}

عن العنف لدى الكتاب

فارس الذهبي 14 يناير 2024
تغطيات عن العنف لدى الكتاب
نشب عراك بالأيدي بين ماركيز ويوسا (Getty)
لطالما كانت ردود الفعل العنفية جزءًا أساسيًا من "الحراك النقدي"، ضمن سياقات الأدب والمسرح والشعر طوال القرون العشرة الماضية. فعلى الرغم من كون النشاط الأدبي عاملًا أساسيًا في أخلاق الأمم، والتهذيب والتثقيف، فإنهما كانا دومًا عنوانًا لحضارة الكاتب ورفعته وثقافته، إلا أن النفس البشرية كانت تخرج لمامًا على إزار اللباقة الاجتماعية وصورة الكاتب النمطية التي تفترضه متأملًا ومسالمًا يتأبط اللهو مختفيًا خلف أوراقه، تلك الصورة رسمت على مدار عشرين قرنًا من تاريخ الأدب المعروف في العالم، حينما بدأت التقاليد الفنية والاجتماعية تبني للشاعر أو الأديب صورة معينة، أطرتها تنظيرات وأصول، ومبادئ قام على تأليفها فلاسفة وأدباء عظام، ابتداء من أفلاطون وأرسطو، وصولًا إلى فوكو، ودريدا.
مثلًا، لم تكن العلاقة بين الفنان والناقد علاقة سلمية، وليس المطلوب منها أن تكون علاقة محاباة، أو تزلف، فالناقد الحقيقي هو من يعري الإبداع، ويبحث في صميم العمل الفني عن الأصالة والحداثة والتميز في النص، أو التجديد في الشكل والمضمون، وليس عن التكريس والتصفيق المبتذل.
وأحيانًا يغضب الناقد من الأعمال التي لا تعجبه، مما قد يدفعه إلى توجيه نقد لاذع وقاس إلى الفنان، وليس كل فنان بقابل لتلك الطريقة في النقد، ولكنها بالطبع حق من حقوق التعبير والقراءة الحرة للنص، بمعزل عن شخص الفنان، والعلاقة المرتبكة بين الفنان والناقد، أو بين الفنان والمجتمع. فهنالك نوع من الكتاب، أو الفنانين الذين ترتفع مستويات حساسيتهم للانتقاد، فتتحول الطاقة الإبداعية إلى نوع من الغضب المنفلت الذي من الممكن أن يسارع إلى تشكيل عنف ضد الآخر.
ولعل تتبع المسار العنفي للعلاقات الأدبية سيعطينا لمحة عن التفاعل الفني ضمن إطار النشاط الاجتماعي العام، وكيفية انعكاس الواقع السياسي والاجتماعي على الفنان نفسه. وبالتالي على أدبه هو.
في الاتحاد السوفياتي، مثلًا، يذكر النقاد أن الشاعر ماياكوفسكي الذي كان يتميز بشخصية غاضبة ونزق عميق، يحميه جسد ضخم، وقوة بدنية لافتة، وكان نزقه وعنفه يتجسد أيما تجسد في عدم تقبله للنقد الذي تتلقاه أعماله، فتذكر الحوليات أنه قرأ مرة نقدًا قويًا وهازئًا من إحدى قصائده في صحيفة أدبية محلية، من ناقد تعشعش الكراهية في ما بينهما، كان ثملًا وقتها، فلم يكن منه إلا أن ألقى كل شيء، وسارع إلى الحانة التي يتردد عليها الصحافي، أو الناقد، الذي مارس نقده على قصيدته.  وانهال عليه بالضرب المبرح، بحيث أنه ثبت وجهه على طاولة المشروبات وهو يشتمه وسط ذهول الجميع. نلفت هنا أن ماياكوفسكي كان شاعرًا رومانسيًا، وقصائده تتميز بلغة رقيقة، وصور بالغة الشاعرية.
في مقلب آخر، لن يتخيل إنسان أن هنالك معركة بالأيدي سوف تنشب بين اثنين من كبار أدباء العالم حائزين جائزة نوبل للآداب، وهما غابرييل ماركيز، وماريو فارغاس يوسا، حيث يروي المصور الفوتوغرافي رودريغو مويا حادثة جرت حينما طرق باب بيته في الظهيرة من يوم عادي، وإذا بغابرييل غارسيا ماركيز وزوجته يضعان نظارات شمسية في يوم غائم، ويقفان عند الباب. دخل غابو، وكان يبتسم، بينما كانت زوجته متجهمة. وعلى الفور نزعا النظارات، فظهرت عين منتفخة في وجه غابو، مما أوجب التعليق من قبل زوجته: "ماريو فارغاس يوسا، ضربه... ونحن هنا لالتقاط صور للذكرى".
كان فارغاس يوسا وغابرييل ماركيز صديقين قديمين، جابا أوروبا في منفى اختياري مشترك، مع زوجتيهما. في عام 1976، لم يكن أي منهما قد حاز جائزة نوبل، ولكن الاثنين كانا من ألمع وجوه الأدب في العالم. صداقتهما كانت تتقاطع مع الانتماء السياسي والأدبي، والنظرة إلى العالم. نجومية ماركيز بدأت تنمو بشكل كبير، مما أثار القليل من غيرة يوسا...




ولكن القصة لم تبدأ بعد، فانحياز ماركيز لكاسترو، وابتعاد يوسا المتدرج نحو يمين الوسط في أميركا اللاتينية، كان ينذر بتباعد أولي بين الرجلين، مع العلم أن كتاب "تاريخ قاتل" (رسالة دكتوراة أنجزها ماريو يوسا عن رواية مئة "عام من العزلة"، ولكنه لم ينشرها حتى يومنا هذا) كان يشي بصداقة متينة إلى النهاية، وتفان في دعم الآخر، لكنه لم يجر في الاتجاهين، بل كان حتى تلك اللحظة من يوسا إلى ماركيز، ولكن حدث أن كان يوسا برفقة زوجته في رحلة بحرية، حينما قابل سيدة أثارت إعجابه، واتفق أن أعجبت به هي أيضًا، من دون أن تدري بذلك زوجته، يوسا كان رجلًا وسيمًا جدًا، أنيقًا متمسكًا بالأتيكيت، على عكس غابو الذي كان فوضويًا بشكل من الأشكال، ماركيز أخبر باتريسيا يوسا بما فعله زوجها.
ولكن بعد أشهر طويلة، وحينما تواجهت مع زوجها أخبرته بأنه ليس الطرف اللاهي الوحيد في هذه العلاقة، وأشارت تلميحًا إلى اعجاب ماركيز بها، وأخبرته بما نقله عن مغامراته العاطفية. فكان أن التقاه يوسا في حفل موسيقي في نيو ميكسيكو، وحينما اقترب منه غابو عاجله يوسا بلكمة قوية أطاحت به أرضًا.
الغريب في القصة أن صداقة أدبية كبيرة قد انتهت بسبب همسات ذكورية أشبه بأفعال المراهقة، ولم يتم تداول القصة على نطاق واسع أبدًا، وبقيت الصور حبيسة مكتبة غابو الذي كان مولعًا بتوثيق كل تفاصيل حياته في ملفات خاصة، وكان يريد لحادثة اللكمة أن تكون موجودة في أرشيفه، على أنها نتيجة من نتائج العنف والغيرة البشرية، ربما كان يريد أن ينتصر بالنقاط بعد هزيمته بالضربة القاضية وسقوطه أرضًا في حلبة التنافس الذكوري الذي استعر بينهما بشكل كبير بعد حصول ماركيز على جائزة نوبل للآداب عام 1982، والذي جعل يوسا يستشيط غضبًا، وتروي خادمته بأن ماريو كان يحطم في كل سنة أثاث المنزل حين صدور نتائج جائزة نوبل للآداب، معلنة فوز غيره، مرددًا بأن لكمته لماركيز كانت مترافقة مع جملة قالها له: "هذه من أجل باتريسيا"، وباتريسيا هي زوجته التي اتهمه يوسا بالتحرش بها. ولكن مرسيدس الفطنة كانت تجيب دومًا في دفاعها عن زوجها بأن "هذا الكلام محض افتراء، لأن زوجها غابو يعشق فقط الجميلات".
بعد حصول يوسا على نوبل عام 2010، استعادت العلاقة توازنها بين العملاقين، وتعاهدا على عدم الحديث بتلك القصة نهائيًا. فالعنف نتاج الغضب، والأدب نتاج العقل.
أما بن جونسون، الذي كان نجم نجوم المسرح الإنكليزي في القرن السادس عشر، فقد كان مبدعًا كبيرًا يضاهي بكل جدارة نظيره وليم شكسبير، معاصره الذي يكن له كثيرًا من الود والحسد والتنافسية. ولكن شخصية بن جونسون الغاضبة كانت على الدوام سببًا في تأخر مسيرته، وفي الوقت نفسه دافعًا له للتنافس والعمل والكتابة، فقد دخل بن جونسون السجن مرات عدة بسبب غضبه ونزقه. أول مرة دخل فيها السجن كانت بسبب قتله للممثل بن سبنسر في حانة إثر شجار حول مسألة فنية. ولكن تدخلات البلاط الملكي حالت دون إتمامه المدة الكاملة لعقوبته، فخرج واستأنف عمله المسرحي، بعد أن وصم إبهامه بوصمة المحكوم، أي بتذويب البصمة بالأسيد.
عمل شكسبير معه كممثل في رائعته "لكل شخص مزاجه"، وأدى دوره بشكل رائع حسب وصف جونسون له. كان وليم شكسبير يمتص جونسون إبداعيًا، ويتابعه في كل جملة وتصاعد درامي، لكن اشتغال شكسبير في ما بعد بالكتابة، ونجاح أعماله بشكل غير طبيعي في ذلك الوقت، أدى إلى غضب كبير من جونسون تجاه الوافد الجديد إلى عالم الكتابة من التمثيل.
فكتب بن جونسون مسرحية أسماها "مشاغبو سينثيا"، قدم فيها هجاء كبيرًا للكتاب المسرحيين الذين يتملقون البلاط الحاكم، وانتقد طريقة وأسلوب كتابتهم، وهو يقصد من يقصد بالطبع.
فرد عليه كاتب لم يتوقع جونسون أنه سيأخذ الهجاء بشكل شخصي أبدًا، وهو جون مارستون، فكتب مسرحية تهجو بن جونسون بشكل شخصي، واصطف معه كذلك الكاتب المسرحي توماس ديكر، الذي كتب بدوره نصًا مسرحيًا هجا فيه جونسون، وطريقة كتابته وحياته، فاشتعلت ما سميت وقتها بـ"حرب المسارح"، كان كل كاتب مسرحي يسخر جزءًا من التأويل في نصه لهجاء مقصود لكاتب آخر، وكان الجمهور عليمًا بكل تفاصيل المعركة تلك، لا بل ومتفاعلًا معها، باللكمات والشجار في ما بعد تلك العروض، مما جعل بن جونسون يرد على الكاتبين بمسرحية هجائية ساخرة أسماها "الشويعر"، وهو مصطلح أطلقه يومها جونسون.
في مسرحيته "هيستريوماستيكس" (1599)، سخر مارستون من فخر جونسون من خلال شخصية كريسوجانوس، فرد جونسون بالسخرية من أسلوب مارستون اللفظي في مسرحية كل رجل من باب الفكاهة.
أما وليم شكسبير فلم ينخرط في تلك الحرب المسرحية أبدًا، من باب الخوف من عنفية جونسون تجاهه، لا سيما أنه كان قد قتل ممثلًا من قبل. وكان المسرحي كريستوفر مارلو العنيف الطائش بالدرجة ذاتها التي كان بها رومانسيًا وشاعرًا، قد قُتل كذلك في حانة إثر شجار حول مسرحية كان قد ألفها من قبل، وقد قيل إنه قتل بسبب شجار على الفاتورة في الحانة.
كل هذا جعل شكسبير ينخرط تدريجيًا في "حرب المسارح" بشكل موارب وغير جريء، وعبر مشهد عابر في مسرحية "هاملت" هو المشهد بين روسنجراتز وهاملت وجيلدنستيرن، ملمحًا فيه بسخرية ضد بن جونسون، ولكنه لم يكتب مسرحية كاملة في هجاء أي أحد من معاصريه. وكان ذلك ملجًأ له من الانخراط في العنف بين الأدباء.
تبقى ردود الأفعال بين الأدباء متعلقة بحجم التواصل بينهم، وحجم الإحباط العام المحيط بهم، ولكنه بكل تأكيد دليل على حرية لا محدودة للروح الإبداعية التي تسكن ذلك الأديب، أو الفنان، روح تنافسية تخرج من النص لتنطلق مع القبضات نحو الأعين، لم تكن تلك كل التجاوزات في تاريخ العنف بين الفنانين، وإنما كانت تلكم ذرى تخفي خلفها كثيرًا مما سيقال لاحقًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.