الوثائقية الجديدة من الفيلم كابوسية جهنمية، تعكس حال المجتمع الذي يصارع من أجل البقاء بعد عقود من الثورة والحرب والعقوبات والقمع والصراعات السياسية والفكرية والدينية التي سحقت كل أطراف المجتمع السوري بلا استثناء وأودت بحياة عشرات الآلاف منهم في غياهب النسيان، فإن كانت هذه هي حال المجتمع السوري، فكيف يمكن أن يكون حال أضعف عناصر هذا المجتمع، ألا وهي المرأة التي انطلقت فكرة كتابة الفيلم من محاولة بوح جادة قامت بها كاتبة الفيلم (هبة خالد) التي تُصر في الشريط السينما الوثائقي على أن يكون صوتها أساسًا للتعليق على الفيلم، لتدخل كراوٍ أساسي وكنموذج شبه أساسي في لعبة الفيلم داخل الكادر وخارجه، بين صناعه وأبطاله.

لقطة من الفيلم


فهي تقترح على المشاهد وجود فرقة من خمس فتيات ترغبن في تقديم عرض مسرحي في دمشق، يتحدث عن المرأة ومشاكلها المعاصرة في سورية وبالتحديد للحديث عن الانتهاك والتحرش الجنسي الذي تتعرض له المرأة السورية دون أية قدرة على البوح به في ظل خضوع المرأة الشرقية عمومًا لسلطة ذكورية لا منتهية مستقوية بسلطة سياسية ودينية، تسحق الشخصية النسائية دون هوادة وفي كل مكان.

نسخة 1932 قدمت نموذجًا غير واقعي عن المرأة السورية، بصورة درامية حالمة. بينما نسخة 2023 قدمتها بصورتها الأشد واقعية والأشد قسوة.

تستأجر الفتيات بيتًا دمشقيًا جميلًا و تعتمدنه كأساس في انطلاق مشروعهن وكفضاء لإجراء البروفات والترتيبات ثم تنطلق كل واحدة منهن في إتجاه لتقمن بإجراء بحوث ميدانية خاصة عن الفيلم، لتتقاطع قصصهن الشخصية مع الواقع المُر للمرأة في سورية، ومع توالي الشخوص التي تستعرضها بطلات الفيلم يوثق المخرجون الثلاثة أهوالًا يعرفها الجميع وأقصد جميع من عاش في تلك البلاد عن أحوال المرأة المزرية، ولكن من يعيش خارج تلك البلاد لا يمكن له أن يتخيل وجود انتهاكات بمثل هذه الفداحة، فالفيلم يخاطب مُشاهدًا آخر، لا يهم من هو سوى أنه غير سوري، الجميع في سورية التي تشبه بقية الدول المشرقية في كل شيء، يعرف قصص عن أزواج هجروا زوجاتهم، دون أية حقوق، قصص عن زوجات أبعدن عن أطفالهن، عنف جسدي وعنف لفظي، استغلال للمرأة العاملة في المعامل، قصص عن تحرش جنسي مشرعن ومباح، دون أي حسيب أو رقيب، في الشارع في الجامعة، في العمل، في كل مكان.

نسخة 1932 قدمت نموذجًا غير واقعي عن المرأة السورية، بصورة درامية حالمة. بينما نسخة 2023 قدمتها بصورتها الأشد واقعية والأشد قسوة

ولكن المفاجأة أن هذا التحرش لم ولن يتوقف حتى فيما بين عناصر التصوير لهذا الفيلم، فأحد المنتجين الفنيين في الفيلم يقوم بمحاولتين متتاليتين بالتحرش باثنتين من فتيات الفرقة المسرحية من بطلات الفيلم، وهذا ما يغير من مسيرة الفيلم التي كانت تفترض استعراضًا لمشاكل المرأة في المجتمع، ومن ثم تقديم العرض المسرحي واستقراء نتائج المسرحية على الجمهور، لكن جرثومة انتهاك المرأة تنتقل للفريق ذاته، وهنا يقرر المخرجون متسلحين براوية الفيلم التي باتت بطلة متورطة بعلاقة عاطفية مع بطلات المسرحية أن تسحبن هذا التحرش الحاصل في كواليس الفيلم إلى أمام الشاشة حتى يصبح مادة أساسية من الفيلم، تطورت في أثناء الإعداد للفيلم ذاته، لتصبح الحالة مستعصية بشكل كامل، فالفريق المفترض به تحصيل حقوق المرأة ورواية مشاكلها، انتهكت فيه حقوق المرأة ذاتها على يد أحد صناعه الذي تم استبعاده من الفيلم وتقديم شكوى قضائية ضده أمام القضاء كنموذج لرد فعل المرأة المنطقي على أي متحرش.

في هذا الفيلم تبدو المرأة مُحاصرة فعلًا، دون أي أمل في الإنقاذ، فعدا عن كون السلطة الذكورية تحاصر المرأة في فريق الإخراج، عبر وجود مخرجة واحدة محاصرة من وجهتي نظر لمخرجين ذكرين، أحدهما يملك تاريخًا حافلًا في السينما الوثائقية السورية، والآخر يملك الأرض حيث مكان التصوير وهو صحافي قديم وسيناريست قوي فاعل في المشهد الدرامي المعاصر.

لقطة من الفيلم


سيبدو صوت المخرجة المرأة وقصتها التي تبحث عن نجاة من هذا الكم الكبير من الذكور في الفريق الإبداعي للفيلم، محاصرًا وعاليًا، ولنا أن نتخيل آلية النقاش الدائر في كواليس الفيلم بين المخرجة التي تناضل من أجل سرد قصتها مع شريكيها، زوجها المخرج، والمخرج الشريك، لتنجو بقصتها الخاصة بعيدًا عن الرقابة والشراكة الذكورية، ولكن المفاجأة تكون في إقحام الكاتبة والمخرجة المشاركة نفسها في المكاشفات، لتبدو كضحية أخرى لهذا المجتمع الذي حاول سحقها كما قالت معلقةً في شهادتها الشخصية، لتعري تجربتها وتفندها منذ قرارها الكبير بالتخلي عن الحجاب والتمرد على العائلة والمجتمع والدين، وصولًا لمواجهتها الفكرية مع زوجها وفريق العمل والماضي الذي عاشته  مطالبة بمساحتها الخاصة.

لا يبدو الصراع منتهيًا فقط في فريق العمل، بل أيضًا في الفرقة المسرحية التي تدب الخلافات فيما بينهم، وخلف كل خلاف يكمن الرجل، فتلك التي يمنعها خطيبها من اكمال التجربة، وأخرى تتعرض للتحرش من المنتج، بعد أن تمردت سياسيًا ومجتمعيًا على العائلة الموالية للنظام السياسي، وأخيرًا تلك التي لم تجد في الفريق الأنثوي أي أمل إبداعي للوصول إلى نص محكم وعالي الفنية يختصر البحوث التي قمن بها للوصول إلى نص مسرحي خاص للعرض المنتظر، ببساطة لأنهن نساء،  فتقوم المخرجة (فرح) بالاستعانة بكاتب ذكر، بعد جولة جدل طويل مع أعضاء الفرقة حول أهلية ما تفعل ، فتُصرّح المخرجة بأن الكاتب الذي تنوي التعاون معه (أمير) هو الأفضل وبإمكانه تقديم كل ما تفكر به المخرجة من أفكار حول حرية المرأة وعليه يكون الرجل دومًا هو الذي تثور عليه المرأة وهو في ذات الوقت الذي تعود إليه لإنقاذ أحلامها. هي المرأة التي تقمع طموحات المرأة أيضًا.

لدينا موضوعان فنيان في الفيلم، مسرحية داخلية، تفشل المرأة/المخرجة المسرحية في إنجازها، حتى تستعين بكاتب رجل/ذكر. وفيلم سينمائي لمخرجة تشكل عنصرًا واحدًا من فريق إخراج كبير يتكون بالإضافة إليها من مخرجين اثنين. ولكن المخرجة المرأة تنجح في إتمام قصتها ورواية ما تريده من اعترافات وسرديتها الخاصة بالاستعانة بفنانين محترفين معها.

وحدها تبدو النجمة المعتزلة صباح السالم والتي تشكل قصتها الحدث الإطار في الفيلم، مستسلمة لقدرها، الذي يعرفه جميع السوريين، كما يعرفون حكايتها بالتفاصيل، فهي نجمة دخلت السجن لأسباب خاصة ومن ثم خرجت محطمة مهمشة، كضحية متكاملة الأركان لهذا المجتمع الذكوري الذي يسحق الجميع، مع إغفال كامل لدور السلطة السياسية والقانونية في مأساة المرأة المعاشة، وحدها تلك المرأة الفاقدة عقلها تصرخ وهي تدور في مشفى الأمراض العقلية حول هذه المسؤولية. وحدها تصرخ بجرأة وشجاعة، ولكن من يأخذ المرأة على محمل الجد في تلك البلاد فما بالك إن كانت (مجنونة) أيضًا.

يبدو حراك المرأة أساسيًا وطازجًا في المطالبة بحقوقها، ويبدو الصوت عاليًا من قبل جميع النساء، وهذا أمر مبشر وحاسم في تحصيل المرأة السورية جزءًا من حقوقها الأساسية، ولكن السؤال يسير بهدوء مع المشاهد الكابوسية لدمشق، التي تعيش بلا خدمات وبلا أمل، وفي هوامش العاصمة حيث مكبات القمامة وأسواق رؤوس الأبقار، ومشافي الأمراض العقلية ومدارس الصم والبكم، وأيضًا في المسرح الذي يبدو مثله مثل البقية هامشًا جانبيًا وليس منصة جريئة لإيصال الصوت. يسير السؤال عاليًا بحثًا عن أجوبة من النساء أنفسهن، بعيدًا عن الرجال الذي يكتبون مسرحيات عن حقوق النساء، وعن مخرجين يقومون بإخراج أفلام عن حقوق النساء، ومنتجين يقومون بإنتاج أفلام عن حقوق النساء.

فأين هن النساء؟

في النسخة الوثائقية من (تحت سماء دمشق) يعلو صوت السؤال، مطرزًا بالموسيقى والسجائر والمقاهي والخوف والدموع والفراق، والقهر... بعيدًا عن النسخة الروائية من اسم فيلم (تحت سماء دمشق) الصامتة دون أي موسيقى. فعن أي مدينة نتحدث، وتحت أية سماء نقف.

وعن أي صوت نتحدث...؟ فليس هنالك من ناجين أبدًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.