}

"النهضة المشنوقة": استعادة معركة خلق هوية أوكرانية سلافية خاصة

فارس الذهبي 22 أكتوبر 2023
تغطيات "النهضة المشنوقة": استعادة معركة خلق هوية أوكرانية سلافية خاصة
جيرزي جيدرويك (Getty)
خلال زيارته التاريخية إلى العاصمة البولندية وارسو، تطرق الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في خطابه الملهم والمشحون بالعواطف القومية والتحدي، إلى شخصية بولندية بارزة، ساهمت طويلًا في إعادة تشكيل الشخصية القومية الأوكرانية والبولندية على حد سواء، حينما ذكر جيرزي جيدرويك، الكاتب والناقد والمفكر البولندي مقتبسًا عنه "إنه لا يوجد بولندا مستقلة من دون وجود أوكرانيا مستقلة".
فمن هو جيرزي جيدرويك هذا؟
لم يك أحد ليدرك مدى التشابك الإنساني والقومي والإثني بين شعوب وسط وشرق أوروبا، حتى كان اليوم الذي ظهر فيه الاتحاد السوفياتي، الذي ألغى كل شعور بالمحلية والقومية، ونفى أية خصوصية لسكان تلك البلاد المتشابكة تاريخيًا قوميًا وثقافيًا، فصبغها باللون الأحمر، وفرض تعليم اللغة الروسية عنوة، كلغة أولى للحكومات الرسمية والتعليم، وحتى الأدب، لكن كان هنالك رأي آخر لدى طبقة المثقفين في كل من بولندا، وأوكرانيا، ولعل جيرزي جيدرويك هو مثال صارخ وتجسيد إنساني لشعوب تلك المنطقة، فالرجل ولد في مينسك (عاصمة بيلاروسيا حاليًا) عام 1906، التي كانت عاصمة للكومنولث البولندي الليتواني، الذي نشأ في المنطقة ليضم أعراقًا وجنسيات مختلفة، لتضم فئات وطبقات من السكان من السلاف واليهود والكاثوليك والبروتستانت، وبنسبة أقل الأرثوذكس الروس، والبيلاروس، ممن رفضوا الهيمنة الروسية عبر القيصرية، ومن ثم عبر الشيوعية.
درس جيدرويك في موسكو، ولكنه لم يكمل دراسته بسبب قيام الثورة البلشفية هناك عام 1917، فعاد إلى مينسك ليتابع دراسة القانون، ليغادرها لاحقًا بفعل الحرب الروسية البولندية 1919، ليستقر في وارسو، متممًا دراسته للقانون، وليتخذ قرارًا بدراسة الأدب الأوكراني في جامعة وارسو. كانت أولى نشاطاته القومية في بولندا هي في الحث على تحقيق المصالحة بين الكنيسة الكاثوليكية البولندية مع الكنيسة الكاثوليكية اليونانية التي يتبع لها عدد كبير من الأوكرانيين في بولندا وفي غرب أوكرانيا، لمعرفته وإدراكه بأن المصالحة مع الأقليات ستصب في مصلحة تشكيل الهوية الوطنية القومية لبولندا المستقبل. وبناء عليه، تشكل وعيه الكبير في وحدة المصير بين شعوب المنطقة التي كانت خاضعة للكومونولث البولندي الليتواني الذي كان يضم شعوبًا من أوكرانيا وبيلاروسيا والتشيك والسلاف والإستونيين، كان قارئًا مخيفًا للتاريخ وللتغييرات الجيوسياسية، التي خضعت لها شعوب تلك المنطقة بين المطرقة الروسية/ السوفياتية والسندان الألماني.




بعد الحرب الكونية الثانية، انتقل إلى باريس، ليكمل فيها حياته، مصدرًا مجلته الرائدة المختصة بالثقافة لدى اللاجئين، والتي أطلق عليها اسم (كولتورا).
اشتهر جيرزي جيدرويك بنظريته التي عرفت عنه تحت اسم "عقيدة جيدرويك"، التي تنادي بالمصالحة بين شعوب شرق ووسط أوروبا في الفترة اللاحقة للحرب الكونية الثانية، وحث هذا المبدأ على ضرورة إعادة بناء علاقات جيدة بين هذه الشعوب. ويزعم هذا المبدأ أيضًا أن الحفاظ على استقلال دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الجديدة الواقعة بين بولندا والاتحاد الروسي هو مصلحة بولندية أساسية على المدى الطويل. وقد دعا هذا بولندا إلى رفض أي طموحات إمبريالية ومطالبات إقليمية مثيرة للجدل، وقبول التغييرات الحدودية بعد الحرب. أيد هذا المبدأ استقلال بيلاروسيا وأوكرانيا ودول البلطيق. كما دعا إلى معاملة جميع دول أوروبا الشرقية على قدم المساواة في الأهمية، ورفض المعاملة الخاصة لروسيا. لم تكن عقيدته معادية للأخيرة، لكنها دعت كلًا من بولندا وروسيا إلى التخلي عن صراعهما من أجل السيطرة على دول أوروبا الشرقية الأخرى، خصوصًا دول البلطيق وبيلاروسيا وأوكرانيا بشكل رئيسي، من أجل بناء مستقبل وبيئة مستقرة للتقدم والتنمية.
كانت رؤيته الاستبصارية منطلقًا لبناء قومية بولندية معاصرة، في مواجهة "العدو التاريخي" للأمة البولندية وشعوب وسط أوروبا، فالطموح الروسي شأن تقليدي فيما يخص ضم أو احتلال هذه الدول.
ولكن منجز جيدرويك الأساسي كان متعلقًا بكتابه الضخم، بالشراكة مع الكاتب الأوكراني يوري لافرينكو، حينما أصدرا أنطولوجيا مختارات من الأدب الأوكراني في الفترة ما بين 1917 ـ 1935.
تتضمن الأنطولوجيا نصوصًا في الشعر والمسرح والأدب، وحتى المقال السياسي، لكتاب أوكرانيين كانوا ضحايا لما عرف في تلك الفترة من إبادة وتهجير وسجن. وأطلقا على الكتاب تسمية "النهضة المشنوقة". فبات عنوان الكتاب يطلق على تلك المرحلة، معبرًا عن كل آلام واحباطات الأدباء والمفكرين الأوكرانيين الذين عاشوا وماتوا في تلك الفترة.
قبل مئة عام تقريبًا، ومع انهيار الإمبراطورية الروسية، وإعلان استقلال أوكرانيا عن الجسد الروسي لأول مرة منذ قرون، بدأت حركة أدبية قادها الكتاب والمثقفون الأوكران في محاولة منهم لخلق هوية أوكرانية سلافية خاصة، تتمايز بشكل ما عن الهوية الروسية الثقافية والقومية، رغبة منهم في مواكبة التطورات والتبدلات التي طرأت على بلادهم، ومجاراة من هؤلاء الكتاب والمفكرين والشعراء الصحافيين للحراك الشعبي القومي الأوكراني الذي كان يغلي حاملًا بشارة ولادة أمة جديدة، ترسم خطًا أخضر في سهوب نهر الدون، يميز ولا يفرق بين الأخوة السلاف، استفاد هؤلاء المثقفون من سياسة (الاقتصاد الجديد) التي أعلنها لينين مؤسس الاتحاد السوفياتي، في محاولة منه لفتح البلاد اقتصاديًا، وإنعاش التجارة والحرية الفردية قدر الإمكان، فاتحًا الباب لعودة الملكية الفردية التي كانت قد منعت في ظل الاشتراكية التي تمنح الدولة ملكية كل ما فوق تراب الوطن، فبدأ المثقفون الأوكران بتأسيس جمعيات أدبية نشاطات ثقافية ازدهرت بسرعة، ولاقت رواجًا شعبيًا لافتًا في تلك الفترة، بحيث فاق عدد الجمعيات الأدبية والفنية مئة جمعية، صُنف فيها أكثر من خمسة آلاف مثقف وعالم، ولكن كل هذا أجهض في أواخر العشرينيات، حينما تمكن ستالين من الحكم، وألغى السياسة الاقتصادية الجديدة التي أطلقها لينين، معلنًا العودة إلى شمولية إمساك الدولة بكل شيء، بدءًا من الاقتصاد، وانتهاء بالفنون والآداب والعلوم، فكانت النهضة المشنوقة في أوكرانيا أولى ضحاياه، لما تمثله من خصوصية فردية، ونظرة خاصة تجاه الفرد والوطن والمستقبل، فبدأت المحاكمات الصورية التي وصمت عهد ستالين باعتقال مئات المثقفين الأوكران، وإعدام عدد منهم، في مقابل إرسال المئات ممن بقي منهم إلى الغولاج في سيبيريا، ليموتوا هناك ببطء، بفضل أعمال السخرة، ورداءة الطقس التي لا يحتملها إنسان.
اشتدت عملية شنق النهضة حسب تعبير جيرزي جيدرويك بين عامي 1933 و1938، حينما بدأت تهم التخوين والعمالة للأعداء تلاحق الكتاب والمثقفين، خصوصًا عام 1937، وإبان العيد العشرين للثورة الشيوعية، حين تم اعتقال 234 مثقفًا وعالمًا بتهمة العداء للثورة، وأعدم عدد منهم، وانتحر آخرون، واختفى عدد منهم، لكن بعضهم نجح في الفرار من الجحيم الستاليني الذي لاحق الجميع في داخل روسيا والجمهوريات السوفياتية، وحتى في الخارج، عادًا كل من يفكر خارج النسق الذي رسمه فكريًا أو سياسيًا أو ثقافيًا خائنًا يستحق الموت.
بعد بدء الحرب العالمية الثانية، دفنت قصص هؤلاء المثقفين، وغاصت قصص مآسيهم عميقًا أمام أهوال الحرب وعشرات الملايين من القتلى والجرحى فيها، لكن جيدرويك، وشريكه الأوكراني، أعادا إحياء ذكرى هذه النهضة المشنوقة، في كتابهما الضخم الذي يعد أهم مرجع حتى اليوم في ما يخص أولئك الكتاب الأوكران، الذين كانوا يمثلون طليعة قومية للشعب الأوكراني.
تباينت أعمال رواد هذه النهضة من الكتاب والشعراء، بين مدارس فنية وأدبية عدة، أهمها الرومانسية والرمزية، ولكن ما وحدّها هو نقدها الحاد لنظام الحياة القاسي الذي مارسته البلشفية حينما خنقت الروح الإبداعية في جميع المجالات الحياتية، بدءًا من الثقافة، وصولًا إلى الزراعة والاقتصاد، وكان قتل الروح الفردية والمبادرة الإنسانية أمرًا لم يحتمله رواد النهضة المشنوقة، فرفضوا بكل جوارحهم ما يجري من تكميم للأفواه، وعروا مجاعة الهولدومور، التي قضى فيها أربعة ملايين إنسان أوكراني بسبب سياسات ستالين الخاطئة.
ولّدت النهضة المشنوقة حراكًا إبداعيًا لا يزال ساريًا حتى اليوم، حيث نفض الشعب الأوكراني الغبار عن تجارب هؤلاء الكتاب والشعراء، وأعاد الاعتبار إليهم، فتمت إعادة نشر أعمال عديدة لرواد هذا الحراك، وتم تدشين بضع مدارس تحمل أسماءهم، لتكون واحدة من أهم تجارب صناعة القومية المعاصرة، والتي ضحى أفرادها بحيواتهم في سبيل حرية التعبير والفكر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.